غالب أبو مصلح *
كثر الكلام في الآونة الأخيرة على رياح الحرب التي توشك على الهبوب على منطقة الشرق العربي ومحيطه الإسلامي، وخصوصاً الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فمن تهديدات أميركية ـــــ إسرائيلية لشنّ هجمات على إيران، لوقف أو إسقاط مشروعها النووي ودعمها لسوريا والمقاومات الشعبية في العراق ولبنان وفلسطين، إلى توقّعات شنّ إسرائيل هجوماً ساحقاً على لبنان وسوريا انتقاماً لهزيمة تموز 2006، أو شنّ هجوم ساحق على قطاع غزة لاجتثاث «حماس» وإعادة السيطرة لأبو مازن وحكومته المستسلمة لإرادة أميركا وإسرائيل.
فما هي إمكانات مثل هذه الحروب العدوانية؟ هل هناك أخطار أو إمكانات حقيقية بشنّ هذه الحروب، أم أنّ كلّ ما يُقال ويسرَّب في هذا الإطار لا يعدو كونه تهويلات تقع ضمن إطار الهجوم الإعلامي الهادف إلى تحقيق ما عجزت عنه الأداة العسكرية الإمبريالية؟

حلم قديم

لنتذكّر أولاً أنّ الهجمة الإمبريالية على المشرق العربي ومحيطه الإسلامي، التي يندرج فيها الكيان الصهيوني قبضةً إمبريالية، تتمّ منذ أمد طويل على مستويات عدّة متساندة ومتزامنة. تشمل هذه المستويات، كما يقول الباحثون الأميركيون، العسكرية منها والأمنية والسياسية والدبلوماسية والثقافية، وكذلك المالية والتجارية والاقتصادية والإعلامية. إنها هجمة شاملة ومتكاملة ودائمة، تجنّد في سبيلها جميع الطاقات الإمبريالية للولايات المتحدة وحلفائها في الدول الرأسمالية، وأتباعها في دول العالم الثالث، وخصوصاً الدول العربية المستتبعة.
وعند فشل الغزو العسكري في تحقيق أهدافه، استمرّت الهجمة على المستويات الأخرى بشراسة أكبر لتعويض الفشل العسكري، الذي لا يتم الاعتراف به عادة، من العملاء المحليّين. هذا ما حدث في لبنان مثلاً بعد هزيمة إسرائيل عام 2000، وهزيمتها النكراء في 2006، حيث استمرت الهجمة الشاملة وتصاعدت على المقاومة لإسقاطها سياسياً عبر عزلها جماهيرياً ودولياً، وتحميلها وزر الدمار الذي أحدثه العدوان الأميركي الصهيوني، ووزر فشل السياسات النقدية والمالية والاقتصادية، التي انتهجتها الحكومات الحريرية منذ أواخر عام 1992 حتى اليوم، وعبر حشرها في المعادلات والصراعات المذهبية والطائفية، لتغييب وجهها المقاوم للهجمة الإمبريالية الشاملة على المنطقة، وإنجازها تحرير لبنان الوطن حتى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
فقد تمّ تجنيد حلف شمالي الأطلسي وحكومات «الاعتدال العربي» ومجلس الأمن، وصندوق النقد والبنك الدوليّين، والطبقة الحاكمة في لبنان بكل أدواتها الإعلامية والدبلوماسية والأمنية، لتحقيق ما عجزت القوة الأميركية الصهيونية عن تحقيقه. ويتلخّص هدف الهجمة في إسقاط خيار المقاومة وسلاحها، الذي يخيف الإمبريالية والصهيونية والطبقة الحاكمة في لبنان وأنظمة الاعتدال العربي، ومحاصرة سوريا واستكمال استتباع لبنان للمركز الإمبريالي الصهيونيويمثّل الإعلام وسيلة أساسية شديدة الفاعلية في إطار هذا العدوان الشامل والدائم. فبعدما أثبت فاعليته الكبيرة ضدّ النازية إبان الحرب العالمية الثانية، في حصارها والتحريض ضدّها، بل وفي «شيطنتها»، ازداد الإنفاق على الإعلام وتطوير أدواته وتوسيعها وتعقيدها، في إطار تشويه وحصار المعسكر الاشتراكي والاشتراكية كفكر، وفي حصار حركات التحرّر الوطني المعادية للاستعمار والإمبريالية، وتشويهها وأبلسة قادتها.
