نادية الذوادي *
في الواقع هي أكثر من سابقة. أنشأ مجلس الأمن محكمتين جنائيتين دوليتين: الأولى أنشئت في 23 أيار 1993 لمقاضاة مرتكبي جرائم الحرب التي حدثت في يوغوسلافيا السابقة مطلع التسعينيات، والثانية أحدثت يوم 8 تشرين الثاني 1994، لمحاكمة المشتبه في تورطهم في جرائم الإبادة التي حدثت إبان المواجهات بين التوتسي والهوتو في رواندا، سنة 1992.
آنذاك طرحت فعلاً المشكلة المتعلقة بشرعية إنشاء مجلس الأمن، وهو جهاز سياسي، لآليات قضائية. وقد أقرت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، المنبثقة عن مجلس الأمن، بشرعية إحداث هذا الأخير لهيئات قضائية جنائية في أولى القضايا التي رفعت للمحكمة، حيث دفع محامو المتهم ديسكو تاديتش بعدم اختصاص المحكمة وبمخالفة تأسيسها لأحكام ميثاق الأمم المتحدة. ردت المحكمة في المرحلة الابتدائية للقضية بأنها لا تملك صلاحية تقويم النص المنشئ لها، لكنها عادت عند الاستئناف، وأقرّت بشرعية إنشاء المحكمة.
المحكمة أقرّت لنفسها أوّلاً بإمكانية النظر في اختصاصها وتحديده، وخصوصاً أن قانونها المؤسس لم يتضمن هذا التحديد، بل وذهبت أبعد من ذلك، بما أنها قضت بشرعية تكوينها من طرف مجلس الأمن.
بحسب المحكمة، يعطي الفصل 39 مجلس الأمن حرية تامة لتكييف الحالة التي ترفع له وأيضاً لاختيار وسائل حلها ومعالجتها. وفي ردها على تحديد المادتين 41 و42 لمعالجة مجلس الأمن الحالات المعروضة عليه، رأت المحكمة أنهما يمنحان المجلس خيارات واسعة وغير محدودة. هذا يعني أن هاتين المادتين ليستا تحديداً لسلطة مجلس الأمن وصلاحياته، بقدر ما هما أساس ومنطلق لحريته ولسلطاته الواسعة والاقتصادية.
المادة 41 تضم أمثلة على التدابير التي يمكن المجلس أن يعتمدها. هذا الأخير يمكنه اعتماد تدابير أخرى قد تكون بعيدة عن تلك التي عددتها الشرعة. المادة تشترط فقط «عدم استعمال القوة المسلحة». هذا الشرط هو المعيار الوحيد للتدابير التي سيتخذها المجلس ضمن هذه المادة.
ترى المحكمة أيضاً أن كون مجلس الأمن جهازاً سياسياً لا يمنعه من إنشاء هيئات قضائية وتعتمد على أن الشرعة منحته صلاحيات إنشاء أجهزة تابعة له في إطار ممارسته لصلاحياته. هذا يعني أن مجلس الأمن مخول إنشاء أي جهاز ثانوي، بما أن الميثاق يمنحه ما يراه ضرورياً من القدرات والسلطات لأداء مهماته، وهي حفظ السلم الدولي. طبقاً لهذا الرأي واستناداً إلى هذه الصلاحيات الواسعة، وتكاد تكون فعلاً بلا حدود، يمكن مجلس الأمن أن ينشئ أجهزة قضائية، إذا رأى أن ذلك ضروري لعودة السلم والأمن الدوليين. وعلى هذا الأساس أنشأ مجلس الأمن هيئتين قضائيتين لمحاكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة وفي رواندا.
لا ننسى أنه كان لمجلس الأمن «تدخّل قضائي» آخر، من دون أن يقوم بإنشاء هيئة فرعية. كان ذلك في القضية الشهيرة «لوكربي»... ألم يعد إذاً لمجلس الأمن اختصاص قضائي اكتسبه بعد أكثر من سابقة؟
السابقة والعرف وميثاق الأمم المتحدة
يعتمد مناصرو إنشاء مجلس الأمن محكمة دولية لمقاضاة قتلة الحريري، على سابقتي إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، لتبرير ممارسة مجلس الأمن اختصاصاً لم ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة. فهل يعني ذلك أن عرفاً دولياً تمخض عن هاتين السابقتين وسمح لمجلس الأمن بتوسيع مجال تدخله واستحواذه على صلاحيات لم يشر لها واضعو الميثاق سنة 1945؟
يتفرّع هذا التساؤل إلى سؤالين: يتصل الأول بنشأة العرف الدولي: هل تكفي هاتان السابقتان لتكوين عرف ملزم لكل الدول؟ أما الثاني فيتعلق بتعديل ميثاق الأمم المتحدة: هل يعدل العرف ميثاق الأمم المتحدة؟
1 ـــــ يتكون العرف من تواتر ممارسة حصلت على قبول واسع خلق لدى الدول إحساساً بضرورة الامتثال له. فهل يمكن وضع إنشاء محاكم جنائية دولية تحت خانة هذا التعريف؟
برأيي، لم تتواتر الممارسة بالقدر الكــــــــافي. أنــــــــشأ مجلس الأمن، وضمن سلطــــــــــــة الفصل السابع، فقـــــط محكمتين. ونحن نعرف أن القانون الدولي العام لـــــــــم يضع معـــــــــــايير رقمية ثابتة تحدد تحوّل تصرف الـــــــــدول وممارســـاتها إلى عرف ملزم. لكن الحقوقــــــــــيين يرون أن قــــبول الــــــــــدول لممــــــــــارسة ما، وتواصل هذا القبول يكون معيــــــاراً من شأنه أن يضبط مرور المـــــــــارسة إلى مجال الإلزام.
