strong>أحمد بهاء الدين شعبان *
الذين شاهدوا فيلم «الأرض»، من إبداع المخرج يوسف شاهين، عن رائعة الأديب عبد الرحمن الشرقاوي التي حملت الاسم ذاته، لا بد أنهم يتذكرون المشهد الختامي الذي أداه ببراعة فائقة الفنان الراحل محمود المليجي. جسّد المليجي دور الفلاح المصري الجدع «محمد أبو سويلم» الذي رفض الانصياع لإرادة كبار مُلاك الأراضي المدعومين بسلطة الحكم وقوات قمع النظام، الطامعين في أرض الفلاحين الفقراء، فتصدى لهم بقوة وحرّض إخوته وجيرانه وأهل بلدته من الفلاحين على المقاومة والصمود في وجه القهر والعنف والعدوان على أرضهم الطيبة. لكن «موازين القوى» أجهضت انتفاضة الفلاحين في مواجهة طغيان ملاك الأرض الأغنياء، وحوصرت القرية بقوات «الهجّانة» المكونة من أهالي النوبة والسودان الطيبين الذين أُجبروا على قهر أشقائهم الفلاحين، ففرض حظر التجول على القرية وعُذّب الفلاحون المتمرّدون، ورُبط أبو سويلم بأمر من «الباشا» قائد القوة العسكرية، إلى مؤخرة حصان جامح سحله على أرضه الطيبة، فرواها بدمائه. وبينما ينتهي الفيلم على لقطة مكبرة لوجه الفلاح الأصيل أبو سويلم المحتضر وهو ينزف دماً، وعلى جسده الفارع الذي يجره الحصان، وعلى يديه القويتين وهما تتشبّثان بجذور نباتاته الخضراء التي زرعها بنفسه وبأعواد شجيرات الذهب الأبيض التي عاش يحلم بها، كانت أغنية الجموع الحزينة تعبر عن قيمة الماء والأرض للفلاح المصري، ولكل فلاح على أرضه البسيطة: «الأرض لو عطشانة... نرويها بدمانا».
الأرض أرض الفلاحين
مقولة هيرودوت الشهيرة «مصر هبة النيل»، ليست صحيحة بالمطلق. فالنيل يمرّ بأراضي العديد من الدول الأفريقية، لم تشهد أي منها حضارة مثل حضارة مصر ولا إنجازات العائشين فوق أراضيها. الأصحّ أنّ مصر هبة فلاحيها الذين مارسوا الزراعة منذ فجر التاريخ، وأبدعوا حضارة زاهرة ما زالت علاماتها باقية على مرّ الدهور. ولأنّ الفلاح المصري عاش طوال قرون عديدة تحت وطأة القهر والاستغلال والفقر، تعلّم فضيلة الصبر واحتمال الأذى والبطش. غير أنّها أيضاً علّمته أنّ الثورة واجبة عند اللزوم، حينما ينفد معين صبره ولا يرى مفرّاً من التمرّد.
ثار الفلاحون المصريون في الأسرة السادسة (الفرعونية) في ما عرف بأول ثورة طبقية في التاريخ، وثاروا على الغزاة من كل الأنواع، الذين وجدوا في مصر وفلاحيها بقرة حلوباً. وفي التاريخ المعاصر، ثاروا على الولاة والمماليك والعثمانيين والفرنسيين، وأخيراً الإنكليز، تلبية لنداء عرابي عام 1882، وسعد زغلول عام 1919. وكانوا قبلها قد ثاروا على الاحتلال البريطاني في «دنشواي» وعُلّقوا على أعواد المشانق انتقاماً من ثورتهم. ثم ثاروا في «بهوت» و«كفور نجم» على الإقطاع قبل ثورة تموز (يوليو) 1952، وبعدها في «دكرنس»، ودوّت صيحات غضبهم في كل الأرجاء.
تمتّع الفلاحون المصريون بوضع أفضل نسبياً بموجب إجراءات ثورة يوليو وقوانين إصلاحها الزراعي. إذ وزعت أراضي كبار الملاكين على الفلاحين المعدمين فأمنت لهم حداً مقبولاً من ضمانات الحياة، ووفرت لهم تقديمات في التعليم والطبابة. وقد كانت تلك الإنجازات من مستهدفات النظام الانقلابي الساداتي ـــــ المباركي الذي راوغ وداور لسنين طويلة حتى استطاع استصدار قوانين ارتدادية نُفذت منذ عام 1996، نُزعت بموجبها الأراضي التي صادرتها ثورة يوليو ووزعتها على الفلاحين الفقراء قبل نحو أربعة عقود، وأعيدت إلى أصحابها من أغنياء الريف. ومنذ ذلك التاريخ، أخذت أوضاع الفلاحين المصريين في التدهور، إذ طُردوا من بيوتهم، وفُـرض عليهم مجدداً أن يُحرموا من أرضهم التي اعتاشوا على أديمها لأربعين عاماً كاملة.
