ماجد الشيخ *
تصدر «أفكار» التكفير، وما يترتّب عليها من عنف إرهابي أعمى عن أزمة، بل أزمات عميقة، لدى مجموعات فقدت كل إمكانية بقيام أي نوع من التماثل أو التكيّف مع واقع مجتمعاتها أو شعوبها وحتى عائلاتها. فكان خروجها من بوتقة الانتماء الجامعة تلك، إيذاناً بالخروج عن كلّ رشد وكل عقلانية، وتجاوزاً للمنطق وابتعاداً عن الانسجام أو الاحتكام للعقل. بل إنّ العقل التبسيطي الساذج الذي يحكم أرباب هذه الظاهرة، ويدفع بهم إلى مجاهل غيبوبة من عتم الظلام المطلق، لا ولن يعينهم إلا في رؤية ذواتهم وسط شبكة عنكبوتية من الأعداء القريبين منهم والبعيدين.
إنّ عقلاً كهذا لا يقبل التحاور، بل هو في الأساس لا يقبل الحوار مع مختلف، إذ كلّ مختلف عدوّ، وكل عدوّ ينبغي استئصاله عبر مواجهته بالعنف الإرهابي الهادف إلى القتل، وإن لم يفلح، فبالانتحار وقتل النفس مع الرغبة بقتل أنفس أخرى هي المشار إليها على أنها العدو.
روّاد هذه الظاهرة التكفيرية وزبائنها يريدون حشر كل المريدين فيه: فضاء التكفير والعداء للآخر، كل آخر خارج تنميط العقل التبسيطي وسذاجة الفكرة التي تصدر عنها حلقة الفسطاط والقلعة المحاصرة. لذا لا جامع وطنياً أو قومياً يمكنه أن ينظّم عقد روّاد هذه الظاهرة التكفيرية وزبائنها، فبالقدر الذي تنطلق منه فكرة التكفير واتّهام الآخر على أنه العدو، بالقدر الذي تتحوّل الفكرة ذاتها إلى وهم لا يستطيع العيش إلا خارج السياق المحلي أو الوطني أو القومي، لتضحي فكرة عابرة، معولمة، تضع منظّريها وروادها وأصحابها بالأساس خارج أي همّ أو قضية، سوى هم وقضية التكفير واستعداء الآخر، بل كلّ الآخرين الذين يقفون موقف المستنكر لظاهرة تستحق الاستنكار بامتياز، كونها لا تصدر عن أي همّ وطني أو قومي، علاوة على بعدها عن أي همّ ديني مشغول بروح التقوى والصلاح والإصلاح ومعاداة الاستبداد الذي تكرّسه الظاهرة كأوضح ما يكون التسلّط.
وإذا كانت الأمبراطورية الأميركية قد أعلنت عن فوضاها «الخلاقة» المدمّرة للنظام الدولي، فإنّ أمراء الخلافة التكفيرية، وإذ يعلنون عن فوضاهم المدمرة والهادمة للوحدة الوطنية في كلّ بلد دخلوه أو أدخلوه في مجالهم المغناطيسي الجاذب للتفتيت السياسي والمجتمعي والعائلي، وتذرير الدول والسلطات واقتسامها وإدخالها حظيرة هذا الفسطاط أو ذاك، فإن التبادلية الفوضوية «الخلّاقة» التدميرية لفسطاطي الإرهاب الأمبراطوري الدولي المعولم والإرهاب المحلّي العابر في بلداننا العربية، تكون قد أكملت أو تسعى لاستكمال دورتها الوحشيّة الإجرامية، في نقلنا من مجال الوضوح الفاقع للمفاهيم، إلى مجاهل الظلام الكامل لتلك المفاهيم، وخلطها وتشويهها وإعادة تصديرها، في ظلّ سيادة أجواء قد تؤدّي بالمجتمعات والشعوب والدول، إلى فقدان مناعاتها الوطنية، والكثير من الأسس التي تمكّنها من مواجهة النخب التي أضحت تلك الظاهرة تجارتها الرائجة.
ولذلك، ما عاد ممكناً معالجة الأسباب التي تؤدّي إلى الإرهاب في عالم غير متوازن، يتيح للقوى الكبرى المهيمنة، كما وللاحتلال أن يمارس ما يحلو له من ممارسات إرهابية، في ظلّ اختلاط المفاهيم وصراعاتها واصطراعاتها، وسط حاجة الشعوب والقضايا إلى التمييز الحاد والواضح بين المقاومة والإرهاب، تلك التي باتت تشكّل مطلباً راجحاً ووازناً على حساب الخلط الفاضح والمتعمّد بينهما.