وأصبح الإعلام مع تقدم النظام الرأسمالي وثورة تقنيات الاتصال والمعلوماتية، أكثر فاعلية وقدرة على صناعة الرأي العام، وامتصاص أوقات الفراغ بالتسلية المخدّرة والمعوقة للوعي لدى الجماهير، وفي صناعة توجّهات استهلاك السلع والخدمات حول العالم، وبالتالي، صناعة القيم الاجتماعية المتمحورة حول أنماط الاستهلاك وأخلاقيات السوق الحرّة.
وهكذا أصبح الإعلام ذا طبيعة عالمية ومجنّداً في خدمة الأنظمة الرأسمالية المحورية ومصالحها العالمية التي تتمثل بمصالح الشركات الكبرى المعولمة. ويستند هذا الإعلام إلى مؤسّسات إعلامية شاملة ومعولمة، تمتلك آلاف الصحف والدوريات ودور النشر والإذاعات والفضائيات وبيوت الإنتاج الفني من موسيقى وأفلام. وتجنّد في خدمة هذا الإعلام، آلاف مراكز البحوث، وآلاف الأكاديميّين والصحافيّين والكتّاب والفنانين، والعديد من الجمعيات غير الحكومية في شتى الحقول. وتؤدي أجهزة المخابرات الدولية، والأميركية منها خاصة، دوراً أساسياً في توجيه وسائل الإعلام هذه، لخدمة المخطّطات العدوانية تجاه شعوب دول العالم الثالث، ولخدمة مصالح الرأسمالية العالمية وتوسّعها في مرحلتها الأكثر احتكارية وعولمة.
ويبقى السؤال الأساسي، هل تستطيع الولايات المتحدة شنّ حرب شاملة على إيران، أو على سوريا ولبنان، بمساعدة ذراعها الإسرائيلية؟

المأزق العسكري

في بداية هذا القرن، كان لدى واشنطن خطط أصبحت معروفة، لاجتياح سبع دول في منطقة الشرق الأوسط خلال خمس سنوات. وأطلق بوش مبادئه في شنّ حروب وقائية واستباقية على أي عدو محتمل أو قوّة دولية تطمح في منافسة الهيمنة الأميركية على العالم وعلى الفضاء الخارجي أيضاً. كذلك وضع بوش المصالح الأميركية مثلما يراها فوق كل المعاهدات والمواثيق والمؤسّسات الدولية، متّكئاً على فكرة الفرادة الأميركية في العالم وقوتها التي لا تُجارى. ورأينا سقوط كل هذه المبادئ على أرض الواقع، ونتيجة العجز الأميركي. ورأينا انفلات العديد من دول أميركا اللاتينية من براثنها، واتّسعت رقعة التمرد عليها وكبرت، من دون أن يكون لها القدرة على قمعها مثلما اعتادت في السابق. رأينا كوريا الشمالية تهزأ بإمكان العدوان العسكري الأميركي عليها. رأينا العدوان الأميركي الصهيوني في لبنان يتحطّم على صخرة المقاومة الإسلامية.
ونتيجة عمق المأزق العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان، طال هذا العجز السياسة الداخلية الأميركية، حيث أصبح من أهم محدّدات توجهات الرأي العام الأميركي، الذي حدّد مصير الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية وسيحدد نتيجة الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وبات انعكاس الحروب الإمبريالية الأميركية على الاقتصاد الأميركي واضحة وجلية. كذلك ظهر عجز العقيدة العسكرية الأميركية عن خدمة الأهداف الإمبريالية وتحقيقها. فقد تمّت مراجعة هذا الفكر الاستراتيجي بشكل شامل وعميق، وتحتاج الولايات المتحدة إلى عشر سنوات لإتمام التغيير المطلوب في هذا الفكر وفي بنية الأداة العسكرية الأميركية بهدف استعادة قدراتها العدوانية، لا ضدّ دول كبرى ومتقدمة مثل الصين وروسيا فقط، بل على حركات المقاومة الوطنية والدول الصغيرة والمتوسّطة الحجم مثل سوريا وإيران.
