عزمي بشارة
ترقيع على شفير الكارثة

في عام 2003، ألقى بوش في لندن خطابه الشهير الذي أعلن فيه عدم قبول «الوضع القائم» في الشرق الأوسط، وأن الاستقرار هنا(ك) لم يعد هدفاً. كان ذلك إيذانا بافتتاح سياسة الحروب والفوضى. في هذه الأثناء، تلقت السياسات الأميركية بعض دروس التكملة. ومن مظاهرها ذهاب رامسفيلد وتعيين روبرت غيتس.
كتب ديفيد بروكس ( نيويورك تايمز، 19 سبتمبر\ أيلول) عن محاضرة روبرت غيتس في مؤتمر عن مستقبل الديموقراطية في العالم في كلية «ماري أند وليم» في وليامز بورغ. في هذه المحاضرة، قرأ غيتس تاريخ السياسات الخارجية الأميركية كصراع بين «الواقعيين» و«المثاليين»، وكأن هذا التاريخ يتمحور حول سؤال حاضر. هذا النوع من القراءة يحوّل توماس جفرسون «المثالي» إلى جدّ للمحافظين الجدد، ويسحب خيطاً ممتداً إلى فوارق بين الرعيل الأول من الرؤساء: مثالية توماس جفرسون المشتقة من انتصاره لأفكار الثورة الفرنسية التي رأى أنها انتصار للحرية، في مقابل جون آدمز المحافظ الذي رأى أنها حال من الراديكالية غير المنضبطة.
حاول غيتس أن يضع أساساً تاريخياً للتوازن بين «مثالية» الرئيس ونائبه، والواقعية المطلوبة بعد الحرب على العراق. وهو كما يبدو، يرى نفسه مجسّداً لهذا التوازن. ولذلك قرأ تاريخ التدخل الأميركي في الخارج «واقعياً» كتحالف مع طغاة لهزيمة طغاة آخرين، وكتغنٍ بحقوق الإنسان والحرية والتعامل مع أسوأ منتهكي حقوق الإنسان في الوقت ذاته. قال ذلك بصراحة قد تُحرج بعض الليبراليين العرب، وتابع: «ليس من النفاق ولا العدمية الجمع بين الإيمان الملتهب بالحرية وتبني طرق مخلتفة لتعزيزها في مراحل مختلفة»، فهنالك «حاجة لتسويات مع الشر من أجل صنع الخير». وفي مقابلة تلت المحاضرة تابع قائلاً: «لم نحتل العراق من أجل الحرية، بل لإزالة نظام غير مستقر ولأن نظام العقوبات بدأ ينهار، والحرية قد تأتي كظاهرة جانبية مرافقة». ورداً على سؤال: هل كان على الولايات المتحدة أن تهاجم العراق بعد ما نعرفه الآن؟ أجاب غيتس بعبارة «لا أعلم». وهل كان إجراء الانتخابات في السلطة الفلسطينية فكرة حسنة؟ يقول غيتس: «تُخلَطُ فكرة الانتخابات أكثر مما ينبغي مع فكرة الديموقراطية والحرية». إنه يقول عملياً: بإمكان أميركا وحلفائها أن يكونوا ديموقراطيين دون انتخابات...السؤال هو أين المصلحة (الأميركية بالطبع)، هل هي في إجراء انتخابات في دولة ما، أم لا؟ بالنسبة لإيران، قال غيتس إنه يجب استخدام «القوة الناعمة». قال ذلك بعد أن ذكَّر بكيفية استعراض رونالد ريغان للصلابة والتصميم عند إسقاط الطائرات الليبية فوق خليج سِدرا لتعرف كل دولة حدود قوتها، و«لتتعرف إيران على الفجوة بين خطاباتها السجالية، وبين قوة نظامها الفعلية». ويمكن من تفسير معنى مفهوم «القوة الناعمة» (قوة دون حرب شاملة: حصار، عقوبات دولية، عمليات عسكرية) يضاف إليه إجابة غيتس «لا أعلم» بشأن صحة ضرب العراق أن نستنتج ما هو موقفه من الحرب على إيران.
يتضح من كل الأجوبة، أن غيتس على هدوئه ورصانته، مقابل ثرثرة رامسفيلد، «واقعي» يتحول مكيافللي إزاءه جرواً صغيراً. ولكنه يساير رئيسه لكي لا يبدو واقعياً أكثر مما ينبغي. وهو في الواقع يمثل تغييراً في مستقبل السياسة الخارجية الأميركية كسياسة استعمارية واقعية دون مُثُلِ الحرية من خطاب بوش نفسه ، والتي ادّعى المحافظون الجدد تبنيها إيديولوجية للأمبراطورية. هذا للمدى البعيد. أما للمدى القصير، فكرر غيتس مقولة المؤرخ جوزيف إلِِّيس إنه في الوقت الحالي «يرقٍّع» أو «يعجق» أو «يتدبر أمر السياسة لحظياً وذلك على شفير الكارثة». “improvising on the edge of catastrophe.”

