عزمي بشارة
سياسة المواجهة مؤكّدة... الحرب ممكنة

لا شك في أن الاصطفاف الإقليمي الذي تعكف عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها بتسخير أدوات عديدة مألوفة وغير مألوفة، يتجه نحو المواجهة.
لماذا يستثني كثيرون إمكانية شن الحرب على إيران؟ لأن التفكير المنطقي في المعطيات والحقائق على الأرض والتجربة الأميركية في العراق يقضي مثل هذه الإمكانية، بدءاً من انفضاح مسألة أسلحة الدمار الشامل إلى التورط في عملية تدمير دولة العراق ومجتمعه بشكل شامل، والتأمل في إسقاطات ممكنة للحرب على إيران بما في ذلك الردود الإيرانية المتاحة، كلاهما يلح على العقل السليم بالاستنتاج أن الحرب لا ترد في حساب دولة عظمى مسؤولة. وهذا يجعلنا عادة نستدرك: ولكن الحسابات قد تكون إيديولوجية وغيبية، وهي ليست حسابات عقلانية استراتيجية بالضرورة:
خذ مثلاً نزعات بوش وتشيني الرامية إلى محاربة «محور الشر» والتعويض بعد ذلك عن الأخطاء في الحسابات وعن فقدان الحكمة بالقوة العاتية التدميرية الغاشمة!! ولا تنس أن تعرج أيضاً على الشحن الطائفي المذهبي!! لقد درجت العادة أن نسمي هذه دوافع غير عقلانية.
ولكن هذا تبسيط للدوافع لشن الحرب، فهي لا تقتصر على هراء وسخافات، إذ ثمة أسباب استراتيجية «عقلانية» لشن الحرب على إيران، هذا إذا قصرنا العقلانية على البراغماتية في خدمة الأهداف: أولها إنه حتى لو لم تتوافر لإيران أية قوة نووية يتعذر على أميركا صنع تسوية في العراق تعيد بموجبها نشر قواتها من دون أن يسبق ذلك تحجيم قوة إيران والمس بـ«قدرتها على ملء الفراغ» وضرب هيبتها أمام شيعة العراق تحديداً. وثانيها، ما تكرره إسرائيل دائماً، وهو إذا لم تضرب إيران الآن، فسوف يفوت الوقت عندما تمتلك قنبلة نووية.
يقود عالم القطب الواحد، وعالم الإمبراطورية، يضاف إليهما السيطرة على مصادر النفط وإسرائيل وأخيراً 11 أيلول، إلى اتباع سياسة صدام مع من يرفض الهيمنة الأميركية المطلقة على المنطقة. وتندفع السياسة الأميركية حالياً بالتنسيق مع حلفائها في سياسة صدامية مع إيران، ومع سوريا. هذه الصورة لا تنفي وجود حدود للتدخل الأميركي العسكري. فقواته رهائن مثل هذا التدخل في العراق وأفغانستان، ما يجعل البنتاغون، وربما الجيش نفسه، يعترض على فكرة شن الحرب. وقد كانت آخر المؤشرات الكثيرة في هذا الخصوص شهادة رئيس الأركان كيسي أمام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس، حيث قال بوضوح إن جسم الجيش مشدود حتى يكاد ينقطع، وإنه لا يستطيع التصدي لمهمة مواجهة عسكرية أخرى (بوسطن جلوب 27 أيلول). وقد وصف بعض النواب الشهادة بأنها مخيفة، ذاكراً رقماً فلكياً لامسته تكاليف الحربين منذ عام 2003 وهو 600 بليون دولار.
إنها سياسة مواجهة إذاً، ولكن ليست بالضرورة حرباً. لقد حسمت مسألة المضي قدماً في مواجهة نهج رفض الإملاءات الأميركية في العراق ولبنان وسوريا وفلسطين. ولكن لم تحسم مسألة الحرب بعد... الحرب واردة ولكنها ليست مؤكدة، المؤكد هو سياسة المواجهة.
قد تعني سياسة المواجهة عقوبات دولية وحصاراً مستمراً وتأليب المناطق الحدودية، وقد تعني القيام بعمليات عسكرية إسرائيلية متفرقة في لبنان وسوريا وعمليات أميركية ضد إيران، واحتمالات كثيرة واردة، ولكن ليست بالضرورة حرباً شاملة. ولا بد من أن تطالب الإدارة الأميركية مَن يعترض على الحرب من صناع القرار فيها أن يقدم سيناريوهات بديلة تؤدي الغرض نفسه من الاستنزاف إلى أن تلوح فرصة أخرى. هذا ما يتفق عليه جزء كبير من الإدارة والكونغرس، وهذا ما يدور حالياً أوروبياً وحتى عربياً.
ـــــ ماذا تقصد بفرصة أخرى؟
ـــــ أموراً عديدة، حرباً إسرائيلية على سوريا مثلاً، تخدم الهدف نفسه لتحجيم هذا المعسكر، وتقطع الاستمرارية بين حزب الله وإيران وتساهم في عزل إيران، هذا على سبيل المثال لا الحصر. ولكنه رهان خطير جداً. فهو يجبر الفريق عينه على الإثبات أن هذا الخيار يحمل المخاطر نفسها للمعتدي.



