نزار صاغيّة *
أخيراً أصدر مجلس شورى الدولة في هيئته العليا (مجلس القضايا) بالأكثريّة قرارين (18 تموز و1 آب 2007) بإعلان عدم صلاحيّته للنظر في الطعن الموجّه ضدّ مرسوم دعوة الناخبين إلى الانتخابات الفرعيّة على خلفيّة أنّ المرسوم يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من العمليّة الانتخابيّة النيابيّة التي تخضع برمّتها لصلاحيّة المجلس الدستوريّ.
ومن دون الغوص في تفاصيل حيثيات القرار، يقتضي لفت النظر الى أمرين: الأول أن المجلس توصّل الى حل المسألة المطروحة عليه وهي «أيهما المحكمة الصالحة، مجلس شورى الدولة أم المجلس الدستوري؟»، ليس انطلاقاً من نصوص قانونيّة واضحة، بل على أساس رأي خاصّ به وهو رأي يناقض الاجتهاد الفرنسيّ بل له من يناقضه داخل المجلس نفسه (من أهل البيت) كما هي حال الرأي المخالف للرئيس سرحان. وهذا يعني أن المجلس لم يكن خاضعاً لقوانين ملزمة بل تمتّع بهامش واسع في إعطاء الحلّ الذي يراه ملائماً، وكان بإمكانه لو أراد أن يعطي الحل المعاكس تماماً.
والأمر الثاني هو أنّ المجلس اعتمد للتوصل الى قراره على أسلوب الخطابة (RHETORIQUE) الهادف، لا الى إيجاد الحل الأكثر عدالة، بل الى إضفاء ظاهر الحق على الحلول التي يرمي إليها. ولم يبدُ هذا الأسلوب واضحاً فقط في ما تضمنه القرار من مبررات ــــــ غالبها «عصيّة على فهم القارئ العادي» ــــــ بل على الأخص في ما لم يتضمنه. فبأي منطق، استساغ المجلس إرادياً وطوعاً، من دون أي إلزام قانونيّ، بل خلافاً لاجتهادات فرنسيّة راسخة، حصر صلاحياته وتوسيع صلاحيّات المجلس الدستوريّ، فيما هو يعلم كلّ العلم أنّ المجلس الدستوريّ رافض أصلاً لهذه الصلاحيّات (قراره الصادر في 8-12-2000)، وبأيّة حال معطّل على نحو يجعله عاجزاً حاليّاً عن التصدّي لأيّ نزاع مهما قلّ شأنه؟ بل بأيّ منطق، استساغ المجلس إعلان موقفه المذكور من دون أي التفاتة الى هاتين الواقعتين، لا بل من دون أي التفاتة الى مؤدى قراره وهو حكماً الفراغ القانوني، أي التنكر لحقّ التقاضي؟ فلو كانت مقرّراته مفروضة قانوناً، لساغ القول: لا حول له ولا قوة، أما وأنه تمتع بهامش قانونيّ واسع في اختيار حلوله فذلك يعني أمراً واحداً وهو أنه استساغ طوعاً تحصين «الحاكم» في مواجهة أي مراقبة قضائية، ما يشكّل تنكراً للقضاء ولموقعه في النظام اللبناني وتالياً للذات!
وما يزيد الأمر سوءاً هو أن هذا التراجع القضائي يأتي في ظل الانقسام السياسي الحالي أي في زمن بات فيه اللبنانيون بحاجة ماسة الى حكام أو وسطاء «محايدين» مؤهلين لفضّ النزاعات بين أطراف الطبقة السياسية، بل (وهذا أيضاً أكثر سوءاً) يأتي تتمةً لتعطيل المجلس الدستوري ومكافأةً «غير منتظرة» للحاكم الذي اعتدى على القضاء! وهذا ما سأبيّنه أدناه عبر تحليل بعض حيثيّات القرار بدءاً بكيفيّة تعامل المجلس مع السّوابق القضائية وانتهاء ببعض الحيثيات المبدئيّة المثارة في قراريه.
الحيثيات المبنية على السوابق
فعلى صعيد السوابق، يسجل أن عرضها جاء مجتزأً بل متحيزاً، كأنّما المجلس سعى، لا الى فهم النوايا الكامنة وراءها أو الاستفادة منها، إنّما الى استغلالها دعماً لموقفه. فإذا أفرد القرار مساحات واسعة تتجاوز نصف حيثيّاته لعرض تطوّر اجتهاد المجلس الدستوريّ الفرنسيّ، فإنّه لزم الصمت بشكل كامل بشأن قرار أساسيّ للمجلس الدستوريّ اللبنانيّ (قرار 8-12-2000) أعلن فيه بالفم الملآن أنّه غير مختصّ للنظر في صحّة القرارات التمهيديّة للعمليّة الانتخابيّة! وإذا كان تجاهل سابقة مماثلة ممكناً نظرياً، فإنّه يشكّل خطأ فادحاً في ظلّ القضية الحاضرة حيث يتعين على مجلس شورى الدولة أن يولي مواقف المجلس الدستوريّ اللبنانيّ (لا فقط الفرنسيّ) مكانة بارزة (لا بل ربما حاسمة) في تعليله ضماناً لحقّ الناس بالتقاضي أمام أحد المراجع القضائية ودرءاً لأي تنازع في الصلاحيات! وما يعزز هذا الانتقاد هو ما انتهى إليه المجلسان الفرنسيان (الشورى والدستوري) بعد فترة من التجاذب والتحاور حين توافقا على نطاق كل منهما بحيث تراجع مجلس شورى الدولة عن النظر في أي نزاع متصل بالقرارات التمهيدية للانتخابات النيابية التي أعلن المجلس الدستوري نفسه مرجعاً صالحاً بشأنها بحيث يكون للمتقاضين في كل الأحوال مرجع صالح للنظر في شكاويهم!
