وهيب معلوف *
يتحدّث علماء الاجتماع اليوم، عن بداية نهاية مفهوم «الفضاء العام» الذي نظّر له الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس منذ مطلع ستينيات القرن الماضي. ويلجأ هؤلاء إلى دليل يفيد بأنّ قدرة البشر على بناء علاقات تضامنية، والتفاهم على المعنى العام للحاجات والمشاكل، لا تزال محطّ جدل وتساؤل كبيرين.
ويعتقد المفكر الأميركي مايكل ولتزر بأن أميركا المتعدّدة الثقافات بشكلها الراهن، تفتقر إلى ثقافة عامّة حيويّة، فيما عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين قد حذّر مراراً من أزمة متسارعة في الحياة العامّة.
ما هو هذا «الفضاء العام» الذي يثير إمكان خسارته المزعومة كلّ هذا الاهتمام والقلق؟
يفترض «الفضاء العام» نمط علاقات يتميّز بخصوصية الأهداف التي يدعو إليها. ففيما تطمح أنماط علاقات الإطار «الخاص» إلى تعزيز طابعها الحصري، يُرى إلى بناء القاعدة المشتركة التي من خلالها تدخل الحاجات ووجهات النظر المختلفة حيّز الفهم المتبادل، في أساس أهداف «العام». ويجنح «الخاص» نحو علاقات مغلقة ذات نزعة حصرية. والأمثلة على ذلك تشمل الجمعيات الأخوية ذات الطابع الإثني، والنوادي الريفية.
أمّا «العام»، فهو ذو رؤية منفتحة واستيعابية تسعى إلى جمع أناس من مختلف الشرائح الاجتماعية. وتقدّم حركة الحقوق المدنيّة الأميركية في الستينيات خير مثال على ذلك.
إنّ تسهيل جهود الأفراد المستقلّين لتحقيق ذواتهم، هو في أساس تطلّعات «الفضاء العام». وهذا الهدف الأساسي يفترض نمطاً من التواصل محكوماً بفرضية أنّ كلّ فرد سوف يُعطى الفرصة ليشرح صوابية حاجاته ووجهة نظره. كذلك يتحتّم على النمط العام من العلاقات، أن يمنح الأفراد المشاركين، الفرصة للعمل لتكون لاهتماماتهم، مشاكلهم وحاجاتهم، معانٍ عامّة تُعدّ جديرة بالاهتمام الفعّال من عموم الجماعة. أمّا المشاركة في «الفضاء العام»، فهي مفتوحة أمام كلّ هؤلاء الذين ينخرطون في عملية من التفكير المتبادل في ما يُعدّ مشتركاً في تطلّعاتهم وتجاربهم وحاجاتهم ومشاكلهم.
لا بدّ لهذه العملية المبنية على الاعتراف المتبادل بما هو مشترك، أن تفضي إلى إعلان خيارات ومطالب ذات أبعاد تطال المجتمع بأسره، وتتطلّب ردّاً سياسيّاً عامّاً.
ولعلّه يمكننا الحصول على صورة أوضح عمّا يمكن أن يترتّب عن خسارة «الفضاء العام»، عبر العودة إلى ملاحظات عالم الاجتماع الشهير ألكسيس دي توكفيل الثاقبة بشأن الفروق البيّنة بين أنواع العلاقات التضامنيّة الحديثة.
ولكونه فرنسياً يزور الديموقراطية الناشئة في أميركا القرن التاسع عشر، دُهش دي توكفيل بالمعنى الفرداني الذي ارتبط بتفسير مفهوم الحرية الإنسانية في «العالم الجديد». فقد لاحظ أنّ مبدأ الفردانية يمكن أن يولّد نزوعاً شديداً نحو تضامن ذي طابع حصري، وهو ما قد يفضي إلى العودة إلى استعمال الجمعيات «أسلحةً» مهمّتها ضمان المصالح الخاصة، وهو أمر كان قد وسم المجتمع الأرستوقراطي تاريخياً.
إزاء هذه الظاهرة، تصوّر دي توكفيل نمطاً من التواصل يسعى إلى التوفيق بين الحقّ الخاص بصفته مبدأ ليبرالياً، والصالح العام بصفته مثالاً جمهورياً. إلّا أنه بقي يحمل خوفاً كبيراً من خسارة فرصة بناء علاقات تضامنية تشاركية، مبدياً قلقه العميق من أفراد «أنانيّين» و«منعزلين» لن يرتبطوا بعضهم مع بعض سوى عبر علاقات قائمة على المصلحة والاستغلال.
إنّ الآمال التي ألهمت التحذيرات المتشائمة التي أطلقها عالم الاجتماع الفرنسي، تبدو اليوم كأنّها قد تحطّمت في ظلّ نجاح مشروع نيو ليبرالي يهدف إلى تأسيس مبادئ اقتصاد السوق، بصفتها حقائق تحكم كل الحياة الاجتماعية.
إنّ اجتياح قيم السوق لمساحات من الحياة الاجتماعية والسياسية، حكمتها في السابق أنواع أخرى من الأولويات والتطلّعات، ليس بجديد في تاريخ المجتمعات الرأسمالية. غير أنّ كثيرين يعتقدون أن جديداً نوعياً يتشكّل اليوم في ظلّ العولمة. ثمّة من وصف النيوليبرالية بأنها «الحلم بسوق من دون أية حدود»، إلا أنه من الخطأ مقاربتها على أنها مجرّد خطاب ايديولوجي، فهي تتعدّى ذلك بوصفها «مشروعاً سياسياً يطمح إلى بناء واقع اجتماعي يدّعي أنه موجود أصلاً» بحسب تعبير توماس ليمكه.