فنوايا العدوان على طهران ودمشق، وكذلك مخطّطات العدوان، كانت جاهزة منذ أكثر من خمس سنوات. وارتفعت إمكانات العدوان بعد إتمام غزو العراق والنشوة التي ولّدها الاجتياح عام 2003 حين رفع شعار «أُنجزَت المهمة»، وحيث ازدادت الثقة بالقدرات العدوانية الأميركية. ولم يتمّ غزو سوريا وإيران في ذلك الحين، رغم أن مواقف إيران وسوريا كانت واضحة ضدّ الهجمة الإمبريالية الأميركية، ورغم ارتفاع شعبية جورج بوش في الداخل الأميركي، حيث إن هذا الداخل لم يكن يوماً ضدّ المغامرات الإمبريالية الأميركية، بل كان فقط ضد فشل هذه المغامرات.
ومنذ عام 2003، تجري تحوّلات كثيرة ليست لمصلحة العدوان الأميركي، بل ضدّ مصالحه على جميع الصعد. فداخلياً، هبطت شعبية بوش ونسبة التأييد لعدوانه من 80 في المئة إلى أقل من 25 في المئة. وفقد بوش غالبية أصوات أعضاء الكونغرس. وأصبحت أكثرية الشعب الأميركي تطالب بانسحاب عسكري سريع من العراق، وتقف ضدّ أية مغامرة عسكرية جديدة في المنطقة. أمّا الوضع الاقتصادي الأميركي، فازداد سوءاً يوماً بعد يوم، وتقف الولايات المتحدة على أعتاب ركود كبير، حيث تتدهور جميع المقومات الأساسية للاقتصاد. أما الوضع العسكري في أرض المعركة، في العراق وأفغانستان، فيزداد بدوره صعوبة رغم محاولات الإعلام الإشارة إلى سراب انتصار عسكري بعيد المدى. ومن لم يستطع خوض حرب على إيران وسوريا قبل سنتين، لن يستطيع خوضها اليوم مهما لوّح بها وبشر برياحها العاتية.
في هذا السياق، تقول مجلة الـ «إيكونوميست» في عددها تاريخ 30/6/2007 أن ضباطاً في البحرية الأميركية II Marine Expeditionary Force يقولون إنهم يعملون بكل طاقاتهم. لم يعد لديهم وقت للمناورات لعمليات أساسية كبيرة. وتدريباتهم على حروب «التمردات» Counter Insurgency يعوقها النقص في المعدّات. وفي الحقيقة، فإن نصف المعدّات والمؤن المخزّنة في البواخر حول العالم، تمّ استنفادها لإعطاء الجنود على الجبهات ما يحتاجون له.
وتقول المجلة إنّ علامات التعب strain هذه على القوّات العسكرية الأميركية هي في غاية الخطورة، وتنذر بقدوم الكارثة المحققة حسبما يقول رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية وتقويم الموازنات Andrew Krepinevich. ومثلما أعلن وزير الخارجية ورئيس أركان القوات الأميركية السابق، كولن باول، فإن الجيش أصبح «تقريباً منهاراً» about broken، وقال قائد الجيش الحالي الجنرال Peter Pace، محذراً الكونغرس في مطلع هذا العام، إنّ قدرة أميركا على معالجة أزمة أخرى في العالم «تمّت إزالتها».
فلدى أميركا 1.5 مليون جندي بمن فيهم 700 ألف في الجيش والبحرية. لكن جزءاً قليلاً يمكن أن يحارب لمدة طويلة، لأن بعض الوحدات غير مدربة وغير مهيأة للقتال في حروب شعبية، حيث القوى العسكرية يجب تبديلها دورياً لاستعادة قواها. ويعتقد الجيش أنه يحتاج إلى ثلاث فرق في أرض الوطن لدعم فرقة واحدة في أرض المعركة. أي أن 50 فرقة من القوات النظامية يجب أن تدعم 17 فرقة في أرض المعركة حسبما تقول الإيكونوميست. لكن مع إرسال خمس فرق جديدة إلى العراق، لدى أميركا 25 فرقة موضوعة حول العالم. ويرتفع الضغط مع وجود فرق الاحتياط.
