strong>هيفاء زنكنة *
قالت حكومة الاحتلال الرابعة بأنها ستراجع كل التراخيص الممنوحة لما يسمى شركات التعهدات الأمنية التي تعمل في العراق. إلا انها سرعان ما تراجعت عن قرارها المحاط بالغموض. وكان عناصر تابعون لشركة «بلاك ووتر» للتعهدات الأمنية قد أطلقوا نيران أسلحتهم عشوائياً على المارة في حي المنصور ببغداد، ما سبّب مقتل 11 عراقياً وعدداً أكبر من المصابين ممّن صادف وجودهم في المنطقة أثناء مرور قافلة مسؤولين أميركيين كبار وحرّاسهم الشخصيين من شركة الحماية، المتعاقدين مع وزارة الخارجية الأميركية.
لقد تعرض المواطنون العراقيون في سنوات الاحتلال، إلى مئات الجرائم المماثلة من قبل شركات الحماية الخاصة، ومعظمها أميركي وبريطاني. هذه الشركات هي عماد جيش المرتزقة الذي يوازي بعدده وعدّته جيش الاحتلال نفسه، أي حوالى 180 ألف مقاتل مدجج بالسلاح، يرتدون الملابس العراقية المدنية في الغالب، ويسيطرون على مواقع دوائر الحكومة السابقة أو بيوت المهجرين في كل المحافظات، أو يديرون سجوناً رسمية أو سرية، أو يقومون بحماية مَن بقي من الدبلوماسيين والمدنيين الأجانب العاملين مع قوات الاحتلال، وكذلك التنكيل بعناصر الحماية التابعين لزعماء حكومة الاحتلال العراقيين أنفسهم في أحيان كثيرة. وعلى الرغم من ذلك، فإن حكومات الاحتلال العراقية المتعاقبة كانت تتصرف تصرّف العذراء الخجول، فتتستّر على الجرائم مخافة إغضاب سادتها. فما الذي تغير ليدفع حكومة الاحتلال إلى إطلاق صرخة الاحتجاج ثم بلعها؟
ما تغيّر هو ليس الحرص على المواطن الذي لا يحق له السير في شوارع عاصمته، لأن أولوية السير والحركة واستنشاق الهواء هي لعسكر الاحتلال ومستشاريه ومرتزقته، بل هو استشراء الصراع المميت بين «حراميّة» حكومة الاحتلال، على اختلاف طوائفهم وقومياتهم. وكما هو معروف، فإنّ «الحرامية» إذا اختلفوا افتُضحت السرقات. فالصراع المباشر بين القوى والأحزاب المنخرطة في ما يسمى العملية السياسية، وصل حد التنافس، كل على حدة، للاستيلاء على غنيمة المنصب والاستثمار وعقود النفط والإعمار. ومن البديهي أن يستعرض المتنافس على هذه المكاسب قدرته على إرضاء السيد المحتل بواسطة تسجيل نقاط الفوز على منافسيه. وإن كان يجب الاعتراف بأن حكومة المالكي بذلت، والحق يقال، أقصى مساعيها لإرضاء المحتل، منذ إبعاد الجعفري كمرشح أوّل لمنصب رئيس الوزراء، وحتى خطبة الوعود الوردية في الكونغرس الأميركي، مروراً بالاستقبالات المفاجئة لكل مسؤول أميركي، مهما كانت أهمية منصبه، يرغب بالتقاط صورته، كما في حدائق الحيوان، بجانب المالكي والطالباني والهاشمي والبارزاني. إلا أن الإدارة الأميركية لا تحترم الضعاف من العملاء، وخاصة أن هناك من يعرض عليها في سوق المناقصات عرضاً أفضل. وتشير الأجواء المعقدة إلى أن الإدارة الأميركية على وشك استبدال عقدها مع المالكي مع جهة تقدمت بعرض أفضل لخدمة مصالحها.
لذلك استجمعت حكومة الاحتلال الرابعة كل ما لديها من قوة، وهي في أيام الاحتضار، لتعضّ اليد التي نصّبتها على كراسي المحاصصة الطائفية باسم «بناء العراق الديموقراطي الجديد»، ولاستعادة شيء من القبول أو العطف بين من بقي من السذّج ضمن قواعدها الاجتماعية المنكمشة بسرعة. واتخذت العضة شكل التصريح عن التراخيص الممنوحة لشركات التعهدات الأمنية. الهدف إذاً تحقيق بعض النقاط السياسية ضد الأحزاب المرتدية رداء التقية السياسية المقيتة، والمتأرجحة بين ما يسمى البرلمان والحكومة وخارجهما، على أمل بيع نفسها للمحتل الأنجلو ـــــ أميركي ـــــ الصهيوني، بديلاً فاعلاً لحكومة المالكي.
لقد أرادت حكومة الاحتلال كسب دعم المواطنين المهمّشين واحتواء الغضب على طائفية الحكومة التي فرّقت العراقيين في أرجاء المعمورة، وكلّفت المواطن العراقي ثمناً غالياً وصل، بالإضافة إلى تخريب بلاده، حد الإبادة الجماعية. فقد وصل عدد الضحايا من المدنيين، وحسب آخر الإحصاءت، إلى ما يزيد على مليون شهيد، أي ما يعادل شهداء الثورة الجزائرية، في نصف الوقت الذي استغرقته، وضحايا حرب الإبادة البشعة في رواندا وكل جرائم الإبادة والكوارث في القرن الماضي.
