نسيم ضاهر *
تفرد الصحف الرصينة عادةً حيِّزاً لكتَّاب من غير مُحرِّريها بغية الإسهام في مقالات ذات طابع بحثي وفكري على وجه العموم. يلزم مضمون المنشور أصحابه، من دون الصحيفة، ويتوخَّى غالباً الإضاءة على الظواهر والمعطيات السياسية من زاوية نقدية، بقدر من الموضوعية والزاد المفهمي، وبما لا يتجانس بالضرورة مع منحى (وهدى) أسرة التحرير.
تختلف تسميات فسحة الحريّة هذه، من ساحة رأي أو أفكار أو قضايا، وتجتمع على إضفاء لون ثقافي تحليلي بالمعنى العريض، مزيّن، في تنوعه وتعدد أقلامه ومسافته الجبرية من الحدث اليومي، راق في مقاربته واجتهاده. ويفترض هذا السعي بداهة الابتعاد عن الخطاب التعبوي، واعتماد المُحاججة واللياقة الأدبية والعلمية سبيلاً إلى التمايز عن بُنية الحلقة الوظيفية ومناخها والاحتراف المهني، بأصوله وموجباته واتصاله مع مداولات هيئة التحرير وتوليفها للموقف والأولويات. يعود، إذاً، للكاتب الفرد أن يعبِّر عما يراه إضافة نوعية، تستقر على هامش المألوف من طابع عام وصورة لصيقة بهوية الصحيفة، شريطة التزامه جانب النزاهة الصادقة، واستشعاره ضرورة الإيفاء بمتطلبات الجدية والأمانة لهيبة الكلمة ومفعول امتشاقها.
تقوم ساحة الرأي على عقد ضمني غير مكتوب وتعاقد أخلاقي بين المؤسسة الإعلامية وصاحب القلم الطارئ، المقتحم دارها. فلقاء الفرصة الممنوحة بلا قيد أو رقابة على النص والمُثبت في متنه من إسناد، باستثناء الانشائي البلاغي وعنوان المقالة وربما بعض التفاصيل المضافة التي ترهق السياق، على المحتفى باسمه وعطائه، في المقابل، الحرص على مستوى الأداء ومكنون الرسالة التي يطلّ بها على القارئ من خلال حرية القول ومنصة الإعلام. إن هذا التعريف لعلاقة تبادلية يقف القارئ حُكماً في وسطها، هو القاعدة الأساس التي ينبغي حضورها لزوماً، تبغض المداورة وتدعو إلى مصارحة لا تخلو من ارتباط بشرف المثقّف ومدلول الثقافة، وبالتالي، تطرح إشكالية لا مفرّ من مواجهتها، ولا غضاضة في معالجتها.
يتوقع القرّاء أمريْن عند دخولهم حديقة الرأي وتصفّحهم لمحتواها: أولاً مجانبة يوميات الأخبار والأحداث، وولوج حقل واعد بحصاد فكري، وبادئاً التموضع في فضاء المشاكسة الأنيقة وما تطحنه من مسلمات، وتعجنه من مواد خلافية لمزيد من التنقيب وإثراء للنقاش.
من جهته، يحترم كاتب السطور وقار المقام المتاح، ويتقيّد مبدئياً بفضيلة المسؤولية الملقاة على عاتقه بوصفه خازناً أميناً على منطق المساجلة، ملمّاً بموضوعه متواضعاً في معرفته وعلمه وبحقيقة ما يدلي به النسبية. تلك مواصفات/محددات تمتحن المناعة والشجاعة الأدبية، وتفي بالمراد، فيما تستجيب للحكمة الكامنة وراء تخصيص باب مشرّع على الرأي الآخر مهما بلغت معارضته لنسق الصحيفة و«موقعها» من القوس السياسي، والإحراج الذي قد تسببه إزاء اصطدامه بقناعات محبيها المعتادين على لغتها ومسلكها وخطوطها العامة.
إنّ ثمة منزلقات تشوِّه الغاية الأساسية التي تختصر فذلكة المنبر الحرّ ومبرر وجوده، عنيت الإيمان بحرية الكلمة، وإفساح المجال لتعدد الآراء باعتباره لقاحاً فاعلاً ضد العصبية والتزمت والانغلاق. إلى ذلك، وقياساً بتجربة كبريات الصحف العريقة في ممارسة الديموقراطية، ثبت أن إسهامات غير العاملين في طواقمها، جسر تواصل يومي مع المجتمع المدني، يرسم، إلى حد، معالم اهتماماته ومشاغله، ويعكس توجهاته ومزاجه العام، من حلقة «النخب» المتابعة الى الجمهـور العريض. لذا يسجل في الصحافة اللبنانية (والعربية) انتهاك متواصل للأصول والضوابط، ومنسوب عال من الشرح البليد والنقل (مع إخفاء المصدر) والإنشاء، ما لا ينطق بجديد أو يثير نقاشاً أو يشبع نهم قارئ. ويتوسل غالب المراسلين إبراز صفاتهم وتلميع أسمائهم، تحدوهم نزعة الشهرة واكتساب المكانة، على حساب محتوى الدراسة ومتانة التحليل، ناهيك عن انهماكهم وشغفهم بالوعظ وإغراء التلقين المدرسي.
