محمّد سيّد رصاص *
حمت أجواء الحرب الباردة دولة باكستان من التداعي بعد انفصال باكستان الشرقية عن الغربية في عام 1971، إثر هزيمة اسلام آباد أمام الهند في حرب ذلك العام. بل يمكن القول بأنّ الدور الباكستاني كحاجز أمام نيودلهي، الحليفة الوثيقة للسوفيات، إضافة إلى ما لعبته باكستان من أدوار في فتح الطريق للتقارب الأميركي ـــ الصيني في صيف1971، قد جعل الدور الباكستاني فائق الأهمية عند صانع القرار الأميركي، إلى درجة وصلت إلى حدود غض نظر واشنطن عن الجهود التي افتتحها رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو من أجل امتلاك القنبلة النووية مباشرة بعد إجراء الهند لتجربتها النووية الأولى في شهر أيار من عام 1974.
تعزز هذا الدور الباكستاني، تماماً مثل الدورين السعودي والعراقي، بعد صعود الإمام الخميني إلى السلطة الإيرانية في شهر شباط 1979، ثم أصبح جوهرياً وأساسياً في السياسة الأميركية إثر الغزو السوفياتي لأفغانستان في الشهر الأخير من ذلك العام، عندما شكلت باكستان بالنسبة لـ«المجاهدين» الأفغان وضعية شبيهة بوضعية فيتنام الشمالية تجاه (الفيتكونغ).
ربما يعطي موت الجنرال ضياء الحق، في حادث تحطم طائرة في شهر آب من عام 1988، مؤشراً رمزياً إلى بداية تقلص الدور الباكستاني، وخاصة أنه أتى بعد أربعة أشهر من توقيع اتفاقية جدولة الانسحاب السوفياتي من أفغانستان الذي اكتمل في شهر شباط 1989. وقد أسدلت واشنطن بعدها ستائر النسيان على أفغانستان التي غرقت في فوضى تنظيمات «المجاهدين» المتناحرة، إلى أن أعاد أسامة بن لادن الاهتمام الأميركي بتلك البلاد منذ شهر آب من عام 1998مع تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا، وذلك بعد ستة أشهر من الإعلان العلني لولادة تنظيم «القاعدة».
هنا، بالتأكيد، كان تفكير وزير داخلية حكومة بينازير بوتو في عامي1993 و1994بدعم عملية تأسيس حركة (طالبان) على الضد من رأي الاستخبارات العسكرية الباكستانية التي كانت الحاضن الرئيسي لتنظيمات «المجاهدين» في الثمانينيات، بمثابة حركة وقائية لتجاوز الاتّجاه الأميركي إلى تهميش الدور الباكستاني لمصلحة الهند بعد انتهاء الحرب الباردة، من خلال إيجاد حكومة موالية في كابول، ولمحاولة إيجاد ممر جغرافي إلى حلبة التنافس على النفوذ في جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية التي استعرت في النصف الأول من التسعينيات بين تركيا (مدعومة من أميركا والسعودية) وإيران.
لم تكن واشنطن منزعجة كثيراً من ذلك في البداية، وخاصة لما دخلت شركة «يونوكال» الأميركية ـــ كان وسيطها يدعى حامد كرزاي ـــ في مفاوضات مع حكومة (طالبان) التي سيطرت على كابول في شهر أيلول 1996، من أجل إنشاء أنبوب للغاز الآتي من تركمانستان عبر أفغانستان للوصول إلى المرافئ الباكستانية بدلاً من الايرانية. إلا أن ذلك كله قد انقلب إلى مشهد معاكس مع دخول «القاعدة» في الصورة بالتحالف مع حكومة كابول الموالية لباكستان، ما جعل العلاقات الأميركية ـــ الباكستانية تدخل في توترات متصاعدة أدّت بالأميركيين للوقوف في صف «تحالف الشمال» المعادي لطالبان، والمدعوم من روسيا والهند وإيران.
يُقال، حسب وثائق أميركية كشفت أخيراً، بأنّ واشنطن هدّدت إسلام آباد، في الأسابيع التالية لـ (11أيلول) بضرب منشآتها النووية إن لم تدعم الغزو الأميركي لأفغانستان. ويُقال بأن حسابات الجنرال مشرّف قد رجحَت دعم واشنطن في ذلك خوفاً من سقوطه، ولو أدى ذلك إلى سقوط الحكومة الموالية للباكستانيين ونشوء حكومة معادية هناك، إضافة إلى استعداء الجنرال بذلك لقسم كبير من الرأي العام الباكستاني المعادي للأميركان لأسباب شتى، منها العقائدي ومنها الروابط القبلية أو القومية مع الباشتون في أفغانستان الذين يشكلون الأرضية الاجتماعية لطالبان.
يلاحظ، في هذا الإطار، أنه على الرغم من حفاظ واشنطن على حكم الجنرال الباكستاني وتمسكها به لحسابات ربما تتجاوز ما قدمه ضد (القاعدة) و(طالبان) في السنوات الأخيرة لتصل إلى خوف أميركي كبير من وقوع السلاح النووي الباكستاني في أيدي قوى «غير منضبطة» أو«معادية» في حال سقوطه، فإن الأميركان ما زالوا يتجهون بقوة إلى ترسيخ الاتجاه الذي بدأ عندهم في مرحلة «ما بعد موسكو» لتقوية الهند كحاجز أمام الصين وإلى الاستمرار في تهميش الدور الإقليمي الباكستاني.
يلفت النظر، هنا، بأن هذا الفقدان الباكستاني للدور عند «القطب الواحد» للعالم يترافق مع بداية الانفجار والاضطراب الداخليين، وخاصة عندما يكون هناك قوى اجتماعية باكستانية قوية، عند الإسلاميين والقبائل وعند قومية البلوش، ترى انعدام المصلحة في تجند باكستان في الحرب ضد القاعدة وطالبان، وتقف في موقف مضاد لحليف الجنرال وداعمه الرئيسي، أي واشنطن.
نرى هنا كيف أن الخلاف في الرؤى والأجندات بين القوى الباكستانية، في السلطة والمعارضة، تجاه اللوحة الإقليمية، وكذلك في رؤيتهما للعامل الأميركي، يؤدي إلى اضطراب واحتراب كبيرين في الداخل الباكستاني، ما أدّى إلى تفجير الكثير من الألغام الداخلية التي كانت موجودة في البنية الاجتماعية الباكستانية منذ إنشاء تلك الدولة في عام 1947، والتي لم تنفجر، أثناء وبعد قطوع انفصال باكستان الشرقية (بنغلادش)، بسبب الحاضنة الدولية للدور الإقليمي لإسلام آباد في زمن الثنائية القطبية، والتي يبدو أنها لم تعد موجودة الآن، إلا أنها ـــ واشنطن ـــ ما زالت مترددة أمام مصير الكيان الباكستاني وبقائه موحداً.
إلى أين تتجه باكستان؟
* كاتب سوري