وإذا لقي هذا الانسجام ثناء الفقه الفرنسي الذي رأى فيه نهجاً يصون حق التقاضي من دون تنازع في الصلاحيات، فإنّ مجلس شورى الدّولة اللبناني سعى في قراريه الى تحجيمه (أي هذا الانسجام) والى إنكاره آليّةً من شأنها تحقيق الاستقرار القانونيّ، لا بل الى إظهاره وكأنه مرحلة جديدة من التجاذب «غير المستحبّ» بين المجلسين. وتبعاً لذلك، رأى أن هذا الانسجام لا يشكل حائلاً كافياً دون معاودة التجاذب أي التنازع مجدداً على الصلاحيات، ما يبرر إعلان انسحابه الكامل من القضايا المماثلة من دون أي استثناء أو تفصيل.
وعلى هذا المنوال، خلص المجلس من دون أيّ سند الى القول بأن «المرحلة الأشدّ استقراراً في فرنسا كانت تلك الواقعة بين إنشاء المجلس الدستوري الفرنسي في 1958 وتاريخ الانعطاف الاجتهادي عام 1993»، أي المرحلة التي أعلن فيها مجلس شورى الدولة عدم اختصاصه للنظر في مراسيم دعوة الهيئات الناخبة! وهذا التقويم يعكس بالواقع هوساً للمجلس بالاستقرار القانوني، وبالمقابل، وفي الوقت نفسه، عدم اكتراثه لحق التقاضي. فإذا صحّ أنّه لم تحصل نزاعات بشأن الصلاحية في الفترة تلك، إلا أن من الثابت أن المتقاضي بدا خلالها، ولفترات طويلة، عاجزاً عن إيجاد مرجع قضائيّ صالح للنظر في قضايا مماثلة. وهذا ما حدا المجلسين الى العمل على تجاوزه، فبادر المجلس الدستوري أولاً (1981) الى إعلان صلاحيته، ليلحقه من ثم مجلس شورى الدولة بعدما بدا المجلس الدستوري عاجزاً عن التصدي لهذا الكمّ من النزاعات (1993)، ليحددا بعدئذ بالتوافق، ابتداء من 2001، صلاحية كلٍّ منهما على نحو يحول دون أيّ تنازع! وتالياً، إذا صحّ أن تاريخ الاجتهاد الفرنسي منذ إنشاء مجلسه الدستوري مرّ بمراحل عدة في هذا الصدد، فالصحيح أيضاً أنّ التوجّه الأساسيّ (بل الإشكاليّة الأساسية) لهذا الاجتهاد بات منذ 1981 تكريس حق التقاضي ضد قرارات الحاكم، أياً كان المرجع الصالح، فيما تولّى المجلسان معاً بعد ترسيخ حق التقاضي في كل جوانبه (وفقط بعد ذلك) حلّ الإشكاليات الثانوية، ومنها تنازع الصلاحيات بينهما. وبكلمة أخرى، فإنّ الإشكاليّة الأساسيّة للاجتهاد الفرنسي باتت منذ 1981 ضمان وضع الفواصل بين القضاء والحاكم بموجب مبدأ فصل السلطات، لا ضمان وضع الفواصل بين المراجع القضائية المختلفة! أمّا وأنّ مجلس شورى الدولة اللبنانيّ اختار طريقاًَ آخر، فهو يكون بذلك عبّر عن اهتماماته على نحو يهمّش بشكل جليّ حق التقاضي ويشكل دليلاً إضافياً على التنكّر للذات كما سبق بيانه.