وجاء تذبذب حكومة المالكي، ما بين استعراض العضلات والتراجع السريع، تصويراً نموذجياً لتآكل سياسيي الاحتلال من جميع النواحي. فقد تبيّن أن ترخيص شركة «بلاك ووتر»، كان قد انتهى منذ أشهر، ولم تبال الشركة بتجديده. كما أن معظم شركات الحماية لا تراعي مسألة تجديد التراخيص، لأنها تعلم أن الجهة المصدرة، أي وزارة الداخلية، لا تملك من القوة والسلطة ما يكفي لتطبيق القوانين، ما يجعل تصريح حكومة الاحتلال بإجراء تحقيق في المجزرة، وقولها إنها ستراجع تراخيص عمل المتعهدين الأمنيين، كلاماً فارغاً، يضيف إلى جريمة قتل المواطنين الأبرياء جريمة الاستهانة بعموم الشعب العراقي. فلجان التحقيق التي ألّفتها حكومات الاحتلال المتعاقبة، باتت عصيّة على التعداد، ونتائجها دائماً معدومة أو غير معلنة، ومحط تقزّز وقرف.
إنّ سياسيّي حكومة الاحتلال يعرفون جيداً أنّ الإدارة الأميركية قد وضعت في أعناقهم حبالاً بإمكانها أن ترخيها أو تشدها حسب مقتضيات حاجتها ومصلحتها. كما أنهم يعرفون جيداً أن هذه الحبال قد ثبتت برضاهم ومباركة مرجعياتهم على شكل قوانين سنّها الحاكم الأميركي السابق بول بريمر، وعددها مائة، ومن ضمنها جدولة الانتخابات وكتابة الدستور وتقسيم العراق. كذلك فإن ديمومة الاحتلال نفسه، تجري برضاهم ومباركة مرجعياتهم، طائفية كانت أم علمانية، عن طريق تمديد إبقاء قوات الاحتلال وشرعنة جرائمها. وفي ما يخص شرعنة جرائم الإبادة ضد الشعب العراقي، فكل ما نحتاجه هو قراءة القانون رقم 17 الصادر من بريمر، والذي ينص على أن قوات الاحتلال وكل من يعمل معها يتمتعان بالحصانة من أية تهمة قد توجّه إليهما، حسب قوانين البلد الذي يعملان فيه. وتشمل الحصانة حصراً شركات الحماية الأمنية والمتعاقدين من الشركات الاحتكارية والمتعاقدين المحليين. وقد رأينا بأعيننا كيف جرى تطبيق القانون أثناء فضائح التعذيب في سجون أبو غريب وبوكا وكروبر، فضلاً عن مجازر الإسحاقي وحديثة وتلّعفر، والتي راح ضحيتها عشرات القتلى من المدنيين، فضلاً عن جريمة اغتصاب الصبية عبير قاسم حمزة وحرقها وقتل والديها وشقيقتها الصغرى هديل. ورأينا كيف أن نتائج التحقيق في هذه الجرائم والمحاكم التي أجريت في أميركا كانت برداً وسلاماً على المعتدين. ولم ترفع لجان تحقيق حكومة الاحتلال العراقية إصبعاً للاحتجاج عليها، وإن كانت تسارع إلى تأليف اللجان الوهمية ذرّاً للرماد في العيون، حالما تعلن الإدارة الأميركية «أسفها وقلقها» وتأليفها لجنة تحقيق.
وهذا هو السيناريو ذاته الذي جرى اتباعه إزاء جريمة قتل المدنيين من قبل مرتزقة «بلاك ووتر»، وهي الشركة التي تشارك شركة «أيجز» البريطانية للحماية في احتكار سوق الحماية الأمنية في العراق المحتل، ووفق عقود مباشرة مع الحكومة ووزارة الدفاع الأميركية. ولإضفاء صفة «الأخلاقية العالية» على المحتل ظاهرياً، سارعت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى الاتصال بنوري المالكي، معربة عن أسفها لسقوط ضحايا من المدنيين، مذكرة إياه بضرورة عدم تجاوز «الخطوط الحمراء» مع الإدارة الأميركية وشركاتها المتنفذة، وإلا تعرّض لما تعرّض له عادل عبد المهدي، نائب الرئيس الطالباني، في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2006 عندما أطلق عدد من مرتزقة «بلاك ووتر» النار على عناصر حمايته وأردوهم قتلى. وعلى الرغم من مرور تسعة أشهر على الحادث، لا يزال المرتزقة يعملون في العراق من دون أن يتعرضوا للمساءلة والقصاص.
ولعل من الضروري التذكير، ونحن في مجال الحديث عن المساءلة والقصاص، بأن سياسة حكومات الاحتلال المتعاقبة ليست سياسة مجموعة من الحمقى والأغبياء أو سياسة أفراد مجبرين على التنفيذ بقوة السلاح والتهديد بالقتل، بل إنها سياسة تبنّتها باختيارها وإرادتها وقناعتها، لتخلق جواً ينعم فيه المعتدون على بلادنا وأهلنا بالحصانة من المساءلة والعقاب، وتشجعهم على اقتراف الانتهاكات والجرائم كما وأينما يشاؤون، لإثارة الرعب، وتخويف الناس وترويعهم، والتخلص من كل مواطن يتسلح بمقاومة المحتل درباً.
* كاتبة عراقيّة