عمر كوش
نقد لهنتينغتون والأصوليّات المسيحيّة لا يوفّر التعصّب الإسلامي


يُمثّل كتاب جورج قرم «المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين»، أحد المؤلّفات التي تجهد في معالجة المسألة الدينية موضوعياً، من خلال تقديم قراءة تحليلية أركيولوجية للظاهرة، والتعرّف على أسبابها ومفاعيلها وأدوارها في الحراك السياسي الراهن، وعدم الوقوع في الحصرية التي تُحمّل الدين الإسلامي ما تمثّله الحركات الأصولية، وطرح جملة من الأسئلة عن مآل الحداثة وأزمتها، وتجديد التساؤل بشأن إمكان الوصول إلى عقد علماني دولي، ينقذ العالم من دوامة العنف التي تكتسي طابعاً دينياً في أيامنا هذه.
والهاجس الذي يسكن قرم هو تقديم تحليل سياسي عميق، يقطع مع الأطروحات السائدة بشأن المسألة الدينية، وخصوصاً بعدما دخل العالم مرحلة جديدة، تهيمن فيها «امتثالية ثقافية» ذات طبيعة تسلّطية، تسعى إلى فرض رؤية أحادية للعالم، وتهرب من أي حسّ نقدي في سياق محاولتها منح شرعية فلسفية للقوّة الأميركية الساعية إلى الهيمنة على العالم، والتي لا تكفّ عن الترويج لما تسمّيه التقليد اليهودي ـــــ المسيحي والتبادل الاقتصادي الحرّ.
ولا شكّ في أن النموذج الذي تصنعه الولايات المتحدة الأميركية للقرن الحادي والعشرين، يفترق تماماً عن نموذج القرن العشرين الذي طغى عليه الطابع الأوروبي لفلسفة الأنوار، وصعود القوميات وحرية الإنسان والتحرّر من مختلف أشكال القمع والعبودية، ومبدأ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها. وهو اليوم نموذج متغطرس، أميركي أكثر ممّا هو أوروبي، مع عودة العامل الديني كحلقة مركزية صلبة، تسم بسماتها المجتمعات الأخرى.
والحديث عن صعود حركات إثنية قومية أو وطنية ليس بجديد، أما في أيامنا هذه فأصبحت الهوية الدينية تغلّف كل شيء، عبر مقولات ومصطلحات عديدة، مثل: «العالم العربي ـــــ الإسلامي»، «الغرب اليهودي ـــــ المسيحي». وهنا يتساءل جورج قرم: هل هي «عودة» الديني إلى المعترك السياسي، أم استخدامه وسيلة في الصراعات السياسية؟ وهل نحن حقاً بصدد «صراع حضارات» بين الغرب والإسلام، كما روّج له هنتينغتون؟
إن «المسألة الدينية» شديدة التعقيد، ويمكن القول إننا لا نشهد عودة الدين إلى الساحة العالمية، بقدر ما نشهد استخدامه من طرف جماعات متشدّدة لأغراض سياسية واقتصادية لا علاقة لها بجوهر الدين. لكنّ واقع الأمر يكشف أن هنتينغتون يقصد بأطروحته عن صراع الأديان، اختصار الحضارة بالدين فقط. والمؤسف أن «صدام الحضارات»، أخذ يجتاح عالمنا الثقافي، بالمعنى الديني والثقافي، حيث يحاول فرض نفسه كأيديولوجية جديدة، أو كنظرية ثابتة لا نقاش فيها. وترى هذه النظرية أن القرن الحادي والعشرين سيشهد مواجهة محتدمة بين عالم مسيحي ـــــ يهودي ـــــ ليبرالي، منفتح ومتسامح، ويحمل مشعل التقدم، وعالم «الإسلام الرجعي المتخلّف التسلطي والعنفي والمنغلق على نفسه». وتكشف هذه النظرة عن أزمة الأصولية المسيحية ذاتها، المتمثلة اليوم بالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة. لكنّ هذه الإيديولوجية، تثير كذلك وعياً جماعياً ضدّ الغرب، لا يميّز بين قيمه الحضارية ومبادئه الديموقراطية من جهة، والاتجاهات الاستعمارية لبعض ساسته وحكامه من جهة ثانية. واستعاد الخطاب السياسي المهيمن منذ 11 أيلول 2001، بنيته نفسها التي كانت قد سادت الحرب الباردة، رغم كل المتغيّرات الكبرى في الساحة الدولية، حيث حلّ «محور الشرّ» مكان «إمبراطورية الشر»، وجاء مفهوم الإرهاب ذي اللون الإسلامي، ليحلّ محلّ التهديد أو الخطر الشيوعي.
