strong>فنسان الغريّب *
تدفع المجزرة التي ارتكبتها الشركة الأمنية الأميركية الخاصّة «بلاك ووتر» يوم الأحد 16 أيلول الجاري، إلى البحث عن هوية تلك الشركات التي عقدت معها الإدارة الأميركية، في ظلّ هيمنة المحافظين الجدد، عقوداً فاقت قيمتها مئات ملايين الدولارات، كان المستفيد منها مدراء هذه الشركات الذين تربطهم بتلك الإدارة صلات وثيقة تفوح منها رائحة الفساد.
وفي كتابه «شبكة كارلايل»، يعرض الصحافي فرانسوا ميسان لحقيقة تلك الشركات وصلاتها الوثيقة ببطانة الرئيس جورج بوش الابن، ودورها في تسعير النزاعات والحروب حول العالم، لكونها المستفيد الأكبر من صفقات بيع الأسلحة وإرسال المرتزفة إلى البؤر المشتعلة، مقابل مبالغ طائلة من وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون، نتيجة عملها القذر هذا. وخير مثال على نوعية هذا العمل، كانت مجزرة «بلاك ووتر» التي دفعت الحكومة العراقية إلى إصدار قرار يقضي بإنهاء عمل تلك الشركة في العراق، مع التقليل من إمكانات مقاضاتها، نظراً إلى الدعم القوي الذي تلقاه من الإدارة الأميركية التي تؤمّن لها بدورها الغطاء الضروري للقيام بالعمل «الوسخ»، الذي لا تستطيع قوّات الاحتلال النظامية القيام به بنفسها، نظراً للتبعات القانونية التي قد تترتّب عن ذلك. وهكذا عاودت الشركة عملها بالفعل، بعد توقّف دام أربعة أيام، فقط.

نادي تجّار السلاح

يقول ميسان إنه، وخلال قيامه بالتقصّي عن حقيقة شركة كارلايل على خلفيّة النزاع الذي نشأ بينها وبين شركة فرنسيّة أخرى، لاحظ أن دفاتره بدأت تزخر بالعديد من الأسماء والمعلومات الخاصة بمن يعدّون أنفسهم جزءاً من النخبة في المجتمع الأميركي، من بينهم المدراء العامّون لشركات تصنيع سلاح، ومسؤولون عن شركات مرتزقة، وشخصيات من البنتاغون. أمّا العدد الأكبر من هؤلاء، فهم محامون ومستشارون للرئيس بوش في مختلف المجالات. واستنتج الصحافي الفرنسي أنّ هذه المجموعة من الشخصيات تؤلّف ما يشبه «النادي» الذي يضمّ العديد من المسؤولين السياسيين والعسكريين المتهافتين لتحقيق أكبر قدر من المكاسب في أقصر الآجال، من خلال اختيارهم المصادر الأفضل لتحقيق تلك الغاية، أي النفط وتجارة السلاح.
ويضيف ميسان أن اسم «فينيل»، الذي طالما دغدغ أحلام المرتزقة ذوي الحظّ العاثر، ظهر على الصفحات الأولى لكبريات الصحف الأميركية، بفضل أحداث الشرق الأوسط واحتلال العراق، حيث أجمعت هذه الصحف على أن «فينيل» قد حصلت على أكبر استثمار تقدّمت به شركة «كارلايل» لتطوير صناعة الأمن العالمي. وتُعدّ «فينيل» اليوم، بحسب ميسان، أكبر مصدر لعمالة متخصّصة ومطلوبة بكثافة، بفضل الرواتب المغرية التي تقدّمها لأجرائها، وذلك للمشاركة مباشرة وبقوة في حرب العراق. إنّ هذه الشركات الأمنية الذي يتزايد عددها برأيه يوماً بعد يوم، «تفضّل انتقاء مرتزقتها من بين قُدامى العسكريّين الأميركيّين (وخصوصاً من جنود البحرية وأصحاب الخبرات الكبيرة في ميدان قيادة الطائرات الحديثة، والذين سبق أن شاركوا في حروب البوسنة، وغرانادا، وسيراليون».
إنّ تجّار السلاح في جميع أنحاء العالم، وعبر جميع الأزمنة، كانوا ولا يزالون يعملون ـــــ بحسب ميسان ـــــ «على افتعال وتسعير الحروب حول العالم». وفي هذا السياق، يُعدّ تاريخ الولايات المتحدة نموذجياً: فبواسطة هذه التجارة، استطاع تجّار السلاح الأميركيون بناء ثروات ضخمة في القرن التاسع عشر. وفي فترة التحضير للحرب العالمية الثانية، اعتُمد مبدأ اكتتاب المتطوّعين للقتال، ما أدّى إلى حشد كافّة القوى الشعبية والعمالية ودفعها للمشاركة في الحرب. أما الحقبة الذهبية لهم، فكانت في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث راكم أرباب صناعة السلاح ثروات طائلة. بعد ذلك، ظهر سماسرة يمتهنون هذا العمل المربح جداً.
