جويل أشنباخ *
«انسوا الآخرة والقيامة، فبعد 50 عاماً سنبقى الرقم واحد»! «الولايات المتّحدة، المدينة المنوَّرة الجاثمة على تلّة، تحوّلت عبر القرون إلى إمبراطورية متراجعة، تواجه مسيراً طويلاً نحو غروب عظمتها، وواجبنا اليوم هو الإشراف على انحدارنا النسبي». «قوى عظمى أخرى ستنهض لمنافستنا: الصين بالتأكيد، وأوروبا الموحّدة، وربّما روسيا واليابان». منذ عصور روما القديمة مروراً بسلالة «مينغ»، منذ أيّام الـ «أرمادا» الإسبانيّة، وصولاً إلى الإمبراطوريّة البريطانيّة، القاعدة الحتميّة للتاريخ هي أنّه «لا أحد يبقى على القمّة إلى الأبد». «حظينا بيومنا الجميل، انتهى الأمر». هذه على الأقلّ آخر الكلمات التي نسمعها في الشارع، أو بالأحرى، هذه هي الكلمات التي يقولها لك «الأذكياء» العاملون في «مراكز الأبحاث» في جادّة ماساتشوستس مثلاً، ممّن يتنبّؤون بانتهاء «الأيقونة الأميركية» قريباً.
يمكنك إيجاد نظرية «الانحدار» في الكتب السميكة والمقالات الصحافيّة الكثيفة، وأغاني الـ «هيب هوب» الغاضبة. هوليوود تتعاطى مع هذه الفرضيّة بوصفها مسلّمة. لقد بلغنا ذروتنا، ونعاني اليوم من قادة غير كفوئين، من جيش زائد على الحاجة، ومن مفهوم للمواطنيّة قائم على «اللامبالاة» و«الرخاوة».
كلّ هذا الكلام يصعقني، ويمثّل لديّ دافعاً للمراهنة على أميركا. لا تيأس: ضاعف الرهان.
إذا حصل أن سألني أولادي: هل سيبقى هذا البلد الأقوى على الكرة الأرضية، فسأجيبهم: فكّروا مثل المراهن: عندما تبدو الأمور شديدة السوء، يكون هو الوقت الذي تحصل فيه على أفضل الفرص، على نسق ما يحصل يومياً في لاس فيغاس. الآن تحديداً، الخطوة الذكية هي المراهنة على الولايات المتّحدة لأنّ ربح النقاط سيكون قريباً جداً. هذا لا يعني أنّ مشاكلنا الوطنية وعيوبنا المتغلغلة ستُمحى بشكل سحري، ولا ينبغي لينا منح أنفسنا تقويماً مميزاً في بورصة القدر. إنّ وضع «في الله نثق» على قطعنا النقدية المعدنية، لا يضمن أنّ عكس هذا التعبير صحيح أيضاً.
يجب أن نترك عبء الإتيان بالبراهين التي تشير إلى مستقبل باهر لبلادنا على هؤلاء الذين يتوقّعون سقوطاً قريباً لأميركا العظيمة. فإنّ الدليل على أنّ بلادنا تمضي في دوّامة انحداريّة ليس كافياً لاستبعاد الاحتمال المعاكس مباشرةً: الولايات المتّحدة ستصبح، في المعنى الجيوسياسي البحت، أقوى خلال العقود المقبلة. الخطأ الذي نرتكبه لا يضخّم مشاكلنا بقدر ما يخفّف من تقويم مشاكل منافسينا المحتملين. والمشكلة عند هؤلاء المتشائمين، هي أنهم يظنّون أنّنا البلد الوحيد الذي تعتريه مشاكل «الانحدار والسقوط».
أراهن على أنّ أكبر تحدٍّ سيواجه الشعب الأميركي في المستقبل، لن يكون مرتبطاً بانحدار موقعنا الجيو سياسي، بل إنّ ضعفنا أو خسارتنا للقيادة العالمية ستكون عبارة عن عواقب غير متوقّعة لنجاحاتنا الكثيرة.
