الدكتور نجيب روفا سفري
غياب قسري، رماني بعيداً عن زياد الرحباني، ولكنّه كان غياباً. كان مجرّد نفي عن رجل عوّدني الدهشة وساقني إلى ميدان الباطن المختزن بتجارب ومواقف أبكمت الناقضين (وليس النقّاد) والمتعدين على مهنة التحليل، الذين أجّروا أقلامهم، وقسماً يتعدّى التسعين من مواقع أذهانهم، لفئات لا تفقه من الفنّ سوى أنّه مهنة نتعايش معها، وأحياناً، وبكلّ وقاحة، نغوص في التخليل لا التحليل.
مَن أراد أن يغربل زياد الرحباني، عليه أن يكون على الأقل صاحب نظرة لا تمتدّ حتى أنفه فقط، وما أكثرهم في هذا الزمن، الذين لا يرون أبعد من أنوفهم ويضعون أصابعهم كلّها في آذانهم، ويحقنون براعتهم بالأفيون في الحكم على هذا الرجل العبقري.
أعرف أن زياد لا يحب المدح وسيزعل، ولكنه لا يستطيع أن يمنعني من التعبير. فسؤالي الدائم هو لماذا زياد الرحباني فطرة وخبرة ودهاء، يعرف تماماً، ولا يخاف، متى يريد أن يقول كل شيء دون أن يقول شيئاً؟ وكيف يتقن الخروج من الزواريب إلى الأوتوسترادات من غير أن يشعر إلاّ أصحاب الشعور. كيف يكون الزمن هو الزمن، والمكان هو المكان، رغم تراكض السنوات واختلاف الأمزجة واجتياز الأجيال دروب الحياة.
ومن الذين يحضرون إلى حفلات زياد الرحباني، مَن هم أصغر سنّاً من أغانيه التي أنشدها والمسرحيات التي قدّمها في مسرح الأورلي (رحمة الله عليه) أو مسرح جاندارك (والبقاء للأمّة) أو مسرح أريسكو بالاس، أو بيت الدين (أو إن شئت بيت الديك وبعدنا طيبين قول الله) بما ورد فيها من أشخاص وحكايا أضحكتنا بدموعنا، وتطلعات وتوقّعات وأغانٍ.
نعم يا زياد، لقد اختلط الحابل بالنابل، وبقيت الأغنية موجودة عند الذين ما زالت ذاكرتهم بخير، أو عند زياد ولست أدري. كبرنا، ليس سهلاً أن نكون في العشرينيات فنصير في الخمسينيات، لكنّك كبرت على طريقتك الخاصة، وهذه كانت الدهشة التي عوّدتنا عليها، رغم ما سمعت وما قاسيت وكم أحرقت من أعقاب السجائر حين كانت علب الدخان الأصفر تنفد، فتضطرّ لأن تكمل ما بين يديك بأعقاب سجائر بقيت في أمكنة مختلفة!
لتسمح لي السيدة فيروز (سفيرتنا إلى النجوم)، أن نقول لها: زياد الرحباني يا سيدتي، ألف مرة ومرّة جعلك، مطربة جيل بأكمله. أنت أرزة لا تشيخ، ولكن، والحق يُقال: زياد الرحباني أوصلك إلى الجيل الجديد والجديد جداً بعنفوانك وبعزّتك وبهذه الرهبة التي تثيرها فينا، والتي ما فارقتكِ وأنت تغنّين أعمال الرحابنة القديمة وأعمال زياد الرزينة، التي فرح بها أبناؤنا وأبناء أبنائنا. إنّ لهؤلاء اليوم، «السيدة فيروز» كما كانت بالنسبة لنا وما زالت.
إنّ مهرجان بيت الدين، وما صدر من اسطوانات وأغانٍ يردّدها أبناء الخمسة عشر من العمر، هما اللذان يشهدان، لا لأن زياد الرحباني هو ابن السيدة فيروز، فكما قال لي: السيدة فيروز هي أصعب مَن أتعامل معه، والحق معها، فهي أيضاً السيدة فيروز.
أما عن حفلة الأونيسكو في 15 أيلول 2007، فليسمح لي القارئ أن أبدأ بالمغنّية لارا. لارا أدهشتني صوتاً وحضوراً، نغماً وأداءً، عدا عن الراقصة التعبيريّة. ورغم أن «التظاهرة» في الأونيسكو بدأت تطالب بزياد، أكملت لارا بثقة، لم أعهدها قبلاً، وبلغتها الإنكليزية الصافية، أكملت مع طاقم العزف وأنهت وصلتها بنجاح حقيقي، نجاح تستحقّ له الانحناء بكبرياء.
ثمّ لا نستطيع الوصول إلى زياد قبل الشاعر طلال حيدر، رغم أنني لا أرى أن للشعر مكانة في هذه الحفلات. والسبب هو أنّ الشعر وحده فنّ، وخصوصاً أنّ شعر طلال حيدر فنّ جامع لجميع الفنون، وله مكان خاص، لكونه موسيقى ومشهداً وصوراً، وحتّى أنه يكاد يكون توأم الموسيقى في أهميتها وقيمتها كأوّل الفنون في الدنيا.
أنا مع شاعر مثل طلال حيدر، أحبّ أن أسمعه بهدوء، لا بين جماهير. هيهات أن تفهم الشعر، ( جميع الحاضرين بل أكثريتهم).
لم يكن المكان للشعر، بل كان الدور لزياد الرحباني، وهذا ما لا ينتقص من جمالية الشاعر طلال حيدر وقصيدته التي حاول زياد أن يرافقها بالموسيقى.
عجيب أمر هذا «الزياد»! هو لا يحبّ التعظيم، لكنك يا زياد تستحقّه، ولن تمنع أحداً من الإعجاب بك. يكفيك فخراً أنك لم تنزل يوماً عن خشبة المسرح، وهذا يدلّنا على أنك تفهم «اللعبة» تماماً. مَن لا يعرفك يظن أنك تمثّل، ولكنه لا يعرف أنك هكذا في حياتك اليومية؛ تقول جملة، عبارة، ربما كلمة ردّاً على أحد، تصلح لأن تكون مشهداً مسرحياً. هذه صفة لا يتمتّع بها إلاّ القلائل، لذلك نرجو منك أيها الصديق الرفيق أو الأخ أو الزميل، كما تريد، أن تسمح لنا بالتعبيرعن إعجابنا بك.
زياد الرحباني:
أنشدت القديم الذي عمره يفوق أكثر الحاضرين سنّاً. أنشدت الجديد الذي كنّا نراه. أقول كنّا نراه غريباً علينا، نحن ممّن بيّض العمر مفارق رؤوسنا، أنشدت هذا وذاك، فكادت الصالة تنفجر، فهل يوجد بعد مَن لا يسمّيك اليوم فنان الجيل؟
لقد أثبَتَّ أنك قادر على كل أنواع الموسيقى، في كل زمان وفي كل مكان، مع كل إنسان، وأنك تقول كلمتك من دون أن تقولها. الشعب المسكين الذي مشيت معه لا يزال مسكيناً، وأنتَ «محبة من غضب»، هيهات مَن يفهم كلامي أن المحبة تغضب والكرامة تغضب، والمواقف تغضب والانتماءات تتسلّل، ولكن العلمانية لا تتبدّل ولا تتحوّل. وما غلبوكَ، وما أخذوك، بل شُبِّه لهم!