ففي ظلّ هيمنة أحادية المشروع النيوليبرالي، تتسلّل قيم السوق لتفرض نفسها معياراً وحيداً نستطيع من خلاله برهنة صوابية أفعالنا وعقلانية مشاريعنا. وفي القرن التاسع عشر، رأى كارل ماركس أنّ عمليات التسليع في ظلّ الرأسمالية، تكوّن عائقاً أمام المشاركة الكاملة للبشر في الثراء المتراكم. ويرى نقّاد النيوليبرالية اليوم، أنّ مقتضيات التسليع تأخذ تدريجاً مكان فكرة «الرسالة المدنيّة» التي دعت إلى توفير الخدمات العامّة مثل التربية والصحّة. يتمّ كل ذلك عبر تعميم «روح طيّعة» تقف في وجه أيّة تفاهمات أو آراء بديلة وتنتج نفسها باستمرار عبر الانتشار والنفوذ الهائلين لمراكز السلطات المالية. وتظهر أوضح تجلّيات هذه العملية، في آليات عمل وسائل الإعلام المعاصرة. ويرى نعوم شومسكي أنّ تقنيات الإعلام التي أشار في نهاية الثمانينيات إلى إسهامها في «صناعة الرضى» الشعبي، لا تزال تؤدي دوراً فعّالاً. وفي هذا الاطار، يبقى صالحاً ومهمّاً النقد الذي وجّهته مدرسة فرانكفورت الفلسفية إزاء الطابع غير الديموقراطي لوظائف الدعاية المعتمَدة من شركات الإعلام. وفي السياق، تنبّأ ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو بأنّ شركات الإعلام الكبرى تتعامل مع جمهورها، لا بصفتها مجموعة أفراد ذوي قدرة على النقاش والمحاججة الرصينة، بل كتلة من المستهلكين المنعزلين لـ«رسائل» يُعاد تعليبها بغرض إعادة إنتاج علاقات السلطة.
وإذا كان معظم منتقدي النيوليبرالية يتوجّسون اليوم من كون منطق السوق قد فرض نفسه واقعاً جديداً على عصرنا، فإن هابرماس لا يزال متمسّكاً بثقته بالطموحات الديموقراطية لـ«الفضاء العام». فالدفاع عن الآمال المنبثقة من التراتبية المؤسّساتية للحداثة، كان دائماً من الأهداف الأساسية لهذا «العام». ويصرّ الفيلسوف الألماني على فكرة أنّ العزم على إحياء القدرات الكامنة وغير المنجزة للميراث الليبرالي الديموقراطي، لا ينطوي على أيّ حنين ماضوي، بل هو مجرّد محاولة لطرح مقاربة نقديّة لميراث مهدّد، وهي بمثابة نقطة الانطلاق لبناء مستقبل أفضل.
إلى جانب ذلك، يرى هابرماس أن لإنجازات الحداثة معاني تحتمل تأويلات متعدّدة، وهو في ذلك يبتعد كليّاً عن التشاؤمية المفرطة التي عُرفَت عن أستاذه ثيودور أدورنو. فالحداثة بالنسبة له، «رحلة مبهمة»، وقد أعطانا كل من هوركهايمر وأدورنو، تحليلاً لأحد مساراتها فقط. ورأى الرجلان أنّ العقلانية التي أطلقها عصر الأنوار الأوروبي ـــــ المنطلقة من افتراض أنّ البشر يصنعون تاريخهم ويحدّدون مصائرهم بأنفسهم عبر السيطرة على مقدّرات الطبيعة ـــــ قد تحوّلت من كونها أملاً في تحرير الانسان، إلى كابوس يعقلن القمع والطغيان، ويعزّز سلطة الدولة عبر استخدام العلم والتكنولوجيا.
ولا يبدي هابرماس اعتراضاً على الصورة التي رسمتها مدرسة فرانكفورت للنتائج «البربريّة» لعالم أضحت فيه القدرة على السيطرة العقلانية، صنواً لتدجين الأصوات المعارضة وقمعها من السلطة. غير أنّه في موازاة ذلك، يشدّد على أنّ إخضاع مستقبلنا ومصائرنا للعقلانية، إنّما يعني أيضاً مستقبلاً تسيّره إراداتنا الذاتية، وقد تكوّنت عبر عمليات من التأمّل النقدي، والنقاش العميق للخيارات، وأخيراً الحوار الهادف لتقريب الآراء.
في المقابل، يأخذ بعض منتقدي هابرماس عليه، أنه «شديد المحافظة» من حيث إعطاؤه الأولوية لإنقاذ الإنجازات المؤسّساتية للديموقراطيات الليبرالية. أمّا البعض الآخر، فيرى أنّ دعوته إلى إعادة إحياء ميراث عصر الأنوار، إنّما تنطوي على سياسة مبنيّة على الإجماع والتوافق والمصالحة، الأمر الذي يتعارض مع القواعد السليمة للديموقراطية.
لكن في مقابل كلّ ذلك، ترتفع اليوم أصوات متعدّدة ومتناثرة تدعو إلى إعادة إحياء «الفضاء العام»، معتبرة أنّ محاولة الخروج من بين مطرقة قوى السوق وسندان السلطة، تبدأ بإنقاذ المخزون الديموقراطي لعصر الأنوار وإعادة تأسيسه.
*باحث لبناني