هل كانت غزة كياناً صديقاً؟

لا معنى لإعلان إسرائيل غزة كياناً معادياً، لا قانونياً ولا مضموناً. فالقانون الإسرائيلي يشمل عبارات مثل «تنظيم معاد» أو «دولة معادية»...ولا ذكر لـ«كيان معاد». والإعلان بحد ذاته لا يغير وضع غزة في القانون الدولي الذي يلزم إسرائيل تجاهها ما دامت تحاصرها ولا تعترف بسيادتها على حدودها. وحتى لو اعترفت إسرائيل، لا يعترف الشعب الفلسطيني بغزة دولة مستقلة دون القدس ودون الضفة الغربية حتى حدود الرابع من حزيران، ودون حق العودة.
أما مضموناً، فكيف يمكن أن توصف «العلاقات» بين غزة وإسرائيل قبل الإعلان؟ علاقة الواقع تحت الاحتلال بالمحتل هي علاقة عداء، ولذلك لا معنى للقول إن هذا الإعلان هو بمثابة إعلان حرب على غزة. أي حرب؟ وهل كان سلام؟ لقد جرفت المصطلحات الإسرائيلية جزءاً من الشعب الفلسطيني لكي ينفي حال العداء، كيف يمكن أن تمارس المقاومة والرد عليها بالقمع الشامل دون أن تكون هذه حال عداء.
تمهد إسرائيل لخطوات عقوبات جماعية على قطاع غزة، وتجهّز الرأي العام لذلك. هذا هو معنى الإعلان. وقد بدا من تصريحات ليفين وأولمرت أنها تحسب حساب كل شيء إلا رد فعل الرئاسة والسلطة في رام الله، فضلاً عن رد الفعل العربي. فلن تصدر من هناك خطوات ذات معنى، بل إدانة من نوع الإدانات العربية التي لم نعرف حين كنا صبية أنها من ضمن ما يتسع صدر الغرب له من تفهم للعقل البياني العربي والحاجة السياسية الواقعية للكذب... وهو الكذب المفضوح، المتفق رغم ذلك، على الحاجة لترديده.
كيف ترد قيادة شعب معتدلة على خطوات عقوبات جماعية ضد شعبها؟ تدين، ثم تواصل التفاوض مع من يفرض هذه الخطوات، بما في ذلك بشأن نجاعتها، وتحضر التفاصيل لمؤتمر يعلم الجميع أنه إما ألا يتوصل إلى اتفاق أو يحصل فيه إعلان مبادئ تفريطي.
هؤلاء لا يريدون التخلي، ولكن ليس عن السلام، بل عن «عملية السلام». فما يحظى بهذا الدعم والرعاية والشعبية والحماسة على مستوى الأنظمة العربية هو عملية السلام. وهي تحظى بهذا الدعم في حال المشاركين الفلسطينيين، لأنهم يعاملون في كنفها كقادة دولة دون دولة. ومن يحتاج إلى سلام عادل ودولة حين تكفي «عملية السلام». وفي هذا قال ابن خلدون عن ملوك الطوائف الذين يحسبون أنهم ملوك:
مما يُزَهّدُني في أرض أندلس / أسماء معتصم فيها ومُعْتَضِد
ألقاب مملكة في غير موضعها / كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد.
أما الآخرون من العرب الذين ارتفعت شعبية إسرائيل لديهم بعد ارتكابها أفظع الجرائم في لبنان، فيريدون حسماً مع أعداء السلام في المنطقة... كل هذا دون التوصل إلى سلام، فهو بذاته غير مهم إطلاقاً.