وختاماً في هذا المضمار، وما إن فرغ المجلس من استبعاد الاجتهاد الفرنسي السائد، بدا كأنه وجد ضالته في أحد قراراته السابقة (1994) الآيل الى إعلان عدم صلاحيته للنظر في الطعن الموجه ضد دعوة الناخبين الى الانتخابات النيابية العامة في 1992. إلا أنه بدا هنا أيضاً كأنه يجتزئ حيثيات القرار المذكور، وذلك لسببين اثنين: الأول أن المجلس الدستوري نشأ في 1993، وتالياً فإنّ المرجع الصالح للنظر في العملية الانتخابية 1992 كان آنذاك لا يزال بحكم الدستور مجلس النواب، ما يخرج المسألة أصلاً عن إطار حق التقاضي، والثاني أن قرار 1994 رفض الأخذ آنذاك بالسابقة الفرنسية الحاصلة في 1993، أي قبل عام واحد من صدوره (وفحواها إعلان صلاحية مجلس شورى الدولة الفرنسي للنظر في نزاعات مماثلة)، على أساس أن عمرها سنة واحدة وأنها لم ترسخ كاجتهاد بعد، بخلاف ما بات حالها اليوم بعد مرور أكثر من 13 سنة على اعتمادها! هذا مع العلم أن مجلس شورى الدولة في 1994 (أي في ظل ما سمي زمن الوصاية) كان يعمل في ظروف تقود هي الأخرى الى تحصين الحاكم في مواجهة القاضي أي في مواجهة الناس، وكان من المفروض إذاً أخذ هذا الأمر في الحسبان عند الاستشهاد بقراراته!
الحيثيّات المبدئية
والى جانب استشهاده بالسوابق، استساغ المجلس إسناد قراراته إلى مبرّرات مبدئية تذهب في الاتجاه نفسه ولا تقلّ من حيث طابعها الخطابي عما تقدّم. فاستشعاراً منه بالانتقادات التي قد توجّه إليه على خلفيّة إحداثه فراغاً قانونيّاً مانعاً للتقاضي، لجأ المجلس الى فرض معادلة (وربما مفاضلة) هجينة مفادها أنّ تنازع الصلاحيّات (أي تعدّد المراجع القضائية الصالحة) وما قد يسببه من أحكام متناقضة لا يقل خطورة عن الفراغ القانوني (أي انتفاء القاضي الصالح). والواقع أن هذه الحيثية «خطابية صرف» وتؤول ـــــ هي الأخرى ـــــ الى تحوير التساؤل عن المرجع الصالح لمحاسبة الحاكم إلى تساؤل بشأن مدى ملاءمة هذه المحاسبة، بحجّة أنّ من شأن ذلك أن يقود الى احتمال تنازع بين مراجع قضائيّة!
فهي أولاً تبرر قبول سيّئة (الفراغ القانوني) على أساس أنّ هنالك احتمالاً بحصول أمر لا يقلّ سوءاً (تنازع المراجع القضائية)، علماً أن الجميع يعلم أن هذا الأمر الأخير وهميّ (مجرد فزّاعة) يستحيل حصوله أقله بسبب تعطيل المجلس الدستوري. وهي، فضلاً عن ذلك، تفترض أن المجلس موضوع أمام خيار من خيارين لا ثالث لهما: فإمّا أن يعلن صلاحيته فيحصل تنازع في الصلاحيات، وإمّا أن يعلن عدم صلاحيته، فيقوم احتمال فراغ قانوني، فيما أنّ هنالك بالتأكيد خياراً ثالثاً قوامه انتهاج سياسة الانسجام بين المراجع القضائية، وفقاً للتوجّه الفرنسي المشار إليه أعلاه كأن يعلن مجلس الشورى صلاحيته في مجمل القضايا التي يربأ المجلس الدستوري لسبب أو آخر عنها! ثم، بأيّ منطق قرّر المجلس أن الأمرين (تنازع الصلاحيات وانتفاء حق التقاضي) متعادلان من حيث الضرر؟ وألا يعني ذلك أن تحصين الحاكم بوجه المساءلة لا يقلّ إضراراً عن احتمال تعدد المراجع القضائية المختصة في محاسبته؟ وألا يعكس ذلك نظرة دونية الى القضاء مفادها أنّ الحاكم يتمتع بحسّ بالمسؤوليّة (ولو من دون أي حسيب) لا يقلّ عمّا قد يتمتّع به أكبر مرجعين قضائيّين لبنانيّين؟ بل ألا يسوّغ ذلك نسف مبدأ فصل السلطات بالكامل بحجة وجوب فصل السلطات بين المراجع القضائية المختلفة؟
هذه هي بعض الملاحظات على بعض حيثيات القرارين، وهي تثبت أنّ مجلس شورى الدولة أنكر القضاء، وتالياً ذاته، ثلاث مرات قبل صياح ديك الانتخابات: مرّة حين اعتمد أسلوباً خطابياً هدفه التبرج بمظهر الحقّ بمنأى عن منطق العدالة، ومرة ثانية حين أنكر حق التقاضي ضدّ الحاكم، ومرة ثالثة حين كافأ الحاكم الذي عطّل المجلس الدستوري بما يشكل إخلالاً بموجب التضامن مع هذا المجلس في محنته! مهما تكن غداً نتيجة الانتخابات، أعلن مجلس شورى الدولة سلفاً، وبوضوح كليّ، أنّ الخاسر فيها... هو القضاء!
* محامٍ وباحث قانوني