عطشان يا صبايا... دلّوني على السبيل
كان لهذا الإجراء وقع الصدمة على الفلاحين المنتزعة أرضهم. ولأن الفلاحين كانوا بلا أي تنظيم أو اتحاد يقود نضالهم ضد مغتصبي حياتهم، وحركة المعارضة السياسية في البلاد ضعيفة وغير موحدة، جاء احتجاجهم هشاً ومرتبكاً. ورغم سقوط الجرحى والشهداء في معارك ضارية مع قوات الأمن المنحازة للأغنياء، لم يستطع ذلك التصدي أن يوقف هجمة السلطة التي تلتها هجمات أخرى عديدة تمثلت في رفع القيمة الإيجارية للأراضي المستصلحة المؤجرة، ورفع أثمان البذور والأسمدة الكيماوية وخدمات الزراعة الأخرى. ثم كانت الطامّة الكبرى بانفجار «أزمة العطش» التي نجمت عن قصور فادح في إمداد الفلاحين المصريين بمياه الشرب، وكذلك مياه الري للأراضي المزروعة، في بلاد عنوانها وشريان الحياة فيها «نهر النيل»!
تشير الإحصاءات الرسمية، حسب تقارير وزارة الدولة للتنمية المحلية، إلى أنّ نصيب الفرد من مياه الشرب في مصر قد تراجع بوضوح خلال القرنين الماضيين على نحو ما يبيّنه الجدول.
وبالطبع فإن فقراء مصر، وسكان الريف بالذات، كانوا هم أول من عانى من ثبات معدلات تدفق مياه النيل في الخمسين عاماً الأخيرة، مع تضاعف أعداد السكان من نحو 20 مليوناً في منتصف القرن الماضي إلى نحو 76 مليوناً هذا العام. لكنّ السبب الأساسي الذي فاقم أخيراً «أزمة المياه» في مصر هو الاستخدام المترف السفيه للمياه المحدودة من شريحة الأغنياء وناهبي المال العام وأثرياء الاحتكار والمضاربة في الأراضي، و«محاسيب» السلطة. أدى هذا الوضع إلى حرمان أكثر من ربع المصريين من المياه، أغلبهم من الفلاحين الفقراء. فالفيلات الفاخرة والقصور المنيفة، بحدائقها الوارفة الهائلة الاتّساع وحمّامات السباحة فيها وما تستهلكه من كميات ضخمة من المياه، ونوادي «الغولف» التي يستخدمها نفر محدود من صفوة الصفوة، والمدن والقرى السياحية والمشاريع الضخمة الفاشلة، مثل مشروع «توشكى» الذي بدّد مليارات من الدولارات وملايين من أمتار المياه المكعبة بلا مردود حقيقي، كل ذلك امتص ما بقي لمصر من رصيد مائي هو أقل من الحاجات الأساسية للبلاد أصلاً، الأمر الذي كان يوجب ترشيداً واعياً للمياه واستخداماً حصيفاً لها تبعاً للأولويات الرئيسية.
هناك آراء أخرى لها أرجحيّتها، تستند إلى الخبرة الشعبية المتراكمة، تضيف إلى الفشل الإداري في مسألة توفير المياه للمواطنين المصريين، نية السلطة من وراء «تأزيم» وضع مياه الشرب والري في الريف المصري، التمهيد لـ«تحرير» مياه الشرب والري و«خصخصة» شركاتها، وبيع المياه إلى الفلاحين المصريين بزعم الحاجة إلى تغطية تكاليف تطوير شبكات المياه وتحسين خدماتها ونوعيتها، وهو ما أعلنته وزارة الإسكان بطرحها مناقصة عالمية للشركات لإنشاء محطات لمياه الشرب والصرف، حيث أشارت الوزارة إلى أن نظام الامتياز الجديد سيعطي للشركات الأجنبية الفائزة بالمناقصة مسؤولية إنشاء المحطة وتشغيلها، ومن ثم الإنفاق عليها وتحديد قيمة الخدمة المقدمة لـ«الجمهور» (جريدة «الأهالي» 25/ 7/ 2007).