لفلسطين سبب، للبنان وسوريا أكثر من سبب

اجتماع بوش المرتقب في واشنطن هو جزء من سياسة المواجهة أعلاه. إنه دائرة العلاقات العامة للمواجهة. فهو الذي يقدم أميركا وإسرائيل أطرافاً مهتمة لا بالصدام فقط، بل أيضاً بما يهمّ العرب، مثل قضية فلسطين. إنه أداة جعل التحالف بين إسرائيل و«محور الاعتدال» ضد «محور التطرف» يبدو أمراً طبيعياً، أو تطبيعياً لمن شاء.
ليس هناك من يتوقع من الاجتماع المرتقب حلاً عادلاً أو منصفاً نسبياً لقضية فلسطين، كما يجري تنظيمه و«طحن الكلام» حوله بموازاة طحن غزة وقتل الغزّاويين، وهذا بحد ذاته سبب لعدم حضور الاجتماع من قبل أي طرف فلسطيني مهما سال لعابه على أية مكرمة كولونيالية إسرائيلية.
أما لبنان فلديه أكثر من سبب لرفض حضور المؤتمر حتى لو دُعي، وذلك ليس فقط لأن قضيته مع إسرائيل لن تبحث، وليس فقط لأنه سوف يكون شاهداً على عدم حل قضية فلسطين، وليس فقط لأنه سيكون غطاء لاجتماع هو دائرة علاقات عامة للصدام والمواجهة مع «محور التطرف» الذي يضم إليه المنظمون قسماً كبيراً من لبنان، بل أيضاً لأن لبنان قد تعرض للعدوان والقصف والتدمير والتخريب، قبل عام فقط، من قبل المعتدي نفسه الذي سيحضر المؤتمر. فحكومته لم تتغير ولم تُحاسب ولم تُحاكم. يُطلب من لبنان أن يعتبرها شريكاً تفاوضياً والجسور التي هدمتها لم تبنَ بعد، وغالبية المنازل لا تزال مهدمة، والقنابل العنقودية لا تزال تنفجر بالأبرياء. مشاركة لبنان في اجتماع مع إسرائيل هو تبرئة لإسرائيل من العدوان والفظائع والجرائم التي لا تحصى والتي ارتكبتها ضد مدنييه خلال هذا العدوان.
إن مجرد التفكير في دعوة لبنان إلى مثل هذا المؤتمر هو وقاحة.
أما سوريا فتُستدرج لحضور المؤتمر بالادعاء أن السلام غير ممكن من دون سوريا، (أي سلام؟ وأي ممكن؟). هذا استدراج يعرض مجرد دعوة سوريا إنجازاً. هذا البعض عينه يرى في المؤتمر مناسبة لمحاصرة سوريا، ولا يجوز إهمال كل ما يقوله ويفعله، ثم الاحتفال بجملة بديهية من نوع «السلام غير ممكن من دون سوريا». إذا لبّت سوريا الدعوة لحضور المؤتمر فسوف تخسر موقفها الممانع، ولن تربح شيئاً بالمقابل... حتى لو سجلت تحفّظات.
في الماضي كان يكفي الاتفاق على أن حضور مثل هذا الاجتماع هو شهادة زور ضد قضية فلسطين لكي يقاطعه العرب. أما في يومنا فيجب كما يبدو إقناع كل دولة عربية بأسبابها هي لعدم الذهاب.
بين المقاومة والتحرّر