وفي كتابه «الأمبراطورية الأميركية»، يقول كيفن فيليبس أن 67 في المئة من تمويل صناعة السلاح الأميركية ما بين عامي 1940 و1943، كان مصدرها الميزانية الفدرالية الأميركية.

فرصة الشرق الأوسط

ويشير ميسان إلى أنّه مع اندلاع موجة العنف في الشرق الأوسط ووسط آسيا، برزت ظاهرة جديدة تمثّلت بالشركات الخاصّة «التي نصّبت نفسها نهائياً ملكة في المجال الذي كان مخصّصاً سابقاً، وحصرياً، للبنتاغون». وقد قام نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في عام 2003، بـ«تعميد» تلك الشركات تحت اسم جديد: «الشركات العسكرية الخاصة». وبذلك أعطت إدارة بوش تسمية رسمية لهذه الشركات غير القانونيّة، والتي عادةً ما تتجاوز التشريعات في نشاطها، وهي التي كانت تعمل في السابق في الخفاء. وكانت كرواتيا والبوسنة أولى الساحات التي نفّذت فيها تلك الشركات العسكرية الخاصة أولى مهامها.
إن أوّل من لاحظ خطورة هذا القطاع العسكري الخاص كان الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، الذي حذّر في خطبة الوداع، من تنامي حجم المجمّع الصناعي ـــــ العسكري، والضرر الذي قد يسبّبه على الحياة الديموقراطية في الولايات المتحدة، وهو الأمر الحاصل اليوم بفعل تشابك مصالح هذا المجمّع مع مصالح الفئات العليا الحاكمة في المجتمع الأميركي، على حساب مصالح شرائح واسعة من الشعب، وخصوصاً بعدما تخلّص هذا القطاع من رقابة النقابات المهنيّة والعمالية، وأصبح يعقد الصفقات التجارية الكبرى مباشرة مع البنتاغون دون المرور بأيّة رقابة. وفي الإطار، يرى فيليبس أنّ للكنائس الإنجيلية المتطرّفة التي يتنامى عدد المنتسبين إليها في الولايات الأميركية الجنوبية، تأثيراً كبيراً ومباشراً على صنّاع القرار داخل الإدارة الأميركية، وعلى المحافظين الجدد بالتحديد (وعلى رأسهم ديك تشيني)، الذين ركّزوا كامل اهتمامهم على منطقة الشرق الأوسط، والذين طالبوا بوش الابن بتوسيع دائرة الصراع، وهم يدفعون اليوم باتّجاه مهاجمة إيران.
ويضيف فيليبس أنّ تلك الولايات الجنوبية، وبفضل حصولها على الحصّة الأكبر من تجارة السلاح العالميّة، تمكّنت من جعل هذه التجارة تحقّق الرقم الأعلى في الميزان التجاري الأميركي.
وبلغت حصّة الولايات المتحدة من تجارة السلاح العالمية إلى بلدان العالم الثالث، نسبة 45،5 في المئة عام 2000. وتعود النسب المرتفعة تلك، إلى تفّلت تجّار الأسلحة الأميركيين من المحاسبة والرقابة، مع تحرير القطاع من القيود وغياب التشريعات التي تلزم باحترام بعض الضوابط، في ظلّ تصاعد حدّة «الحرب على الإرهاب»، التي تعود بفوائد جمّة على هؤلاء التجار الأميركيين، المموّلين الأساسيّين لحملة بوش الانتخابية.
وعرفت السنوات الأولى من هذا القرن، بحسب ميسان دائماً، طلباً متزايداً على سوق المرتزقة. وكان الجزء الأكبر من هذا الطلب من حصّة العراق، حيث هناك جيش خاص يعمل إلى جانب الجيش الأميركي، رغم محاولة البنتاغون إخفاء هذه الحقيقة عن الرأي العام. ويعمل هذا الجيش الخاص بالتوازي مع عمل الفرق النظاميّة، وتحت قيادتها المتمركزة في العراق. كما يتألّف هذا الجيش الخاص من مرتزقة تأتي بهم شركات الخدمات، مقابل أموال طائلة تتقاضاها من الخزينة الأميركية، وكثير منهم يموتون دون أن يجري التعرّف على هويّاتهم، حيث لا أوراق رسمية في سجلات تجنيدهم، ولا أرقام رسميّة، وحيث لم يكن مسموحاً لهم ارتداء الزيّ العسكري. حتى أنّ الحاكم العسكري للعراق، غداة الاحتلال، بول بريمر، كان يظهر محاطاً بالحرّاس والمرافقين المسلّحين، وهم مرتزقة شركة «بلاك ووتر» نفسها.