في هذه الأيام، لا تحصل الوحدات الأميركية على نسبة مكوث في أرض الوطن تعادل وقت الخدمة في العراق وأفغانستان. بعض الوحدات لا تحصل على أكثر من سنة راحة وإعادة تدريب، بعد خدمة 15 شهراً: فالقوات الأميركية تحصل على خُمس فترات الراحة التي يحصل عليها الجنود البريطانيون. ويقول الضباط البريطانيون إن أقل من سنتي راحة وتدريب مقابل 6 أشهر من العمل على الجبهات، يؤدّي إلى انهيار الجيش. بعض الوحدات الأميركية هي في مرحلة تموضعها الرابع في أرض المعركة. وأظهر مسح صحي عسكري في العراق في شهر أيار من هذا العام، مستوى مرتفعاً من مشاكل الصحة العقلية بين الجنود الأميركيين، بما فيها 24 في المئة من أمراض ضغوط ما بعد الشفاء من الإصابة.

العائق الاقتصادي

وتقول الإيكونوميست إنه حتى لو وُجد الجنود، فإنّ تجهيزهم يبقى مشكلة. يرى الجيش أنه دخل الحرب على «الإرهاب» مع نقص بالمعدات يقدر بـ 56 مليار دولار، وأنّ المعدات التي يستعملها الجنود مهترئة أو بالية بأسرع من المتوقّع، بدءاً من المناظير الليلية، إلى دروع الأفراد، إلى مصفحات الـ «هامفي». ومثلما هو الوضع اليوم، فإن الولايات المتحدة يمكنها التفكير بتدخّلات محدودة، ولمدة قصيرة، مثل القيام بعمليات إغاثة ليس إلا.
نتيجة كل ذلك، قال رئيس «مجلس العلاقات الخارجية» في مجلس الشيوخ الأميركي ريتشارد هاس: «إن عصر أميركا في الشرق الأوسط قد زال»، وبسبب أهمية الشرق الأوسط، فقد ضعفت قوة أميركا العالمية لسنوات إن لم يكن لعقود.
هذا هو الوضع الذي تتخبط فيه القوات العسكرية الأميركية، رغم رفع موازنة وزارة الدفاع (البنتاغون) من 364 مليار دولار عام 2001 إلى أكثر من 620 مليار دولار في 2007.
فللولايات المتحدة 750 قاعدة عسكرية حول العالم، وباتت تعيش في مستويات تفوق بكثير قدراتها الحقيقية. فقد تبخر فائض الميزان التجاري وميزان حساب المدفوعات الجاري، الذي بلغ نحو 6 مليارات دولار في سنة 1964 نتيجة حرب فييتنام، وأصبحت تعتمد على القروض الخارجية، وعلى تصدير الدولار ـــــ الذي يعدّ شكلاً من أشكال سندات الخزينة ـــــ لتمويل عجز يقارب تريليون دولار سنوياً.
ويبدو الاقتصاد الأميركي متّجهاً إلى مأزق بنيوي كبير مع بداية انفجار الفقاعة العقارية وهبوط أسعار الأسهم وارتفاع معدلات البطالة، وانتشار الفقر وتوسّع رقعته، حيث تدلّ الإحصاءات الأميركية على وجود أكثر من 36 مليون أميركي تحت خط الفقر. فهذه الضائقة المالية أجبرت البنتاغون مثلاً على خفض عدد العربات المدرّعة التي كان يسعى لإرسالها إلى العراق. فقد كان مقرراً إرسال نحو 3900 عربة لسدّ حاجات قواته في العراق، لكن هذا الرقم خُفض إلى نحو 1500 من طراز «مراب» قوية التدريع.