الحمد لله، ليس في الأرجنتين

تعامل العراق التاريخي مع قضية فلسطين، تعامل قومي، شعباً ودولة. حتى في عهد نوري السعيد، جرى التعامل مع أعداد اللاجئين الفلسطينيين التي وصلت العراق بطريقة معقولة. تذكرت ذلك أخيراً أثناء قراءة فصول من حياة الكاتب والمبدع الفلسطيني إحسان عباس، وهو يصف وضع أهله اللاجئين من منطقة حيفا في العراق.
في هذه الأيام يقتل الفلسطيني في العراق لكونه فلسطينياً، وأضيفَ لذلك سبب جديد لم يكن ليخطر في باله ولا في كوابيسه، أقصد لأنه سنّي، وربما لأن خطاب النظام السياسي كان مؤيداً لفلسطين. ولا حاجة لإعمال الخيال في شرح الأسباب التي دفعت آلاف الفلسطينيين لتفضيل الإقامة على الحدود في الصحراء، وسط اللامكان، على العودة إلى بغداد. ولكن لم يكن ممكناً إقناع دولة عربية واحدة باستيعاب أعداد أخرى من اللاجئين العراقيين، فلسطينيين أو غير فلسطينيين، مع صعوبة خاصة في ما يتعلق بالفلسطينيين.
وجاء الجواب من البرازيل. سيجري استيعابهم هناك بإذن من الحكومة البرازيلية، بعد مساعٍ قام بها مواطنون من أصول عربية وفلسطينية هناك، في البرازيل. ما كان يعدّ يوماً مؤامرة، أصبح بفضل الوضع العربي عوناً وتضامناً. وهو مقارنة برد الفعل العربي كذلك فعلاً.
طرح في الخمسينيات مشروعان إسرائيليان شبه حكوميين لتوطين الفلسطينيين «مفتساع (عملية) يوحنان» (1950) والثاني، ويسمى «همفتساع هلوبي» (العملية الليبية) (1953). مشروع «عملية يوحنان» من بنات أفكار يوسف فايس الذي أصبح في ما بعد رئيس دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية، وهو صاحب مآثر في المصادرات والحيل الاستيطانية في الضفة الغربية طوال السبعينيات. ورمى المشروع إلى ترحيل الفلسطينيين الباقين في فلسطين المحلتة عام 1948 من الجليل إلى الأرجنتين. هذا ما ورد في رسائل يوسف فايتس، إلى يعكوف تسور، (أصبح وزيراً للزراعة في ما بعد) سفير إسرائيل في الأرجنتين (حزيران 1951). وفشلت الفكرة، بعد أن تبيّن أن الترحيل يجب أن يحصل بالقوة إذا فشل الترحيل الطوعي.
العملية الثانية: أعدّها يوسف فايتس أيضاً، وتهدف إلى توطين الفلسطينيين الذين بقوا في فلسطين واللاجئين خارجها في ليبيا، بمساعدة تجار إيطاليين، ولا حاجة هنا إلى التفصيل.
بعد انتظار سنة في مخيم (عملياً معسكر اعتقال) على حدود صحراوية بين دول عربية، ومن دون مدارس ودون علاج ودون أدنى مقوّمات الحياة الإنسانية، يبدو السفر إلى البرازيل خلاصاً. وقد يكون فعلاً خلاصاً فردياً لفتية وصبية ينتظرهم مستقبل ما ناجح.
إذا كان يوسف فايتس ما يزال حياً، فلا بد أنه يبتسم الآن.
في دول عربية كثيرة لا يتحدثون عن حق العودة، بل عن رفض التوطين... واضح أن المقصود برفض التوطين ليس حق العودة، ولكن يجب أن يضاف أن المقصود هو رفض التوطين «عندهم»، ولا بأس من التوطين في مكان آخر... وليكن البرازيل. أما كيف يخدم التوطين في البرازيل بقاء فكرة العودة مشتعلة أكثر من السكن بكرامة في البلاد العربية، فلا يبدو أن أحداً يعتقد أنه مدين لأحد بإجابة.

ما هي الفريضة بالضبط؟

منذ أن حوّل الاستهلاك والبطر شهر الصيام إلى شهر الطعام، شقّ علينا التخمين: هل الفريضة الدينية هي الإفطار أم الصيام. فحول الإفطار تنسج الهالة، ويكثر البذل والسخاء على المائدة، ومعه يجري التعامل بقدسية، وتكثر بشأنه الفتاوى والتيمنات بالرسول والخلفاء وغيرهم. ولكن حقيقة واحدة لن يسترها شيء في هذا الشهر الكريم: يزداد، بل يتضاعف استهلاك الطعام على أنواعه عند الطبقات كافة. كل هذا يحيي فينا ذكرى المحبة الخاصة لهذا الشهر الفضيل وأجوائه حين كان متواضعاً خاشعاً مثل إيمان الفقراء.
كل هذا يهون أمام استغلال الإفطارات الجماعية سياسياً، وخاصة من طرف المستعمِرين كفرصة للتزلف لنا ولعاداتنا. فالمدخل الاستعماري التقليدي لـ«تفهم الشرقيين» هو «احترام عاداتهم وتقاليدهم». وقد تصنع تقاليد لم تكن قائمة، خصيصاً لتقوية نخبة تقليدية معتدلة تلعب دور الوسيط مع الواقعين تحت الاستعمار، وتمثل هذه العادات والتقاليد في الوقت ذاته. ويرى المسؤولون الإسرائيليون في الأعياد المسيحية مناسبة لزيارة المطارنة والكهنة والمعتدلين من أبناء هذه الطائفة أو تلك في حيفا والناصرة. وهي مناسبة ليتودد هؤلاء، بسماجة تحسب نفسها خفة دم، ببعض العبارات العربية من نوع «كول آم وإنتُ بخير»، وليعلن أولئك ولاءهم للدولة على نمط تعامل المؤسسات الدينية في أسوأ أحوالها مع المستعمِر. وطبعاً هنالك استثناءات بارزة. وهذه هي حال الأعياد الإسلامية. وفي شهر رمضان، يبادر بعضهم لإفطارات جماعية، يحضرها مسؤولون إسرائيليون. فعل هذا أخيراً «صندوق إبراهام» لدعم التعايش (طبعاً المقصود التعايش الذي يباع للمتخلفين، عرباً ويهوداً وأميركيين، كتعايش إسحاق وإسماعيل) إذ دعا لإفطار جماعي، ضيفته وزيرة خارجية إسرائيل، وحضره ممثلون عن عرب الداخل في إعادة إنتاج واجترار مملّين ومهينين لعلاقة المستعمِر بالمستعمَر... وكأن إفطار رمضان يهضم كل شيء.