الشركات الأمنية في العراق
ويمكننا في هذا الإطار ذكر أسماء بعض الشركات الأمنية الخاصة العاملة في العراق اليوم. فبالإضافة إلى «بلاك ووتر»، هناك شركات أخرى منها: غلوبال ريسكس، دينكورب، أم بي آر آي، وطبعاً شركة فينيل المذكورة أعلاه. وقد حصلت تلك الشركات على مئات ملايين الدولارات منذ اجتياح العراق، يدفعها المواطن الأميركي من الضرائب. ويتقاضى العنصر الواحد من جماعة «الزناد المستأجر»، ما يقارب ألف دولار يومياً.
وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ لكل واحدة من هذه الشركات، مجال تخصّصها الحصري. فالبعض منها يوفّر الحماية للدبلوماسيين، وأخرى متخصّصة في حماية رجال الأعمال، والبعض الآخر في تأمين عمّال صيانة الطائرات والدبابات. أما العناصر الذين يتقاضون الأجور الأكثر ارتفاعاً، فهم الذين يقومون يقيادة مروحيات الأباتشي التي تشارك في حروب الشوراع. لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ هناك تذمّراً لدى عناصر الجيش الأميركي العاملين في بلاد الرافدين إزاء الامتيازات التي يحصل عليها عناصر تلك الشركات، والاختلاف في المعاملة، وخصوصاً إذا قارنّا راتب الجندي الأميركي بالراتب المرتفع الذي يتقاضاه هؤلاء المرتزقة، الأمر الذي سبّب حصول توتّر بين الطرفين.
وتتولّى شركة «بلاك ووتر» مهمّة حماية الشخصيّات السياسية، كما تقوم بتأمين عمليات الهجوم بالطائرات من نوع «أباتشي»، بينما تتولّى شركة «فينيل» و«دينكورب» توفير التحاليل الاستراتيجية للعمليات العسكرية، وتحديد أماكن القتال دون المشاركة في العمليات العسكرية على الأرض. وغالباً ما تخفي تلك الشركات العسكرية الخاصة، تحت الغطاء اللوجستي، «العمليات البشعة والقذرة»، على حدّ تعبير ميسان، سواء حصل ذلك خارج الولايات المتحدة أو حتى داخلها، حيث تؤمّن شركة «فاكنهوت» جميع حرّاس السجون داخل الأراضي الأميركية، كما تقوم تلك الشركة بحماية السفارات الأميركية وشبكات أنابيب النفط حول العالم. يُذكَر أنّ تلك الشركة سبق لها أن اتُّهمت بنقل شاحنة محمّلة بمواد سامة إلى الحكومة العراقية أثناء حربها مع إيران، ليجري استخدام تلك المواد ضدّ القوات الإيرانية.
لقد وُلدت هذه الصناعة المتخفّية للجيوش المرتزقة، والخارجة على القانون برأي ميسان، في إفريقيا أثناء الصراعات الحديثة. وقد عملت هذه المجموعات المسلّحة في أماكن متعدّدة من القارة السوداء: من جمهورية جنوب إفريقيا إلى الموزمبيق وسيراليون، حيث كان بعض الحكّام الأفارقة يستعينون بهؤلاء المرتزقة للاحتفاظ بالسطلة. وقد شهدت عاصمة سيراليون فريتاون على سبيل المثال، أسوأ المجازر على يد هؤلاء المرتزقة الذين خاض بعضهم حرب فيتنام واستخدموا خلالها أفتك الأسلحة. وجيوش المرتزقة هذه تضمّ كثيراً من المحاربين القدامى، أي قدامى العناصر الأجنبية في الجيش الفرنسي، مظلّيي جيش جنوب إفريقيا في عهد النظام العنصري، وقدامى محاربي الأوديسا، وقدامى بحرية أوستراليا، وضباطاً بريطانيّين، إضافة إلى قدامى الجنود المغاربة، كما نجد عدداً من الطيّارين الأوكرانيين....