إنّ رفوفاً من الكتب والمؤلفات تؤكّد «الانحدار» واحتمال انهيار «الأيقونة الأميركية» (american pax). والطروحات الأكثر كآبة تتضمّن كتاب تشالمرز جونسون: «الانتقام: آخر أيّام الجمهورية الأميركية»، و«نهاية العصر الأميركي» لكاتبه تشارلز كوبتشان. وأكثرها بهجة «هل نحن روما؟ سقوط الإمبراطوريّة وقدر أميركا» لكولن مورفي، مدير التحرير السابق لمجلّة «أتلانتيك مونثلي». ويشير مورفي إلى أنّنا نسير على طريق الدمار الذي سلكته روما؛ فالجيش لا يستطيع «استجداء» المزيد من العناصر في صفوفه، وهناك هوّة تتّسع بين نخبته وسواده الأعظم. لعلّ المتشائمين في الجمهورية ينظرون بشيء من السخرية إلى واقعة أنّ مرشّحاً جمهورياً للرئاسة الأميركية مثل ميت رومني، أبناؤه الخمسة يعارضون طموحه الرئاسي.
من الملاحظ أنّ المحافظين ينضمّون باضطراد ولهفة إلى التيار «الانحداري»: فالمزيد من كوادرهم يحذّرون من أنّنا «ليّنون جداً»، ومن أنّنا مفرطو الحساسية ومتساهلون مع المهاجرين غير الشرعيّين. وفي هذا السياق، يؤكّد كتاب الصحافي مارك شتاين (أميركا وحدها: نهاية العالم كما نعرفه)، أنّ «الغرب، التعددية الثقافية التي تطبع المجتمعات الغربية تقضي على ثقتها بنفسها»، وأنّ «دولة الرعاية الاجتماعية تدفعه نحو الكسل».
في المقابل يرى السكّان الأصليّون، الهجرة غير الشرعية إلى أميركا، على أنّها «الرصاص في أنابيب روما». وفي الإطار، تساءل السيناتور الجمهوري، المرشّح بدوره إلى الرئاسة، توم تانكريدو، في حزيران الماضي، إذا ما كانت هذه الهجرة غير الشرعية ستسمح لأميركا «بالصمود بوصفها أمّة؟».
أشعر بأنّ معظم المراقبين المتوازنين موهومون بالذي يحصل في العراق. كذلك عوامل عديدة تدفع للتشاؤم: السياسة المشبوهة، الجشع المؤسّساتي، الجنون الضرائبي، وما إلى ذلك ممّا يدفع إلى الخوف من أن النظام الأميركي برمّته مريض. وإذا سألت الناس عن هويّة الدولة التي ستبقى مسيطرة بعد 50 عاماً، فلن تسمع على الأرجح أحداً يقول الولايات المتحدة.
من الأرجح أن يكون التخطيط للأسوأ هو الخيار الأفضل. إلّا أنّ العديد من الأميركيّين قد لا يرون ببساطة إمكان استمرار قوّتنا الجيوساسيّة الحالية وتمددها، وذلك يعود لأسباب عديدة: لسنا معنيّين بما يكفي بمشاكل العالم، ليس لدينا ميول لتلقّن لغة ثانية أو ثالثة، ومثلما هو معروف، لا نستطيع حلّ مشاكل العراق.
أكثر من ذلك، فإنّ الإشارة إلى «السيطرة الكاملة» للولايات المتحدة، قد تصدم البعض على أنها نزعة يسارية: أليس إشارة وقحة القول كما فعل الصحافي ماكس بووت، بأنّ وطننا لديه 9 حاملات طائرات من فئة «نيميتز»، بينما لا تملك أية دولة أخرى ولو حتّى حاملة واحد من هذا الطراز؟ إنّ أمر مناقشة مسألة قوّة أميركا هو بحدّ ذاته إطلاق إنذار الوقوع في «النزعة الانتصارية».
جعل المحافظون الجدد هذا الموضوع بأكمله «ممنوعاً». وبالنسبة للبعض منهم، هناك تطوّر خطّي ينطلق من نقطة الإيمان بقوّة الولايات المتحدة المسيطرة، وتصل إلى الخلاصة بأنّ علينا استعمال تلك القوّة بأحاديّة، لنشر الديموقراطية في «الأراضي البعيدة» حيث الإقناع، يوجب في البداية، قصفاً عسكريّاً.
