طوني عبد النور(أستاذ في الجامعة اللبنانية)

الوحدة مجموعة أجزاء متجانسة، كل جزء يكمل عمل الآخر بغية تأدية دور محدد في الحياة، سواء أكانت هذه الوحدة متمثلة بأعضاء الجسد أم بمجموعة بشرية تهدف إلى إنجاز عمل معين. كذلك الدولة الديموقرطية في حقيقتها وحدة مؤلفة من عدة مؤسسات، منها مجلس الوزراء ومجلس النواب ورئاسة الجمهورية، بحيث كل مؤسسة تكمل عمل الأخرى.
لكن للأسف الشديد نفتقد هذه الدولة الديموقراطية، كأن لبنان قدره أن يبقى مصلوباً تارة بالأحقاد والارتهان إلى الخارج نتيجة الاختلافات الداخلية، وطوراً بسبب التسابق إلى الحكم من أجل خدمة مصالح فئوية وطمعاً بالمال والجاه والسلطة...
إلى متى سوف نبقى رازحين تحت وطأة التباينات في الآراء؟! إلى متى سنبقى منتهجين سياسات لا تخدم مصلحة بلدنا؟! إلى متى يبقى وطننا عرضة لفتن طائفية تهدد بإزالته من خريطة العالم؟!
إلى أن نعي أهمية وجوده كمحور وعي يدعو إلى التلاقي بين مختلف الأديان ويتوسع ليشمل البلدان المحيطة بنا...
ثم ندرك السبب الكامن في النفس البشرية التي تخضع لسياسات دنيوية أرضية ضيقة نتيجة عدم تواصلها مع الفكر الإنساني الذي وحده يبصر حقائق الأمور ومكامن الخطأ في السياسات المنتهجة ثم يجد لها علاجاً ناجعاً لا حلولاً موقتة مخدرة ينتهي مفعولها بعد فترة زمنية لتعاود ظهورها من جديد بشكل متفاقم، ما يصعّب عملية تصحيحها. والسبب، كل السبب يعود لغياب الهدف والرؤية الواضحة لمنطق الأمور، إذ كل فئة ترى من زاوية ضيقة طبقاً لنسبة الوعي المتفتحة فيها، فتبني علاقاتها مع الآخرين وفقاً لما يتناسب ومصلحتها الفئوية متناسية المصلحة العليا، كأن الأوطان تبنى على المصالح وتقاسم الحصص والمغانم... بينما العالم اليوم يتوجه بأغلبه نحو العولمة التي لا تنظر فقط إلى مصلحة وطن معين، بل تسعى إلى أن ترى البشرية بأكملها تتوافر مصالحها الفردية والعامة من خلال قرارات الأمم المتحدة التي تصبح لاحقاً تنظر بعدل في القضايا الإنسانية والصراعات القائمة بعدما تُعَدَّل قوانينها الحالية...
عندئذ يسود العدل وتنتهي الحروب التي تمنع تطور الإنسان، ما يؤهل الجميع للوصول إلى سلام عالمي. وهذا ما يبشرنا به العصر الجديد الذي بات على الأبواب، وهو يعرف فلكياً بعصر الدلو. كتاب الإنسان منشورات أصدقاء المعرفة البيضاء ـــــ الإيزوتيريك بيروت ذكر ما يلي: «عصر النور هو عصر الفهم والانفتاح ـــــ الانفتاح العقلي والانفتاح النفسي والانفتاح الروحي، هو عصر القوة ـــــ القوة التي تحذف السلبيات وتقوي الإيجابيات، عصر التقدم للمنفتحين وعصر التأخر للرافضين الجاهلين، عصر العدل الذي سيقوي الضعفاء ويضعف المتسلطين المستبدين...».
فيه ستعود الثقة بين البشر حينما يلجون عالمهم الداخلي... همزة الوصل بين النفس البشرية التي تسودها الازدواجية والذات العليا التي ستعيد الجميع إلى أصلهم الإنساني حيث لا تفرقة بين دين وآخر أو فئة وأخرى. آنذاك يصبح في مقدور الجميع إدراك المصدر والهدف. لكن فقدان هذين العنصرين هو ما يبقينا حالياً في دوامة الاتهامات والحروب نتيجة فقدان الثقة إثر ابتعادنا عن مصدرنا الديني بابتعادنا عن وعي الهدف المشترك الذي سيجمع شمل كل اللبنانيين ويؤهلهم لبناء وطن مثالي من خلال تربية وطنية إنسانية قائمة على مبادئ الانفتاح على جميع الأفكار البناءة التي تطور الإنسان ظاهرياً وباطنياً، فلا تبقيه في مستنقع الجهل والانزواء والاستزلام، بل تبني شخصيته الفردية وتؤهله ليصبح فرداً فاعلاً في المجتمع يسعى لانتهاج المصلحة العليا التي بدورها تخدم مصلحة المواطن وتمنعه من الوقوع في الخطأ والرضوخ لسياسات خاطئة.
لكن متى ينتهج إنساننا المسار الصحيح؟! متى يدرك هدف الحياة ومتطلباتها؟! متى يصبح مسؤولاً عن أقواله وتصرفاته؟!
عندما يعي أن الحياة مجموعة من أعمار يتعاقب هدفها بغية وعي المصدر الإلهي... بحيث في كل دورة حياتية يقترب المرء مسافة معينة من هذا المصدر إلى أن يعيه في النهاية بعد السير على درب الباطن في نفسه حيث أنوار الحقيقة تبقى مسلطة عليها ما دام هو صادقاً مع نفسه يسعى لخدمة الآخرين. ومتى شرد هذا الإنسان عن الطريق، عاد إلى نقطة البداية محملاً بالعذابات والآلام التي ارتكبها، ما سيصعب عليه السير قدماً. البعض في بلدنا يرتكبون الأخطاء تلو الأخطاء، متناسين أن عليهم مسؤولية إرشاد المواطنين إلى حسن السبيل بواسطة خلق مجتمع يتكامل فيه الإنسان مع أخيه الإنسان عبر انتهاج سياسات تضم شمل جميع اللبنانيين، ولا تؤسس فقط لحكومة وحدة وطنية، بل تشيِّد مجتمعاً وطنياً لا يخدم إلا مصلحة المواطن مهما كان انتماؤه السياسي والديني. وهذا لن يحدث في القريب ما دام الإنسان غارقاً في مستنقع السلبيات حيث يسود الجهل والتعصب. لكن متى وعى إنساننا أخطاءه التي يرتكبها باستمرار، فسوف يهون العلاج، فلا نعود نطالب بحكومة وحدة وطنية، بل نصبح جميعنا وحدة وطنية متعددة الفئات، لكل فئة دورها تسهم من خلاله في بناء الوطن، لكون التعددية من سمات الوحدة التي هي مجموعة اتحادات... كذلك النور وحدة متعددة الأضواء متميز بسبعة ألوان، كل ضوء فينا يحدد لنا مساحة وعينا... وما لم يصبح الإنسان ضوءاً مسلطاً على إزاحة سلبيات النفس، فعبثاً نحاول في بناء الدولة الديموقراطية.
فحكومة الوحدة الوطنية ما لم تبن على أسس التعددية الوطنية الساعية إلى تكامل الوعي بين أبناء الوطن الواحد من خلال أداء أدوارها البناءة الهادفة إلى إنارة الإنسان كما ينير النور مجاهل الوجود من خلال أضوائه السبعة لن ترى النور قريباً، بل سنبقى رازحين تحت وطأة الاختلافات، وربما الفتن الطائفية، إلى أن نصبح جديرين بتحمل المسؤولية الملقاة على عاتقنا.