أما الزبون المفضّل لهذه الشركات فهو إدارة بوش التي اعتمدت عقيدة الحروب الوقائية، والتي استقدمت الآلاف من هذه العناصر للعمل في ساحات حروبها. ومن بين الزبائن الآخرين لهذه الشركات، شبكات المافيا ومروّجو المخدّرات، حيث تقوم عناصر أميركية بتدريب المرتزقة في المكسيك في مركز للمافيا، ويجري تدريبهم على كيفية استخدام الأسلحة القاذفة للقنابل
والرشّاشات الثقيلة والمناظر الليلية والتقاط رسائل الراديو.

صيد ثمين

يقول ميسان إنه كلما ظهرت ثروات طبيعية جديدة، أو إيديولوجية لا تناسب أو تتعارض مع إيديولوجية المحافظين الجدد، أو إذا ظهرت قوة يمكن أن تهدّد مصالح الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة والفئات المتحالفة معها عبر العالم، توضع على جدول أعمال تلك الشركات كصيد ثمين آت. مع تحوّل الحرب إلى مؤسسة كغيرها من المؤسسات، وحيث الهدف من ورائها هو الربح المادي، وحيث قوانين السوق هي الحاكمة، حتى وإن كانت الكلفة البشرية باهظة، وتتحمّلها شعوب الجنوب، بات الهدف من وراء افتعال تلك الحروب هو الحفاظ على الميزان التجاري للولايات المتحدة، لذلك يجري شرعنة تلك الأساليب غير الشرعية، لكونها تؤمّن مورداً مالياً ضخماً للخزانة الأميركية (تجارة السلاح، شنّ الحروب الاستباقية للسيطرة على الثروات، التلاعب بقيمة الدولار، التحكّم بمنابع وطرق إمداد الطاقة).
ويقول المتخصّص في موضوع الشركات الأمنية الخاصة، بي دبليو سنجر، إن فكرة تقسيم العالم إلى مجالات عامّة وأخرى خاصّة، أصبحت تحتلّ حيّزاً كبيراً من النقاش بشأن الدور الذي يمكن إسناده إلى الحكومات، حيث لا يزال الخط الفاصل بين هذين القطاعين في تأرجح مستمرّ.
وقد جرت محاولات عدّة لتنظيم عمل تلك الشركات، واهتمّت الأمم المتحدة بهذه المسألة، ونشرت تقريراً في عام 1997 أعربت فيه عن خشيتها من لجوء بعض الدول (وعلى رأسها الولايات المتحدة) إلى وضع يدها على الثروات الطبيعية ومصادر الثروة النادرة. وأخذت ظاهرة إنشاء شركات متخصّصة في الاستشارات العسكرية، وتدريب الأجهزة الأمنية للبلدان التي تطلب مساعدتها في هذا المجال (كالعراق اليوم)، تثير القلق باضطراد مستمرّ. فهذه الشركات تبيع خدماتها مقابل مبالغ مالية ضخمة، كما جاء في التقرير المذكور. أما الحكومات التي لا تتوافر لديها السيولة الكافية لتغطية نفقات هذه الشركات، فتعطي امتيازات لاستغلال المناجم والثروات الطبيعية ومصادر الطاقة.
ونطرح في هذا الإطار السؤال التالي: ما هو حجم المبالغ التي تقتطعها تلك الشركات من ميزانية الحكومة العراقية؟ وما هو حجم الامتيازات التي تحصل عليها للاستفادة من الثروة النفطيّة في بلاد الرافدين؟ فرغم التحذيرات الصادرة من هيئة الأمم المتحدة من مغبّة تفلّت عملها من جميع القيود، نجد أن تلك الشركات لا تزال توسّع من رقعة عملها الذي تتضخّم يوماً بعد يوم، مع انتشار رقعة الحروب الأميركية حول العالم.
والأمر المريب أيضاً في تلك الشركات العسكرية الخاصّة، هو إمكان خلقها وإنشائها بمجرّد استحداث عنوان بريدي ورقم هاتفي وحساب مصرفي (وغالباً ما تفتح تلك الحسابات في الجزر المعروفة بستهيل عمل هذا النوع من الشركات، مثل جزر الباهامس وكايان، وفي الجنّات الضريبية والأماكن التي يجري فيها غسل الأموال). فمع توافر تلك العناصر الثلاثة، يصبح بإمكان أصحاب هذه الشركات الدخول إلى السوق العالمية.