إنّ رؤية المحافظين الجدد لـ«الأيقونة الأميركيّة»، تتمحور حول أنّها إمبراطوريّة تستطيع ركل جميع من يقف في وجهها، وأن علينا التصرف على هذه الشاكلة. فعلى سبيل المثال، ألقى الصحافي والنقابي، تشارلز كروثامر، خطاباً مفاجئاً عام 2004، فنّد فيه أسباب النهضة الأميركية التي أوصلتها إلى أن تكون القوّة العظمى الوحيدة. وقال الرجل «وصلنا إلى هذه المرحلة بسبب انتحار أوروبا في الحربين العالميتين في القرن العشرين، ومن ثمّ بسبب موت خلفها الأوراسي، أي روسيا السوفياتية، لتبنّيها نظاماً سياسياً واقتصادياً مسيئاً للإنسانية، لدرجة أنّه، انتهى مثل العضو المريض جينياً، وقضى خلال نومه، وتركنا وحيدين مع السيطرة الكونيّة».
إنّ «إنجيل» التيار الذي يرى أنّ الولايات المتّحدة هي اليوم في مسار انحداري، هو كتاب بول كينيدي الصادر عام 1987، «نهوض القوى العظمى وسقوطها». وأشار كينيدي إلى أنّ الامبراطوريات لن تعود قادرة على السيطرة على نفسها مع عرقلة نفقاتها العسكريّة لاقتصادياتها، ولفت إلى أنّ «علينا إدارة التعرية النسبية لقوّتنا، كي تستمرّ بهدوء وليونة».
ونعرف ما حدث بعد ذلك: انتهت الحرب الباردة، وأضحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة. ومع ذلك، وبتفاقم المشاكل، عاد كينيدي إلى ساحة الموضة، وكتب بول ستاروبين في «ناشيونال جورنال» عنه قائلاً «هذه الأيام، يبدو كينيدي أقلّ هرطقة وأكثر نبوّةً».
لكن إذا كانت القوّة الكونية تُقاس بالقدرة العسكرية، نلاحظ أنه لا بلد آخر ينافسنا على بعد سنوات ضوئية، لأنّ نفقاتنا العسكريّة، طبقاً لكولن مورفي، تعادل النفقات الدفاعيّة لمجموع الدول الـ 15 التي تلينا في هذا المجال.
فكوريا الشمالية على سبيل المثال، تنفق نحو 5 مليارات دولار سنويّاً على جيشها. ويُعدّ هذا الرقم بالنسبة لأميركا بمثابة ما تتركه وزارة الدفاع «بقشيشاً للنادل»، أو ما ننفقه على التوابل! قد يعادل هذا الرقم ميزانيّتنا للكاتشاب والخردل!
الناتج المحلّي الإجمالي للولايات المتّحدة، سيكون في عام 2007، 13,3 تريليون دولار على الأرجح. أمّا في الصين، فهو بحدود 2,6 ترليون دولار، بعد الولايات المتحدة واليابان وألمانيا.
أنهار ألمانيا مجارير، المشاكل البيئية تجعل الثورة الاقتصادية الصينية لا تُحتَمل، بالتالي فإنّ تقويم مساعد وزير البيئة الصيني، حسبما أوردته صحيفة «دير شبيغل» هو واقعي: «هذه المعجزة ستنتهي قريباً لأن البيئة لا تستطيع استيعاب هذه العوامل، فالمطر الحمضي يتساقط على ثلث الأراضي الصينيّة، ونصف كميات مياهنا في أنهارنا السبعة الأكبر غير صالحة للاستعمال كلياً، بينما ربع سكّاننا لا طريق لديهم للوصول إلى مياه الشفة النقية».
أكثر من ذلك، الصين ستصبح عجوزاً قبل أن تصبح غنيّة. فسياسة الطفل الواحد المتّبعة، التي طُبِّقت بقسوة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ستطارد البلاد عندما تجد نفسها بشعب شائخ يفتقر لنسبة كافية من العمّال.