وفي هذا الصدد تتأكّد يوماً بعد يوم، إلحاحية حاجة مجتمعاتنا العربية ومثيلاتها من مجتمعات تعاني نفس المعضلات، إلى مقاومة الإرهاب (كل أشكال ممارسة الإرهاب)، بدءاً من إرهاب الدولة أو الدول المهيمنة وحلقاتها الوسيطة من دول وأنظمة تسلّطية وأجهزتها الأمنية والقمعية، وصولاً إلى إرهاب المجموعات المتطرفة التكفيرية، وهي العامل الرئيسي على تمييع مفاهيم الصراع داخل المجتمعات الوطنية، وتشويه أوجه نضالات الشعوب السياسية والاجتماعية والوطنية ضدّ الاحتلالات الأجنبية، كما وضدّ أنظمة الاستبداد والتبعية.
ولهذا، يمكن القول إن محرّضات الإرهاب، لا تكمن لدى جانب واحد من جوانب صراعات النفوذ والهيمنة، تلك السائدة اليوم في عالم ما بعد الحرب الباردة. إن تلك المحرضات تكمن في مسوخ الأفكار والمفاهيم وتعبيراتها المصلحيّة والمنفعية والأداتية، وهي تتحوّل إلى دوغما أيديولوجية، كما وفي الممارسة العملانية لتلك «الأفكار» المسبقة عن الآخر. فأفكار التعصّب الديني والتطرف القومي الشوفيني، إنما قادت وتقود إلى الإرهاب فكرةً وممارسة، كما أن «الأفكار» التي توالدت منها سياسات الاستشراق قديماً وسياسات الهيمنة والاحتلال وفرض الرؤى الأحادية ورؤية النرجسيات لذاتها راهناً، إنما تقود هي الأخرى إلى الإرهاب كممارسة أكثر عملانية ضدّ آخر يجري خلقه وتجسيده بصورة عدوّ ينبغي مواجهته، قمعه وإرهابه واستئصاله.
وهنا تحديداً، تقع النرجسيات الذاتية في بوتقة التنميط الهروبي، في محاولة تصوير واقعة أن المجتمع واحد في خضوعه لنمط وحيد في شكله وجوهره وسلوكه ومفاهيمه وقيمه وأخلاقيّاته، وحتى استخدامه لتعابير تتعدّد دلالاتها، أو محاولة تصوير الثقافة وكأنها واحدة في نمطيتها، رغم سيادة مناهج التأويل والتفسير، وتحميل المحمولات ما لا تحتمله من حوامل، لا شأن للنص أو النصوص بها، كون هذه الأخيرة تتعدّد مدلولاتها بتعدّد مفسّريها ومؤوّليها، دون أن تبلغ أي دلالات قطعية مطلقة لدى فريق أو تيار من هنا أو هناك، في إطار الدين الواحد أو الطائفة الواحدة، وربّما المذهب الواحد أحياناً.
إنّ ما يجري في عالمنا اليوم من صراع ظاهرات معولمة، يحمل أكثر من طابع التأكيد بأنّ العولمة الراهنة، وانطلاقاً من طبيعة القوى التي تقودها، لا يمكن لها أن تنتج أو تؤسّس لعولمة إنسانية، تمتلك قواعدها ومعاييرها وقيمها وأخلاقياتها، وآليات ووسائل اشتغالها في ظل من يتحكّم بها اليوم من قوى مناهضة للإنسانية، ومضادة لكلّ إسهام خلّاق في إبداع حضارة إنسانية مشتركة، قائمة على قواعد الانضباط للروح الاجتماعية، المحكومة لذاتية مشتركة، في تواصلها المعرفي والثقافي والفكري والإنتاجي، كونها الدافع الأساسي لحوامل التقدّم الإنساني في بعده الاجتماعي المحلي، وفي أبعاده المماثلة على الصعيد الدولي، حيث باتت الصراعات الأيديولوجية واحدة من صراعات الهوية الأكثر أدلجة، ومن داخل الهوية ذاتها، ولكن الأكثر هشاشة في انحيازاتها لأجزاء من هذه الهوية أو تلك.
ويعني ذلك، أنّ تشظّي الهوية أو تشظية الهويات اليوم، أضحى ملازماً لتطوّر معاكس، ينحو باتّجاه الارتداد إلى عناصر بدائية وقبلية في التكوينات السياسية أو الدينية أو المجتمعية و/أو الثقافية.
ولهذه الأسباب، فإن وعي وإدراك ذاتية الآخر وآخرية الذات في الوقت عينه، هما وعي وإدراك معكوسان، طالما أنّ الذات ليست معزولة عن الآخر. وهذا الأخير ليس معزولاً عن ذات أخرى تكمن داخله في تواصلها مع آخر خارجه.