لم تُبتكر صفحات الرأي والقضايا لتكرار الوارد والمعلوم، ومنشؤها وخواصها يتنافيان مع الوصف والتكرار والنسج على منوال شعاري فارغ من الإبداع ومرصوف بالمنمّقات. وتجدر الاشارة الى ما تذهب إليه الحماسة «الأيديولوجية» من سطحية في التفنيد والحيثيات، وانخراطها في مطارحات وجدانية وتمجيد للقادة، على غرار ما لا يحصى من استشهاد بأقوالهم، والعودة إليهم مرجعياً إثباتاً لمقولة أو حجة.
هنا يتخلّى الكاتب طوعاً عن وظيفة التحليل والنقد، وتضيع الكتابة في متاهات الدفاع عن الهوية السياسية واختزال الحقائق بحامليها. لكن الأدهى أنه يُغالط الرسالة المنوطة بصفحة الرأي ويجرح عنوانها وحيادها، ويستبدل الجدل الصحي الديموقراطي بالجدال على سبيل المماحكة واقتناص سانحة الكلام وفرصة التبشير في غير موضعه وزمانه.
يُخطئ من يعتقد أن الصحافة (والإعلام عامة) من حواضر التنازع السياسي ومتاريسه. بالطبع، تنشدّ الصحافة الى عالم السياسة وتسكنه، إذ لا غربة لها عنه ولا فراق. إلاّ أن للصحافة كياناً مستقلاً رايته الرقابة على أفعال السلطة والسياسيين، وميداناً يقصده أهل الفكر والعلم والبحث، بياناً لمقاصد نبيلة وكشفاً لمستور وخلل في المفهمية والأداء. خلاف ذلك غزل دخيل وانتحال صفة، وانتقال من تخوم أسرة الصحافة الى جماعة الدعوة والدعاوة، يفشل في التصريح عن مبتغاه، ولا يؤتي إضافة مقنعة أو معلومة دالة أو نظرة ثاقبة. وحيث تعطي الصحيفة مجالاً ومتسعاً للراغبين في مرافقتها ومخاطبة قرائها، على المقيمين في ظلالها، والعاملين على استخدام ساحتها، احترام عقل المواطن ومضاعفة الجهد حرصاً على المقام، محاذرين الترويج الدعائي وفقَّاعات الكلام المزخرف والثرثرة القصصية والرواية المبتذلة.
إن قياس النجاح الذي تنشده الصحافة عبر ساحة الرأي ومثيلاتها، مرهون بتصويب المعادلة، ومقاربة المسألة من الطرف الآخر المشارك، ما دامت تلتزم الصحيفة عدم الاستنساب والمجاراة، والمعاملة المتساوية، والعزوف عن المماهاة بين المطلوب من السماحة المفردة ومآل سائر صفحاتها المعهودة الى هيئة التحرير. في هذا الصدد يمكن استخلاص إيجابيات محققة، على رغم مـا شابَها أحياناً من ثغرات عائدة للانتقائيّة في إدراج المواضيع والتحكّم بمواقيتها. يقيني أن هذه المضايقات وحجمها النسبي مردّه المقيّدات المكانية وغزارة المقالات/الأبحاث، وربما مزاجية المشرفين في بعض الحالات والمؤسسات. غير ان الملاحظات الجوهرية والحادة، إنما تتصل بنوعية ما يُنشر، المتفاوت قيمياً ومعرفياً، منه الظرفي السياسوي عوض البحثي الراسخ، لعلّة في حامله ومحموله، واستجابة الصحيفة بدافع الإلحاح والمداخلات، وإغراء الألقاب والرطانة. تلحق الإثارة ضرراً بائِناً حين تحلّ بديلاً من التشويق ورغبة قراءة الرزين المفيد مهما بلغت قساوة نقده. تلفت هذه الملاحظة الى التجاوزات الحاصلة نتيجة الغلو في استثمار الامتياز المعطى، والجنوح نحو العبارات الجارحة والتوصيف الرديء، كأنما صخب الكلام أبلغ من صلابة النص. فمن غير المقبول حشو المقالة بألفاظ نارية واستهداف مخالفي صاحبها وإطلاق الأحكام المبرمة في معرض النقاش، واحتكار الصدقية والمعلومة. في مجال آخر، شديد الأهمية والخطورة، يتكئ النص على شهادات مُجتزأة ومراجع تفتقر إلى الحيادية والحصانة، تؤخذ على سبيل الجزم والإطلاق، لبناء هندسات نظرية مجوّفة تجول على وسيـع العالم من منظور إرادوي، وتخلص الى استنتاجات حاسمة مشكوك في صوابيتها وواقعيتها.
إنّ وفرة الكلام، على شاكلة الرواية والحديث، نقيض البُنية والدور المطلوب من صفحة الرأي، تسيء في المحصلة الى رسالتها، ولا سيما أنّ معيارها دليله ما يُكتب لا من يكتب. في سبيل الحفاظ على الجمالية والجوهر، تستأهل مساحة الحرية هذه وقفة تمعّن وتفحص، قد يكون إحجام الإدارة (أو الناشر) عن إغراقها بمقالات بعض المحظيين أو اللجوجين من الأصدقاء، توطئة ومدخلاً لها. على أن السبيل الى نهضتها ووثبتها، إنما تشقه مسؤولية الكاتب المعنوية وصناعته المتقنة. إنّ هذا ما يستطيبه القرّاء، ويعمِّر الوفاء ولهفة الانتظار.
* كاتب سياسي