زميلي، جويل غارو، أجرى أخيراً مسحاً ديموغرافياً كونياً، لمصلحة مجلّة «سميثونيان»، واستنتج أنّ الولايات المتحدة هي أفضل حالاً من أيّ منافس محتمَل. فمع حلول عام 2020، سيكون هناك عامل ألماني واحد مقابل كلّ متقاعد. واليابان تشيخ بسرعة وتنجب القليل من الأطفال. أمّا روسيا، فتجمع بدورها بين معدّل إنجاب منخفض، مع زيادة في معدّل الحياة، وفي كلّ عام، تفوق نسبة الوفيّات بنحو 700 ألف روسي نسبة المولودين.
يلفت الأكاديميون إلى أنّ الناتج المحلّي الكلّي لدول الاتحاد الأوروبي دليل على منافسة لأميركا على الساحة الدولية. لكن العنوان موجود: الاتّحاد الأوروبي ليس بلداً! هو كونفدراليّة إذا جاز التعبير. الجهود الأميركيّة لتوحيد ولايات مستقلّة في كيان سياسي واحد، بدأت قبل قرنين. الأوروبيّون الآن هم حيث كنّا زمن الشَعر المستعار. ومثلما كتب المؤرخ في جامعة «هارفرد»، نيال فيغوسون، «الاتّحاد الأوروبي يفتقر للغة موحّدة، نظام بريدي موحّد، فريق كرة قدم موحّد، وحتّى مقبس كهربائي متعارَف عليه».
إذا ساورك القلق على مستقبلنا نحن الأمّة، يمكنك البدء ببحث التأثير الجانبي لنجاحات الاقتصاد الأميركي: آليّتنا لخلق الثروات مثّلت أيضاً آليّة لفروقات الدخل. بينما يزداد عدد الذين ينعمون بحياة رغيدة، فإنّ الملايين يبقون أسرى الفقر. السؤال هو: أيّ نوع من المجتمعات نحاول بناءه؟ من المؤكّد أنّه ليس ذلك الذي تمتدّ فيه المجمّعات التجاريّة لتملأ الأفق، وحيث الأطفال يختفون في الألعاب الإلكترونيّة على الإنترنت. فالسيطرة الجيوسياسيّة لا تضمن أننا سنحافظ على البلد الذي نستطيع أن نفخر به.
إنّ النجاح التكنولوجي ترافقه تعقيدات غير متوقّعة. قبل ألف عام، كان استخراج الصخور والسوائل من الأرض، ثمّ حرقها، لاستخدام الطاقة الناتجة عنها، منقولة عبر الأسلاك، لتبريد أحد المنازل خلال الصيف (قبل ألف سنة كان البعض قد تساءل ما هو البيت؟!)، كان ليبدو أنّه سحر. إنّنا اليوم نسدّد ثمن إبداعنا!
قد تحوّل العولمة مفهوم الدولة ـــــ الأمّة إلى فكرة لا معنى لها. «دائرتك الفكريّة» قد تشمل أشخاصاً من 6 أو 7 قارات. مقارنة مع الأمم الأخرى، فإنّ الولايات المتّحدة ستبقى الرقم 1، هذا ما يتوقّعه الخبير في العلوم السياسيّة في جامعة «هارفرد»، جوزيف ناي جونيور، في كتابه «تناقض القوّة الأميركيّة»، الذي يفترض في خلاصته العبرة التالية: «أن نكون الرقم واحد، لن يكون ما اعتدنا عليه».
أميركا «مباركة» بدستور متين وتنوّع ثقافي وموارد كثيرة ومجتمع منفتح. أعتقد أنّنا قادرون على حلّ مشاكلنا. هذا موقف مورفي أيضاً، الذي تنتهي تأمّلاته بشأن أميركا ـــــ روما بتفاؤل. يكتب أنّ ميزة أساسيّة يتمتّع بها الأميركيّون هي الإيمان بأنّ التحسين مُحال. طبعاً، نرتكب العديد من الأخطاء مثل تلك التي ارتكبها الرومان، «لكن الترياق موجود في كلّ مكان. الترياق هو أن تكون أميركياً»
* عن صحيفة «واشنطن بوست» - ترجمة حسن شقراني