عبد الإله بلقزيز*
ثمّة الكثير ممّا يثير الانتباه في شخصيّة القوى التي تطالب الدولة في البلاد العربية، بالكفّ عن التدخل في الميدان الاقتصادي، أو بـ «تحريره» من سلطانها. لم تنشأ هذه القوى ـــــ في القسم الأعظم منها ـــــ في بيئة الإنتاج والعمل الاقتصادي، بصفتها فئات أو طبقات وراءها تاريخ من الاستثمار الخاص، أو ذات سلطة اقتصادية حقيقية في المجتمع على نحو ما كان عليه دائماً أمر البرجوازيات في المجتمعات الغربية الحديثة والمعاصرة؛ بل هي قوىً وفئات حديثة العهد بالتملُّك والاستثمار، لأنّها نشأت في أحشاء الدولة وفي أحضان القطاع العام، ونمت مصالحها الفئوية داخل بيئة الفساد السياسي والإداري والمالي، مستفيدة من غياب مؤسّسات الرقابة النيابية والإعلامية والشعبية. ثمّ ما لبثت أن تراءت لها الفرصة للانقضاض على بقايا سلطان الدولة الاقتصادي، ووراثة أملاكها تحت عنوان الإصلاح الاقتصادي وإطلاق المبادرة الحرّة، واقتصاد السوق والمنافسة.
وقد أذعنت الدولة لمطالب هذه الفئات أخيراً، تحت ضغط سياق اقتصادي وسياسي عالمي، من جهة، ثمّ بسبب نفوذ تلك القوى في الدولة التي هي منها، من جهة ثانية، فبدأت ببيع أملاكها وأملاك الشعب لهذه القوى الداخلية الجديدة المسلّحة بالدعم الخارجي!
لا يتعلّق الأمر في هذا التعيين بالقوى التقليدية الرأسمالية العربية، أي بتلك التي كانت دائماً ـــــ منذ ميلادها الحديث ـــــ مرتبطة بنشاطات تجارية وصناعية وخدماتيّة في عصر القطاع العام، وسيطرة الدولة على معظم قطاعات الإنتاج (أعني البرجوازيات التجارية والزراعية والصناعية)، بل يتعلّق بفئات كوّنت رأسمالها من النهب والصفقات والعمولات والشراكات المموّهة مع المستفيدين من إقطاعاتها الإدارية، ولم تكوّنه بالاستثمار في قطاعات الإنتاج والخدمات شأن التي سبق ذكرها. إنها فئات طفيلية نمت سريعاً في بيئة داخلية متعفّنة، وكانت هي نفسها في أساس تعفّنها بمقدار ما كانت ثمرة من ثمراتها المرّة. ولقد قدّمت اسهاماتها في إضعاف الدولة وفي إضعاف الاقتصاد معاً، ونتائج تلك الإسهامات ممّا يمكن اليوم معرفته من قراءة مشهد الأوضاع الاجتماعية القائم، وما فيه من مفارقات صارخة: الغنى الفاحش والفقر المدقع مثالاً.
قد يحين زمنٌ تحاسَب فيه هذه القوى الطفيليّة على ما اقترفته أياديها في البلاد والعباد، ضدّ الدولة والاقتصاد. لكنّ هذا الأمر مستَبعَد اليوم، وذلك لأسباب عدّة: فالزمن اليوم زمنها، لأنّه زمن وحشيّة رأسمالية زحفت على الكون كلّه في العقد الأخير من القرن الماضي، وما برحت تزحف. كذلك لأنّه عصر الإخفاق الاقتصادي العربي الذي أنتج هذه الفئات الطفيلية في امتداد إنتاجه الفقر والتهميش الاجتماعي والفوارق الفاحشة بين الطبقات. وأيضاً لأنّ الشّكل الجديد من الرأسمالية التبعية في طور العولمة، يقضي بالمزيد من تبديد القطاعات المنتجة (الزراعية والصناعية) وقواها الاجتماعية (العاملة والمالكة) لمصلحة تركيز العمل والاستثمار في قطاعات طفيليّة أو غير منتجة ومدرّة للربح (لأنها ريعيّة).
ولم يكن مدعاة إلى العجب، أنّ أكثر نشاط هذه الفئات الاستثماري، يتركّز في قطاع العقارات واقتصاد الرضا (السياحي) وخدمات تجارة الرفاه، هذا من دون ذكر نشاط المضاربات ذي الأرباح الخرافيّة السريعة سرعة صعود هذه الفئات، والأنشطة غير المشروعة في الاقتصاد الموازي: تجارة السّلاح والمخدّرات وما شاكل ممّا تفضحه مشاريع تبييض الأموال.
