ياسين تملالي *
إذا استثنينا إعفاء الدبلوماسيين الجزائريين والفرنسيين من طلب التأشيرة للتنقل بين الجزائر وفرنسا، لم تؤدِّ زيارة نيكولا ساركوزي للجزائر في 10 تموز الماضي إلى نتائجَ ملموسة تذكر. فعكس تصريحات الرئيس الفرنسي المتفائلة عن «حماسة» الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لفكرة «الاتحاد المتوسطي»، لم يصدر عن السلطات الجزائرية أي موقف صريح مؤيد لهذا المشروع الغامض الملامح. كما أن اقتراح نيكولا ساركوزي بتعميق العلاقات الاقتصادية بين البلدين عن طريق شراكة خصوصية بين المؤسسة البترولية الجزائرية «سوناطراك» وشركة غاز فرنسا، قوبل بنوع من الفتور من أهم مسؤولي الاقتصاد الجزائري.
لماذا إذاً جاء نيكولا ساركوزي إلى الجزائر في أول سفر له خارج أوروبا منذ تبوّئه كرسي الرئاسة؟ يبدو أن الهدف الأساسي من زيارته هو الإشارة مجدّداً إلى قطيعته مع الإرث الدبلوماسي الشيراكي، وذلك بمحاولة وضع أساس رمزي جديد للعلاقات بين البلدين. ويتمثل هذا الأساس الجديد في الطي النهائي لصفحة ما يسميه الفرنسيون «حرب الجزائر»، (أي حرب التحرير الوطني)، بإخراجها من دائرة المفاوضات السياسية بين البلدين وإقــــناع الحكومة الجزائرية بأن مطالبتها فرنسا بـ«الاعتذار عن جرائم الاستعمار» لن يكتب لها يوماً أن تتحقق. فقد صرح ساركوزي للصحافة عقب لقائه الرئيس الجزائري بأن الدولة الفرنسية لن تطلب من الجزائريين أن يغفروا لها مآسي الحقبة الاستعمارية، لأن لأوروبيي الجزائر كذلك مآسيهم، حسب قـــــــوله، ولأن الماضي، كما أضاف، «لا يجب أن ينسينا المستقبل». كما طرَح الرئيس الفرنسي دون مواربة مـــــــــشروع اتفاقية الـــــــــصداقة الفرنسية ـــــ الجزائرية بحجة أن «الصداقة أفعال لا أقوال»، ما يعد رداً صارماً ـــــ بل وشبه مهين ـــــ على ربط الدبلوماسية البوتفليقية التوقيع على هذه المعاهدة باعتذار الدولة الفــــــــرنسية للجــــــزائريين عما سببه لهم الاحتلال من معاناة.
وليست هذه أول مرة يردد فيها نيكولا ساركوزي ضرورة بناء العلاقات الجزائرية ـــــ الفرنسية على قاعدة من المصالح الاقتصادية والسياسية المشتركة لا غير. فقد كان ذلك أحد ثوابت حملته الانتخابية الأخيرة. إلا أن التعبير عنه بهذا الشكل عديم الدبلوماسية تقريباً ـــــ وبحضور الرئيس الجزائري ـــــ يعطيه بعداً آخر غير بعده الانتخابي المتمثل في استمالة أكثر قدامى أوروبيّي الجزائر (الأقدام السوداء) حنيناً إلى «الجزائر الفرنسية»، وهم الذين كانت ضغوطهم وراء التصويت على قانون 23 شباط الممجد لمآثر الاستعمار المزعومة.
وهذا الخطاب الساركوزي الصارم جديد نسبياً في تاريخ الخطابات الفرنسية الرسمية عن العلاقات مع الجزائر. فحامي حمى الديغولية التقليدية، الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، وإن صرح مرات عديدة هو الآخر بأن مآسي الفترة الاستعمارية لم تكن حكراً على الجزائريين، لم يذهب هذا البعد في تمزيق صفحة الماضي بذريعة بناء المستقبل. كما أنه لم يخف نقمته على الفصيل الأكثر يمينية في حزبه (الحركة من أجل الجمهورية)، هذا الفصيل الذي كان وراء صياغة قانون 23 شباط السيئ الذكر. بعكس جاك شيراك إذن، لا يتردد نيكولا ساركوزي في التذكير بأنه صاحب تصور جديد لعلاقات فرنسا الدولية، تصور يهمل فيه التاريخ كمعطى ذاتي غير ذي قيمة، ولا تبنى فيه هذه العلاقات على غير المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الآنية منها والمستقبلية.