يحمِّل بعضنا كل إحباطات اليسار والقوى الديموقراطية على القوى التي تقاوم الهيمنة الأميركية والإسرائيلية حالياً، ويحاسبها على هذا الأساس.
هناك حركات مقاومة تعبّئ وتجنّد وتناضل في مقاومة الاحتلال، من دون برنامج مشتق من قيم تحررية ويطمح لوضع تصور لمستقبل الأمة برمتها بعد التخلص من الاحتلال. ولا يخفى وجود تفاوت بين حركات المقاومة. فمنها من ينجح بإقامة مؤسسات مجتمعية ووضع استراتيجية تذهل الخصم منفذاً بذلك مهمات تحررية في مجتمعات تستعيد ثقتها بذاتها أمام المستعمر، ومنها من لا ينجح ولا يتمكن من ترجمة الأذى الذي يلحقه بالاحتلال الى فائدة لمجتمعه.
ليست كل مقاومة هي حركة تحرر. وقد آن الأوان لصنع هذا التمييز. ولكن لا معنى لحركة تحرر لا تقاوم احتلال أرضها.
إذا كان هذا مفهوماً فإننا نتقدم خطوة وندّعي أنه لا يجوز لقوى تعتبر نفسها تحررية أن تطالب المقاومة من خارجها أن تحمل قيمها هي وأن تحاسبها على هذا الأساس. فهي إضافة لحمل عبء المقاومة عنها تريدها أن تنفذ أيضاً مهمة القوى التي فشلت في تنفيذها.
نحن هنا نميز بين من انتقل إلى العدمية في أسوأ مواقع اليمين ومن يستمر بحمل قيم التحرر نفسها. وحتى من يستمر في حمل القيم نفسها متجاوزاً الأساليب والمناهج السابقة، ومنها موقفه السلبي السابق من الديموقراطية الليبرالية، عليه أن يسأل نفسه كيف يمكن أن يطلب من المقاومة ويحاسبها بمعاييره الجديدة من دون أن يحاسب ذاته بتواضع، ومن دون أن يتصدى هو لحمل التحدي؟ وهل يمكن معارضة مبدأ المقاومة والتحاور معها حول كيفية أداء المقاومة في الوقت عينه؟



سايكس بيكو في الكونغرس

مجرد كون قرار الكونغرس الأميركي يوم الأربعاء 26 سبتمبر/أيلول الداعي الى تقسيم العراق إلى طوائف متحدة فدرالياً في ظل حكومة مركزية ضعيفة قراراً غيرَ ملزمٍ للإدارة ولا للشعب العراقي، لا يعني أنه غير مهم. كان هدف القرار الذي اقترحه جوزيف بايدن تكتيل الديموقراطيين واجتذاب أصوات من الجمهوريين لاقتراح بديل لسياسة الإدارة في العراق، بحيث يتجاوز مقولة إن الانسحاب من دون بديل يعني الكارثة والحرب الأهلية المحققة. لقد حاول الكونغرس اقتراح البديل داخل الإطار الاستعماري المشترك. ومر الاقتراح بأغلبية 75 صوتاً ضد 23، وجذب إلى الأغلبية 26 صوتاً جمهورياً. وليس مهماً لهذا الغرض أن يصرح نائب أميركي بأن الشعب العراقي يستطيع أن يرفض أو يقبل هذا الاقتراح. فاقتراح برلمان الدولة الاستعمارية ليس مجرد ثرثرة لتمرير أوقات الفراغ.
فمنذ اجتاح هذا المستعمر العراق وهو يتعامل معه في تحالفاته وممارسته كطوائف مضطهِدة وطوائف مضطهَدة، وكأن البلد خليط قسري من مناطق ووحدات سياسية طائفية أجبرت على العش معاً. ليست هذه بنية العراق المعطاة و«الطبيعية»، بل هي ما يفرض على العراق بالتعاون بين الاحتلال وحلفائه. والكارثة أن رد الفعل على هذه التحالفات يتخذ أيضاً شكلاً طائفياًَ.
لقد حُقنت العملية السياسية والثقافة السياسية بهذا الفيروس الطائفي، ثم قامت الدولة الاستعمارية بالخطوة المترتبة على ذلك، إذ أجابت عن سؤال مصاغ طائفياً ببنية طائفية فدرالية.
يتجاوز هذا التقسيم اتفاق سايكس بيكو الاستعماري الذي أخذ مصالح الدول الاستعمارية بعين الاعتبار، إذ يعلن الوريث الاستعماري فشل كيانات سايكس بيكو في تحقيق وطنية مشتركة أو مواطنة مشتركة، ويطرح تقسيماً جديداً.
جرؤ على هذا التقسيم أعضاء برلمان دولة لم يغادر العديد منهم الولايات المتحدة في حياته، ولا يملك بعضهم حتى جواز سفر. ومنهم من لم يعرف إلى فترة وجيزة أين يقع العراق. وهو لا يكتفي بالتنظير للعراق فحسب، ولا يقترح حلولاً فقط، بل يقوم بتقسيمه ورسم حدود طائفية سياسية داخله سوف تؤدي بجرة قلم الى شطب حياة الملايين المتداخلة. وسوف يشجع هذا الطرح على عمليات التطهير الطائفي ويسرّعها. فما دام في الأفق «حل» من هذا النوع سوف يسرع البعض إلى إيجاد وقائع على الأرض. إنه من نوع نبوءات السوء التي تحقق ذاتها.