غير أنه ليس من سبيل صحيح إلى محاسبة هذه القوى الطفيلية وأدوارها التدميرية، إلاّ بمحاسبة الدولة والنظام السياسي في البلاد العربية على تفريخهما هذه القوى التي انقلبت على الدولة، وباتت تنهش من بقايا لحمها وعظمها.
ومحاسبة الدولة تعني شيئاً رئيساً: نقد سياساتها وأدائها في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي بحسبانها السياسات التي وفّرت البيئة الداخلية المناسبة لنموّ هذه الحالات الطفيليّة، وتضخّم مصالحها بإفراط أعجز الدولة ـــــ عند حدود انفلاته ـــــ عن أيّ ضبط أو ردع.
ليس هذا مجال التفصيل في تحليل الديناميّات المختلفة التي قادت المشروع التنموي للدولة في البلاد العربيّة (سواء في صورته «الاشتراكية» أو في صورته «الليبرالية») إلى الإخفاق المدوّي ثم إلى الفشل المروّع؛ غير أن التأمّل في مشهد الفساد المعمّم في إدارات الدولة وفي القطاع العام، والتأمّل في سوء التخطيط وما شابه من ارتجال، معطوفاً على التصرّف المطلق في المال العام والموارد من دون رقيب أو حسيب، وفي غيبة مؤسّسات الشعب وسلطتها الرقابية، كلّ ذلك وسواه، يقدّم مادّة دسمة لتحليل مجرى السياق الذي انتهى بالدولة إلى ذلك الإخفاق الاقتصادي الذي أتى يعلن عن إفلاس مؤسّساتها الاقتصادية، وعن عرضها للبيع بأبخس الأثمان الماديّة والمعنويّة!
غير أنّ هذا النقد لا يستقيم من دون حساب حصّة العوامل الخارجية في المسؤوليّة عمّا لحق الدولة من وهن، وعمّا أصاب سلطانها الاقتصادي من تآكل وضمور. من الصحيح تماماً أن يُقال «إنّ تلك العوامل الخارجية هيّأت لفعل تلك العوامل الخارجيّة بيئة مناسبة لكي يكون تأثيره ناجعاً، وإنّها ـــــ بسبب التعفّف الذاتي ـــــ لم تبدِ ممانعات حقيقيّة لضغوط الخارج عليها». غير أنّه من الصحيح أيضاً، أن يُقال إنّ التوازن كان مفقوداً بين قوّة الضغط الخارجي الهائلة، وبين قدرة الدفاع الذاتي. وهذه حقيقة تكاد تكون عامّة لسائر دول العالم التي كانت عرضة لذلك الضغط منذ العقد التاسع من القرن الماضي.
إن أيّ قراءةً لإخفاق الدولة في المجال الاقتصادي، لا بدّ أن تلحظ الحقائق الجديدة التي نشأت، منذ ربع قرن، من قبيل عودة الليبرالية المحافظة إلى السياسة الغربية (بدءاً بالحقبة الريغانية ـــــ التاتشرية) وعودة الرأسمالية الوحشيّة في امتداداتها، كذلك الأدوار الأمبراطوريّة الجديدة التي باتت تؤيّدها المؤسّسات النقدية الدولية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي...) في تقرير مصائر دول وشعوب، وفي رسم سياساتها الاقتصادية وإملائها على الحكومات في شكل توصيات برسم التنفيذ الإجباري (وكلّها سياسات تقود إلى تفكيك سلطة الدولة على الاقتصاد)؛ أخيراً، تجدر دراسة مفاعيل العولمة في بقايا الدولة وسيادتها الاقتصادية، أي فهم الديناميات المختلفة التي قادت الدولة إلى حتفها الاقتصادي.
ما الذي يبقى للدولة بعد أن تنسحب من الميدان الاقتصادي؟ بل ما الذي يبقى للمجتمع بعد ذلك الانسحاب؟ إن التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي، اللذين بهما تُبنى الأوطان وتقوم الدول، لا يتحقّقان إلاّ في كنف دولة تنهض بالتنمية وتحمي الحقوق الاجتماعية. إذا توقّفت مؤسّسات الدولة عن أداء هذا الدور، فانتظر الشرّ المستطير. ماذا يحدث اليوم غير ذلك؟!
* كاتب عربي