في دراسة علمية حديثة نال عنها باحث شاب هو أمين إبراهيم، درجة الماجستير في جغرافية المياه من كلية الآداب في جامعة طنطا، مسْح لوضع المياه في إحدى المحافظات التي تفجرت فيها عملية الاحتجاج على نقصها أخيراً، محافظة «كفر الشيخ». وتوصلت الدراسة إلى أن 64% من مراكز كفر الشيخ وقراها (ومنها 1121 عزبة) محرومة من مياه الشرب، لذا لم يكن مفاجئاً أن «ثورة العطش» تفجرت أول ما تفجرت من مركز هذه المحافظة التي يتولى موقع المحافظ فيها صلاح سلامة، الرئيس السابق لمباحث أمن الدولة. لقد تظاهر أكثر من أربعة آلاف مواطن وقطعوا الطريق السريع لمدة عشر ساعات، حتى أجبروا السلطة على توصيل المياه لري أراضيهم ومن أجل الشرب أيضاً. بعدها تدفق طوفان الغضب بسبب نقص المياه في أغلب قرى مصر ومحافظاتها، وكان رد الفعل المباشر للفلاحين (والمفاجئ للبعض) قوياً، إذ بدأ أهالي قرية «دمرو» التظاهر احتجاجاً على انقطاع مياه الشرب بصفة دائمة، وعلى محاولة انتزاع 1000 فدان (الفدان الواحد 4200 متر مربع) من أجود أراضي القرية لإقامة مشروع حكومي عليها. وتجمهر مزارعو محافظة الدقهلية احتجاجاً على رفض بنك التنمية والائتمان الزراعي تسلّم محصول القمح، واتهموا الحكومة «بالتحريض على عدم زراعة القمح واتجاهها لاستيراده، مما يهدد بالقضاء على زراعته (مصر إحدى أكثر دول العالم استيراداً للقمح...الأميركي!).
وفي محافظة سوهاج بجنوب الوادي، توصل تقرير لجنة لتقصّي الحقائق، إلى أن خمسة وسبعين مصاباً بالتسمّم نُقلوا إلى المستشفيات بسبب تخزين مياه الشرب في حظائر المواشي واختلاطها بالصرف الصحي. ويوم الحادي عشر من شهر تموز/ يوليو الفائت، اعتصم ثلاثة آلاف مواطن بقرية «بشبيش» بالمحلة احتجاجاً على نقص مياه الشرب، وهدد عشرات الآلاف من قرى مجاورة بالانضمام إليهم، فيما احتشد المئات من فلاحي «رشيد» بدلتا النيل، مهدِّدين بالاعتصام والإضراب عن الطعام احتجاجاً على عدم وصول مياه الري إلى أراضيهم.
وفي الوقت نفسه، شهدت قرية «بلقاس» في محافظة الدقهلية، اعتصاماً كبيراً أجبر السلطات على بدء العمل في تطهير الترعة التي تنقل المياه إلى أراضيهم. وبعد يوم واحد تظاهر أكثر من خمسة آلاف فلاح في المحافظة ذاتها ضد العطش ونقص مياه الري، مهددين بالإضراب عن الطعام إذا لم تُحلّ هذه المشكلة، فيما تظاهر خمسة عشر ألف مواطن، في محافظة دمياط، حاملين أوعية المياه البلاستيكية الفارغة، مطالبين بحقهم في مياه شرب صالحة للاستخدام الآدمي. وتظاهر ثلاثمائة مزارع في مدينة «بلقاس»، طلباً لسماد «اليوريا» الذي اختفى من الأسواق ورفع التجار سعره لأثمان خيالية! وهدد المزارعون ـــــ العطشى هم وأراضيهم ـــــ في محافظة الإسماعيلية بالإضراب المفتوح عن الطعام إذا لم تحلّ مشكلة إمدادهم بالمياه، وعاد نحو 120 ألف مواطن في محافظة الدقهلية يهددون بإضراب مفتوح بسبب بوار 11 ألف فدان نتيجة حرمانها من مياه الري، فيما تواصلت أزمة مياه الشرب وإكراه المواطنين على تناول مياه الصرف الملوثة وإلا مواجهة الموت عطشاً. وبسبب التدافع على المياه في تلك المنطقة، أصيب تسعون فرداً بجروح، واعترف المسئولون فيها بأن مياه الشرب ملوثة بمياه المجاري، بينما هدد سكان أربع قرى بمسيرة احتجاجية حاشدة أمام مجلس الوزراء، وواجه مواطنو محافظة بني سويف بصعيد مصر، العطش وبوار الأرض ـــــ على نحو ما كتبت الصحف ـــــ بشعار «الاعتصام هو الحل»، إذ هدد نحو عشرين ألف مواطن بقرية السعدية بالاعتصام بسبب انقطاع المياه، معلنين أن «الاعتصام هو الحل الوحيد للحصول عليها»، وتجمهر المئات من مواطني قرى «الجهاد» و«التضامن» و«المنشية» في محافظة بني سويف بسبب انقطاع مياه الشرب وإصابة بعضهم بأمراض الفشل الكلوي نتيجة تلوثها، فيما واصل مواطنو قرية كفر غنّام التابعة لمركز «السنبلاوين» اعتصامهم لعدة أيام على التوالي احتجاجاً على تجاهل المسؤولين لمطالبهم بتوفير المياه لإنقاذ 1200 فدان من البوار بعد جفاف الترعة الرئيسية بالقرية.