ويمكن القول بأن العلاقات مع الجزائر هي أحد الميادين التي يحاول فيها ساركوزي التميز عن سلفه. لقد كان أحد هواجس جاك شيراك تخليد اسمه رئيساً طوى صفحة التوتر مع الجزائر بالتوقيع على معاهدة صداقة معها. أما هاجس ساركوزي فيبدو أنه البقاء في صفحات التاريخ رئيساً «قوياً» لم يلن أمام «ابتزاز الجزائريين» كما تقول الصحافة الفرنسية الأكثر يمينية، أو بتعبير آخر أقل حدة، كسياسي براغماتي يقترح على الجزائر صفقة واضحة: مساعدتها في ميداني الصناعة وإنتاج الطاقة النووية لقاء التزامها شراكة طويلة الأمد تضمن لفرنسا استقرار وارداتها من الغاز الطبيعي. أما الماضي، فيقترح التخلص من شبحه وحصره في دائرة البحث التاريخي الجامعي، دائرة ما اصطلح على تسميته «عمل الذاكرة».
ولم تعلق الدبلوماسية الجزائرية على تصريحات الرئيس ساركوزي بشيء سوى التذكير بـ«واجب عدم نسيان التاريخ، وإن طويت صفحته»، حسب تعبير وزير الخارجية، مراد مدلسي. وقد أغفلت تماماً كون هذه التصريحات أذنت بافتتاح المأتم الرسمي لمعاهدة الصداقة التي يعرف الجميع أنها فكرة «شيراكية ـــــ بوتفليقية» مشتركة. كما أن تأكيد الرئيس الفرنسي على «آلام ومعاناة» أوروبيّي الجزائر خلال الثورة التحريرية لم يقابل بأي تعليق رسمي يذكّر بأن الجزائريين كانوا هم المستعمَرين لا الأوروبيين. والواقع أن هذا اللين في الموقف الجزائري بدأت معالمه تتضح منذ شهور. فالرئيس بوتفليقة الذي اعتاد منذ سنوات دعوة فرنسا إلى طلب الغفران من الشعب الجزائري أغفل هذا المطلب تماماً في خطابه بمناسبة ذكرى مجازر أيار 1945، كما تجنب مجرد الإشارة إليه في 5 تموز الماضي في حديثه إلى الجزائريين بمناسبة عيد الاستقلال الخامس والأربعين.
ويدل اعتدال رد الفعل الرسمي الجزائري على تصريحات نيكولا ساركوزي على أمرين اثنين: أولهما رغبة فصيل من السلطة في بناء علاقات براغماتية بحتة مع فرنسا: هذا الفصيل سيستغل رفض الرئيس الفرنسي لفكرة الاعتذار للإشارة إلى عدم معقولية هذا المطلب تجاه بلد هو أول شريك تجاري للجزائر، وأحد كبار المستثمرين فيها. ثاني الأمرين هو الطابع الديماغوجي الصرف للخطاب الرسمي عن «فظائع الاستعمار». أما الترديد الممل لهذا الخطاب نفسه من طرف قيادات جمعيات قدامى محاربي وأبناء شهداء حرب التحرير، فيبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى مجرد إذعان لأوامر دوائرَ رسمية حاولت في مفاوضاتها مع فرنسا استغلال رغبة جاك شيراك في تخليد ذكره بوصفه سياسياً أخرج العلاقات مع الجزائر من بؤرة التوتر الدوري إلى دائرة الصداقة والاحترام المتبادلين.
ويمكن القول بأن السلطات الجزائرية هي الخاسر الوحيد في السجال الذي دام أكثر من ثلاث سنوات حول مقترح «اعتذار فرنسا عن الجرائم الاستعمارية». فمن الواضح أن رفض نيكولا ساركوزي لهذا المقترح سيضعها في موقف حرج تجاه قسم من الرأي العام، كما أنه سيحرمها إحدى ركائز دعايتها، ذلك أن موضوع «التوبة الفرنسية» ساعد الرئيس بوتفليقة كثيراً في السنوات الأخيرة على صرف الأنظار عن إخفاق سياساته الداخلية. أما نيكولا ساركوزي فقد ربح هذا السجال الرمزي على جبهتين اثنتين: الجبهة الخارجية بإظهار تهافت الخطاب الدبلوماسي الجزائري وتناقضاته، والجبهة الداخلية بظهوره بمظهر رجل سياسي ذي «أسلوب خاص» يعيد إلى الأذهان صرامة الجنرال ديغول التي ما زال الكثير من السياسيين الفرنسيين يحلمون بمحاكاتها.
* صحافي جزائري