هذا المعيار يحتاج بدوره إلى التوضيح. هل صمت الدول يعني موافقتها؟ ثم كيف تعبّر الدول عن رفضها ممارسة بدرت عن مجلس الأمن؟ يمكن أن تمتنع الدولة عن التصويت ويمكنها أن تصوّت ضد القرار. لكن لن تمنع معارضة الدولة مجلس الأمن من القيام بما أراده، إذا كانت عضواًَ غير دائم. ولست متأكدة من أن معارضة يتيمة ستكون عائقاً أمام تطور تصرف لم يحظَ بالإجماع ليصبح عرفاً ملزماً. ثم، وهو برأيي الإشكال الأهم، مجلس الأمن يضم 15 دولة. فهل موافقة هذه الدول، وأحياناً صمتها، كافية للإعلان عن تكوّن عرف من شأنه المس بمفهوم سيادة الدولة من جهة وتغيير القانون الذي وضعه ميثاق الأمم المتحدة من جهة أخرى؟
2 ـــــ الإيجاب يعني أن 15 دولة، خمس منها عضوة في مجلس الأمن منذ 1945، يمكنها أن تعدل ميثاق الأمم المتحدة من دون المرور بالإجراء الذي وضعه ميثاقها.
للتذكير، ينص الفصل 108 من ميثاق الأمم المتحدة على أنّ «التعديلات التي تدخل على هذا الميثاق تسري على جميع «أعضاء الأمم المتحدة» إذا صدرت بموافقة ثلثي أعضاء الجمعية العامة وصدّق عليها ثلثا أعضاء الأمم المتحدة ومن بينهم جميع أعضاء مجلس الأمن الدائمين، وفقاً للأوضاع الدستورية في كل دولة».
ربما لا بد من تعديل الميثاق إذا رغبت الدول في إعطاء العرف دوراً ما في تعديل الميثاق أو تغيير وظائف أجهزة الأمم المتحدة أو اختصاصاتها. وفي غياب هذا التعديل، لا أظن أن الميثاق يسمح لمجلس الأمن بممارسة اختصاصات قضائية.
خاتمة
مجلس الأمن ليس مخولاً بعث أجهزة قضائية، وإن قام بذلك. فهو يتجاوز بذلك الصلاحيات التي منحه إياها ميثاق الأمم المتحدة. وإذا كان ينطلق من إمكان توسيع الصلاحيات الممنوحة له، وهو ما يسمح به الميثاق، فإنه يتجاوز طبيعته كجهاز سياسي. نحن نعرف أن فصل السلطة القضائية عن السلطة السياسية هو من أهم أركان الديموقراطية، وهي نظام سياسي تعمل الدول الكبرى على تركيزه في مختلف بلدان العالم، فالأولى إذاً ترسيخه داخل منظومة الأمم المتحدة، لكن تلك قصة أخرى.
بإنشائه جهازاً قضائياً يتولى التحقيق في مقتل الحريري ومقاضاة المتهمين بقتله، يتجاوز مجلس الأمن مبدأ محورياً من مبادئ القانون الدولي، هو مبدأ أحقية القضاء الوطني بتتبع الجرائم والمخالفات. نذكر هنا أن النظام الدولي للمحكمة الجنائية الدولية نص في أول فصوله: «المحكمة مكملة للمحاكم الوطنية المختصة». هذا المبدأ ينسحب على سائر المحاكم الدولية التي يصر جلها على التأكيد أن اللجوء إليها مشروط باستنفاد طرق التقاضي الوطنية.
وإذا كانت الهيئات القضائية في يوغسلافيا ورواندا قد وجدت نفسها عاجزة في فترة ما عن الاضطلاع بمحاكمة مرتكبي المجازر التي حدثت مطلع التسعينيات، فهل ينسحب ذلك على المؤسسة القضائية اللبنانية؟ وإذا سلمنا جدلاً بقصور القضاء اللبناني، فهل مجلس الأمن مخول الحكم بهذا القصور؟
بقيت ملاحظة أخيرة. إذا كان القضاء الوطني في أي مكان في العالم عاجزاً عن تتبع قتلة الساسة والأغنياء، فهل سيوكل إليه تصريف شؤوننا نحن الفقراء والمواطنين العاديين فيما تنشأ للأغنياء والساسة محاكم دولية أو مختلطة تعمل بمعايير دولية وقضاتها ربما أكثر كفاءة وحياداً من قضاة المؤسسات الوطنية؟ وإذا كانت الكفاءة والحياد متوافرين في القاضي الوطني فلماذا إذاً السفر بعيداً بحثاً عن القضاء والعقوبة؟
* باحثة ومدرّسة قانون في جامعة تونس


اجزاء ملف "مجلس الأمن ينشئ محكمة!":
الجزء الأول | الجزء الثاني