وفي الوقت الذي تتخبّط فيه الإمبريالية الأميركية في العراق وأفغانستان وفلسطين، حيث تخوض حروباً غير متوازنة، عجزت عن فهمها والاستعداد لها، فإنها تتعرّض على صعيد الحروب النظامية إلى تقدم العديد من منافسيها الدوليين مثل روسيا والصين خاصة، وهو مما أوقع الرؤية الاستراتيجية الأميركية بين خيارات صعبة رغم مضاعفة موازنة البنتاغون. فقد شهدت السنوات الست الأخيرة زيادات كبيرة في موازنات القوات المسلحة والمخابرات، وكذلك الدفاع الداخلي «وهو نوع جديد من الإنفاق»، حسبما تقول مجلة Affairs Foreign في عددها الرابع لسنة 2007. فوزير الدفاع السابق، دونالد رامسفيلد، «مدفوعاً برؤيته للحروب المستقبلية، خفض من أهمية القوات الأرضية، ولمصلحة تلك المعدة للسيطرة على الجو والبحر والفضاء، فأهمل القوة الجوية المعتمدة على طائرات F22 المقاتلة وسلاح المدفعية، مفضلاً الإنفاق على مشاريع البحث والتطوير للجيل ما بعد المقبل من الأسلحة». وتضيف المجلة: «ليس هناك أمل في حدوث تغيير مفاجئ في الشأن العالمي يعطي مفعولاً سلمياً إيجابياً كالذي حصل بعد سقوط جدار برلين». وبعكس ذلك، فعندما تسقط الأكلاف غير العادية لحربي أفغانستان والعراق، ستحتاج الأمة إلى زيادة الإنفاق على دفاعها الخاص ـــــ وخصوصاً في موازنات السياسة العامة ومساعدات التنمية، ودعم الديموقراطية ـــــ ممّا يجعل الهوّة في الإنفاق على الأمن تتّسع. ثمّ إن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية Baby Boomers أصبح الآن في طور التقاعد. والإنفاق على غير الدفاع سيرتفع أكثر مما ارتفع في الماضي.
وتتطلع الإمبريالية الأميركية بقلق شديد إلى تطور القدرات الاقتصادية والعسكرية الصينية. تقول الـ «Economist»: «الصين هي أكبر دولة تثير قلق البنتاغون... فقيادتها الشيوعية تستثمر في بناء أسطول بحري كبير، يمكن أن يشمل في المستقبل حاملات طائرات، ربما لإقامة خط دفاع عميق في المحيط الهادئ، عبر سلسلة جزر تمتد من اليابان إلى «غوام» وPapua، كذلك تُحدّث مخزونها النووي... الآن يظهر أن الصينيين مهتمون بسيطرتهم على منطقتهم، وخصوصاً في إبعاد الأميركيين عند أي صراع مقبل حول تايوان. وهم يشدّدون على وسائط دفاع غير موازية، مصمَّمة لتحييد التقدم التقني الأميركي: يأملون أن يمنعوا أميركا من استعمال البحار، بواسطة صواريخ بعيدة المدى ضد السفن والغواصات، وشلل قواتها المزودة بحواسيب بشكل كثيف، عبر حروب الفضاء وتدمير أقمارها الصناعية المعدة للتجسس والاتصالات. والصين ترفع موازنتها العسكرية سنوياً بنسبة 12 في المئة».
فالإمبريالية الأميركية تتخبّط في أزمات عديدة ومتزامنة، اقتصادية ومالية وعسكرية، وأزمة عداء شديد لها في العالم، تحديداً في العالمين العربي والإسلامي. كذلك تعاني إفلاساً أخلاقياً وقيَمياً، وأزمة داخلية متصاعدة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. كل ذلك دفع مراقب النفقات العامة في الولايات المتحدة، دايفد فولكر، ليقول إن الأوضاع الحالية في أميركا تشبه إلى حد بعيد ما كانت عليه الحال في روما القديمة قبل سقوطها.