ومن بين الفوائد التي يجنيها هؤلاء من آلية خلق الشركة تلك، رفع ستار بين الشركة والنظم الإدارية التي قد تطالبهم بتقديم حساباتهم إلى مصلحة الضرائب، كما تكمن الفائدة الأخرى في تخفيف تكاليف التشغيل إلى الحدّ الأدنى. وعند تعرّضها للملاحقة القانونية، يكون باستطاعتها الذوبان بسهولة أو التبخّر بسرعة، إذا حصل انقلاب على النظام الذي تعاقدت معه تلك الشركة على سبيل المثال، أو إذا قام عناصرها بارتكاب جريمة في هذا البلد المتعاقد معه (كما حصل أخيراً في العراق مع شركة بلاك ووتر). بتعبير آخر، وبحسب سينغر، فإنّ هذه الشركات العسكرية الخاصّة هي شركات وهميّة يصعب تعقّبها وملاحقتها قانونياً. أما شركات التجنيد الخاصة، فغالباً ما تبيع أو تؤجّر عناصرها وعملاءها لقاء أسعار باهظة.
ويُعدّّ هذا العرض مغرياً لهؤلاء العناصر مع تقاضيهم، إضافة إلى راتبهم وتعويضهم التقاعدي وراتب الارتزاق أثناء تأديتهم مهامهم، نسبة من أرباح الشركة مع نهاية كل عام، وعند عقد صفقات جديدة. أما أرباح الشركة فهي كبيرة ومتنوّعة المصادر. فبالإضافة إلى تأجيرها «المعدّات البشرية» (وهو تعبير فظّ وبشع بطبيعة الحال)، فهي تتقاضى إلى جانب ذلك عمولات إضافية من تجّار السلاح. أمّا الذي يساعد مدراء تلك الشركات في الحصول على العقود الضخمة مع البنتاغون، فهو علاقاتهم مع الطبقة الحاكمة في واشنطن، وهذا ما حصل أثناء إبرام العقود التي تولّت تنفيذها تلك الشركات في كل من البوسنة، نيجيريا، كرواتيا، أفغانستان والعراق. ومن الملاحظ أيضاً أن هذه الشركات الأمنية تتقاسم السوق العسكرية، وتحصل كل منها على عقود بحسب قربها من صنّاع القرار في واشنطن، ومتانة الصلات مع النافذين فيها. فعلى سبيل المثال، استولت شركات التجنيد الخاصة المصنّفة ضمن مجموعة شركة «فينيل»، على السوق الإفريقية ودول البلقان وإندونيسيا.
أما بالنسبة إلى المنطقة العربية، يرى ميسان أن المملكة العربية السعودية هي المرتع المخصّص حصراً للدبلوماسية الأميركية، بسبب مخزونها النفطي العملاق، حيث غالباً ما تختلط مصالح شركة النفط السعوديّة «أرامكو» مع ضرورات الدبلوماسية الأميركية، وحيث إنه من أبرز أولويات الولايات المتحدة، الحفاظ على أمن وسلامة الأسرة السعودية الحاكمة، بسبب ارتباط سعر برميل النفط مباشرة بتحقيق هذا الشرط. وبسبب تحاشي الإدارة الأميركية إرسال جنودها النظاميّين إلى بلد إسلامي، فقد عمدت إلى إسناد هذه المهام إلى شركات أمنية متخصّصة، تمتلك كفاءة قتالية عالية، وغير تابعة رسمياً للجيش الأميركي. وهكذا أبرمت واشنطن مع الشركة المذكورة عقداً بقيمة 77 مليون دولار سنوياً، تعهّدت بموجبه الشركة حماية المملكة عبر تدريب الحرس الوطني السعودي و«إسداء المشورة» للقوات المسلّحة المحليّة. وقد نُفّذت في عام 1995 عملية على مكاتب الشركة في الرياض، كما تمّ قتل ضابط تابع للشركة في عام 2004. وهكذا تكون المملكة، في بداية هذه الألفيّة، «زبوناً» ومساهماً في إحدى أهم مؤسّسات القرصنة والارتزاق في العالم. وصاحبة الفضل الأكبر على الاقتصاد الأميركي، ومنقذ مؤسساته المالية من الإفلاس.
وأخيراً، يرى ميسان أنه لا بد لاثني عشر عاماً من حكم الجمهوريين أن تترك رصيداً هائلاً من الأسماء والعناوين، وعدداً من العقود قيد التنفيذ في مختلف أنحاء العالم. فهل يكون للشعوب التي تحكمها شركات بيع الأسلحة و«اللحم البشري»، كلمة الفصل في طرد هؤلاء المرتزقة الذين يعيشون على دماء الفقراء، أم أن المجزرة سوف تستمرّ بحقّهم؟.
* باحث لبناني