وتجد الظاهرة الدينية الجديدة عيناتها وتحقاقاتها في أشكال مختلفة: يقظة الهندوسية في الهند العلمانية الديموقراطية مع ما يرافقها من مجازر متبادلة بين المسلمين والهندوس، انتفاضة إسلامية في الفيليبين، معارك طاحنة في كشمير، تفجيرات إرهابية في إندونيسيا، مروراً بسريلانكا وصولاً إلى الحرب الأهلية الطائفية في العراق. ويتعرّض قرم إلى مسألة الهوية التي يصفها بـ «الظاهرة الاجتماعية المبنيّة على الاختلاف مع هوية أخرى». ويرى الكاتب أنّ هذه الظاهرة ليست جامدة أو متصلّبة، بل تتطوّر وتتبدّل تبعاً للمتغيرات التي تعصف بمنظومات القوّة والسلطة ومعايير الحضارة الزمنية. ويستند إلى الأركيولوجيا بالمفهوم الفوكوي (من الفيلسوف ميشال فوكو) لكي ينظر في جذور العنف الحديث من أجل الكشف عن جذورها التي يجدها حروب المذاهب المسيحية في أوروبا.
ويرفض قرم المقولة التي تصوّر الغرب هوية عليا جامعة، «لأن أميركا تختلف عن أوروبا»، فضلاً عن انقسام الأخيرة ما بين ثقافات اسكندنافية وجنوبية وأنغلوساكسونية وجرمانية وسواها، ولم تكن على وئام مع كل من الكاثوليكية والبروتستانتية والأورثوذكسية. في المقابل، تخفي مقولة العالم العربي ـــــ الإسلامي، تباينات وفروقات كثيرة، إذ إنّ الإسلام في موريتانيا يختلف عنه في إيران أو باكستان أو تركيا أو مصر. ويردّ الكاتب أزمة الإسلام الأساسية إلى ضعف مأسسته، خلافاً للكاثوليكية، ولذلك فإن الأصولية الإسلامية ليست سوى مرآة للجيوسياسي ولإخفاقات التنمية.
وإن كان الفيلسوف الألماني فريديريك هيغل قد صالح ما بين الدين والعقل، فإنه كان يطمح إلى إعادة كتابة التاريخ الأوروبي بهدف إعطائه وحدة وعقلانية منذ اللحظة التوحيدية المؤسّسة. وبقدرة قادر، لم تعد العصور الوسيطة رمزاً للظلامية والانحطاط، بل غرفة خلفية جرى فيها التحضير للتطور المستقبلي. ثم أتى ماكس فيبر كي يشيّد على الأسس الهيغلية التاريخ الغربي، فجعل البروتستانتية العنصر الأساسي المكوّن للحضارة الغربية، وخصوصاً في جوانبها المتعلقة بالتقدم المادي والاقتصادي. وإن كان ثمة «استثنائية» في التاريخ الأوروبي، مقارنة بالقارات والحضارات الأخرى، فهي ترجع إلى «الحرب الأهلية الأبدية» التي استمرّت قروناً طويلة، وتكلّلت بحربين عالميّتين. وقد انقشع وهم الفيبرية، وفَقَدت الجدلية الهيغلية ـــــ الماركسية معناها، لأن «مكائد التاريخ»، أو «العنف كمولّد للتقدّم الإنساني»، لم يفضِ إلا إلى بربريّة غير مسبوقة في الحربين العالميتين، والحروب والصراعات المحيطة بأوروبا.
ويعتقد جورج قرم أنّ الحلّ هو بإعادة الاعتبار إلى فلسفة الأنوار بمبادئها الأساسية، والاستناد إلى ما قدّمته الحداثة من تقدّم وتطوّر، والاعتراف بالآخر رغم الفروقات والاختلافات، والوصول إلى عقد دولي يؤمّن السبل الأفضل لإنقاذ البشرية من «طاعون» التعصّب والطائفية والعنصرية.
* كاتب سوري



العنوان الأصلي
la question
religieuse
au XXΙ siecle
الكاتب:
جورج قرم
الناشر
la decouverte