إنّ إحدى السمات المشتركة في تاريخ المعارف والأفكار، كما وفي تاريخ المجتمعات البشرية وثقافاتها، أنه لا يمكن الدمج أو الإلغاء بين ذاتية «الأنا» وآخرية الذات، أو بين الذات الأخرى و«الأنا» الآخر؛ فكلانا ذات وآخر في الوقت عينه، ما يعني أنه لا بدّ وعلى الدوام، من توافر الفضاء العام للتواصل، وقيامه على قواعد ثابتة ومتغيّرة من جدل «الأنا» والذات و«الأنا» والآخر، والآخر والذات والذات الأخرى في دوائر مفتوحة لا تلغي واحدتها الأخرى، كشرط لعدم انتفاء وجود الذات ووجود الآخر، وذلك دونما حاجة لافتعال صراعات ومنازعات المفاهيم المغلقة والمطلقة في تمترسها خلف قناع «الأنا» الأيديولوجي، أو الذات الأخرى الأكثر أدلجة في نظرتها للآخر المغاير ثقافة وفكراً، شريطة الابتعاد عن أسطرة المفاهيم، بل وأسطرة الآخر من طريق «شيطنته» والحكم عليه بإقصائه وتهميشه، واستعباده وإذلاله، وهذا هو منطق المفهوم الاستعماري في سعيه المحموم لإخراج الآخر من فضاء المشترك الإنساني، كما هو كذلك منطق المفاهيم التخوينية سياسياً، والتكفيرية دينياً، في انعزالها وانفصالها وخلق دوائر مغلقة حول ثقافة ومعرفة غير علميّتين وفكر أكثر أدلجة، وهي دوائر تناهض العقل قبل مناهضتها لأي شيء آخر خارج تنميطاتها التقليدية.
وفي الوضع العربي تحديداً، وفي مواجهة الغرب والاحتلالات الأجنبية (فلسطين/ العراق) ومحاولات فرض أشكال من الوصاية الاستعمارية (لبنان/ السودان) وتحديات العولمة، وأزمات التنمية والفقر وقضية الحريات والاستقلال والسيادة الوطنية، لسنا إزاء أزمة واحدة فقط. إننا إزاء أزمات تكوينيّة، لا يمكن اختزالها في تخلّف البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية. إننا إزاء تخلّف نخب هذه البنى تحديداً، من حيث القطيعة المعرفية في تجربة هذه النخب على كل مستوياتها. فنرى قطيعة شاملة، نسفت كل أساس مادي كان يمكن البناء عليه، على قاعدة التراكم المعرفي، أو التراكم العملي للتجربة: نحن أمام أزمة استمرارية وصيرورة التجربة نطاقاً عاماً للاشتغال في إطارات العمل السياسي (سلطة ومعارضة) والحزبي، الاجتماعي والثقافي/ المعرفي.
إن السلفية في بلادنا، ليست دينية فقط، بل هي مجموعة من سلفيات دينية وسياسية واجتماعية وثقافية، تجمع على رفض كل حداثة ممكنة ومتاحة من داخل النطاق الوطني/ القومي/ الجهوي/ الأممي، هي سلفيات تواجه تحديات الحداثة بأسلحة عتيقة، منغلقة، معزولة في قلعة خارج نطاق التاريخ، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لدكّ قلاع الغرب وتحديات حداثته، بذات الأسلحة التي أتاحت له التقدّم وبناء حداثته، ليس انطلاقاً من ذاته الاستعلائية الإقصائية في انغلاقها وعزلتها وتمركزها، بل إستناداً إلى خبرة التراكم المعرفي لأقسام واسعة من البشرية على اختلاف ثقافاتها وتجاربها وخبراتها السياسية والاجتماعية على مرّ القرون منذ ما قبل عصور التدوين الأولى وحتى العصر الحديث.
إن قدرتنا على تحويل ثقافة التسامح والتعدّد، ثقافة الحوار والديموقراطية إلى ثقافة مجتمع متحضّر، تشكّل العامل الحاسم في إمكانية سيطرتنا على الغريزة، وعلى القوة من أن تتحوّل إلى همجية جديدة. وذلك هو بالضبط مأزق وعلّة قوى التكفير الديني الإرهابية، كما هو مأزق وعلّة قوى الهيمنة الأمبراطورية الأميركية، في تحوّلهما إلى وحوش ضارية، ليس في مواجهة الواحد منهما للآخر، بل في مواجهة الشعوب والمجتمعات وثقافاتها وقضاياها. وفي هذا السياق، لم تسلم مجتمعات الغرب ذاتها من قوانين قمعية بدأت تحدّ من حرياتها، كما لم تسلم مجتمعاتنا العربية من شرور وإرهاب جماعات الإرهاب المحلّي والمعولم على حدّ سواء. إنها الحرب الهمجية الثالثة، تلك التي تفرض على عالمنا اليوم، خروجاً عن كل أطر النزاعات والمنازعات والصراعات والحروب الواضحة، باتّجاه أطر أكثر غموضاً، وأشدّ تداخلاً، وأكثر تشويهاً لطبائع الصراع، وقد غدت موضوعات الصراع أو الصراعات أكثر من أن تُحصى، بعد أن كانت المفاهيم قد تمحورت في السابق، في أطر أكثر وضوحاً وأكثر
تحديداً.
أما الآن، فإنّ ما يجري يشكّل نقلة نوعيّة، باتّجاه تمييع وتشويه تلك المفاهيم، وسلبها ومصادرة وضوحها ومحدّداتها وخصوصياتها بل واحتكارها.
* كاتب فلسطيني