الأمبراطور العاجز

من كلّ ما سبق، يتّضح أن ليس للولايات المتحدة قدرات مالية واقتصادية وعسكرية للقيام بعدوان على إيران خاصة، حتى لو كان هذا العدوان سيقتصر على توجيه ضربات جوية وبالصواريخ الى المؤسسات النووية والبنية التحتية الإيرانية. فلدى إيران قدرات صاروخية عديدة ومؤثرة يمكن أن تطال قطع البحرية الأميركية، وأن تغرق حاملتي الطائرات حسبما تقول بعض التقديرات، كذلك تدمير العديد من القواعد والقوات الأميركية في أفغانستان والعراق ودول الخليج. ويعارض القادة العسكريون الأميركيون في العراق بشدّة مثل هذه الحرب، التي ستعرّضهم لمزيد من الضربات العسكرية البعيدة والقريبة، عبر تجنيد الطاقات العسكرية الإيرانية بجانب المقاومتين العراقية والأفغانية، وتصعيب عمليات إمداد القوات الأميركية في الميدان، تلك القوات التي تعاني الآن مصاعب كبيرة في هذا المجال. كذلك حلفاء أميركا الأوروبيون على نحو خاص، يعارضون مثل هذه الحرب التي ستنعكس سريعاً على قواتهم في أفغانستان وعلى إمدادات الطاقة لهم وأسعارها، وعلى الاقتصاد العالمي، ويدركون أن هذه الحرب ستزيد الكراهية لأميركا وتعرّض مصالحهم في كل أنحاء العالم للتهديدات الجدية. كل ذلك في الوقت الذي لن تستطيع فيه أميركا تحقيق أي انتصار على الأرض يعوض لها الخسائر المتوقّعة. فعدوان كهذا لن يقلب المعادلات العسكرية والسياسية في المنطقة، لا في العراق وأفغانستان ولا في فلسطين ولبنان وسوريا. وبالتالي، فإن التهديدات العسكرية، وتسريب نوايا العدوان على إيران، يقعان في إطار الضغوط النفسية والسياسية المسنودة بطرح تصعيد الحصار الاقتصادي، علّ هذه الضغوط تفتح أبواباً لحلّ الصراع مع إيران، تحفظ ماء وجه الإمبريالية الأميركية وحلفائها الغربيين. أما التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير غير الرزينة، فلا تمثّل أكثر من بالونات اختبار سياسية لاستدراج ردود الفعل الدولية، التي لم تكن لمصلحة نيكولا ساركوزي وبوش.
أما إمكانات شن عدوان عسكري على سوريا ولبنان بأداة إسرائيلية، فهي مستبعدة أيضاً، إذ يمكن أن تستدرج إيران لخوض مثل هذه الحرب، وثانياً، بسبب نتائج حرب تمّوز، وظهور نقاط الضعف العسكرية والبشرية في الكيان الصهيوني، وحاجة جيشه إلى خمس سنوات ـــــ من 2008 إلى 2012 حسبما تقول إسرائيل ـــــ لاستكمال تغيير العقيدة العسكرية الإسرائيلية واستعادة قواها العدوانية. والكيان الصهيوني لا يستطيع المغامرة بخوض معركة عسكرية فاشلة أخرى، إذ إن فشلاً جديداً بحجم حرب تموز قد يعني انهيار الكيان الصهيوني. ولا يمكن إسرائيل أن تغامر بمثل هذه الحرب في الوقت الذي تعجز فيه أميركا عن دعمها الكامل، كما في الحروب السابقة، وفي الوقت الذي تعمل فيه واشنطن بكل طاقاتها السياسية والاقتصادية على إنهاء الصراع العربي ـــــ الصهيوني، مدعومة بأنظمة «الاعتدال العربي» ونظام أبو مازن في الأرض المحتلة. وبالرغم من أن هذه المحاولة لإنهاء الصراع العربي ـــــ الصهيوني لا تمثل أكثر من «طبخة حصى»، كما يقول المثل، فإنها تساعد أميركا وإسرائيل على اجتياز مرحلة ضعف كبيرة تمرّ بها الإمبريالية الأميركية.
أقصى ما يمكن توقّعه في هذه المرحلة، على الصعيد العسكري، هو قيام إسرائيل باجتياحات متكررة لقطاع غزة، بغية إرهاق حركة «حماس». والتهديدات بحروب أميركية يجب ألا تربك المقاومة في لبنان وتدفعها إلى تقديم المزيد من التنازلات لقوى السلطة اللبنانية المستلحقة كلياً، ولا تربك السياسة السورية وتدفعها إلى التردد والمساومة بدل الاستفادة من مرحلة انهيار العدو الأميركي في العراق.
* كاتب لبناني