وفي محافظة دمياط اعترف محافظها الدكتور محمد البرادعي، بأن المصرف الذي يلوث مياه الشرب في العديد من قراها هو «كارثة بيئية» على حد وصفه. وتداعى المواطنون في المحافظات العطشى إلى التظاهر بالفؤوس وأوعية المياه الفارغة أمام مجلس الشعب بالعاصمة المصرية لتقديم ما سموه «وثيقة العطش» إلى المسؤولين، بعد أن احتشدوا رافعين لافتات مكتوباً عليها «عطشانين في بلد النيل»، منتقدين ارتفاع نسبة الأملاح في مياه الشرب وانتشار الطحالب فيها، الأمر الذي أدى إلى تفشي الإصابة بالفشل الكلوي بين المواطنين.
الشعب «هو الباقي حيّ»
هذه عينة من مظاهر «ثورة العطش» التي تجتاح وادي النيل هذه الآونة، وهي تعكس ملمحاً من ملامح صورة مصر الراهنة، المليئة بالغضب وعناصر التوتر والانفجار، وهي «الثورة» التي تضاف إلى تحركات العمال الذين زلزلت إضراباتهم واعتصاماتهم مصر من أقصاها إلى أقصاها طوال العشرين شهراً الفائتة، والمثقفين الذين خاضوا صراعاً دامياً ضد السلطة، منذ أن ألقت حركة «كفاية» حجرها في البئر السياسية الراكدة مع نهاية عام 2004، فحركت دوامات الاحتجاج المتسعة دوماً، ثم جاءت تحركات القضاة وأساتذة الجامعة الذين أعلنوا جميعاً رفضهم للنظام، وأداروا الظهر لسياساته المعادية لمصالحهم ولبرامج «تحرير» الاقتصاد التي ضاعفت معدلات إفقارهم وتبعية بلادهم... وهي تحركات تؤكد أن مصر دخلت مرحلة جديدة سيكون من المستحيل على النظام الحاكم أو أي نظام قادم أن يسيرها بالأسلوب القديم نفسه.
لقد أدى تجاهل صيحات «المعذبين في الأرض» المنتشرين على امتداد الوادي، وتراكم عمليات الإفقار على مدى عقود إلى تلك الانتفاضات. فبحسب تقرير للأمم المتحدة عرضه د. عثمان محمد عثمان وزير التخطيط في حكومة د. أحمد نظيف، مع أنطونيو فيجلانتي الممثل المقيم للأمم المتحدة في القاهرة في آذار/مارس 2005، فإن نحو 34% من سكان مصر يعيشون تحت حد الفقر [علماً أن بعض الاقتصاديين الثقاة في مصر، مثل الدكتور نادر الفرجاني والدكتور إبراهيم العيسوي، وآخرين، يرفعون هذه النسبة بدرجات كبيرة]، 68% منهم يقطنون في صعيد مصر حيث تتراكم مسببات ومظاهر التخلف وتدهور الأوضاع المعيشية، ويعيش 16.7% من السكان بأقل من دولار واحد يومياً، فيما لا يحصل 10 ملايين مواطن أو أكثر على احتياجاتهم الكافية من الغذاء، وتنتشر أمراض سوء التغذية في 21% من قرى صعيد مصر، وتزيد نسبة الأمية بين الفقراء عن 52 %.
قد يتكلّم مثقّفو مصر فتتجاهل السلطة الاستماع لأصواتهم. وقد يصرخ المهنيّون، فلا تجد صرخاتهم آذاناً صاغية لدى أهل الحكم. أما إذا تحدّث الفلاحون أو تحرّك العمّال، فلا بدّ للجميع أن يُرهفوا السمع، لأن صوت الشعب أقوى من كل محاولة للتجاهل أو الخداع أو السيطرة، فالشعب كما يقول شاعره أحمد فؤاد نجم: "هو الباقي حي/ هو اللي رايح
هو اللي جاي/ طوفان شديد/ لكن أكيد/ يقدر يعيد/ صنع الحياة»!
* كاتب مصري وأحد مؤسّسي حركة «كفاية