ليلى نقولا الرحباني *
نأتي اليوم، بعد سنة على الانتصار، وبعدما بتنا قادرين على التحليل العلمي والموضوعي في الانتصار وأسبابه ونتائجه، ننظِّر ونحلّل معاً في تعاطي الشعب اللبناني مع العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006.
بعيداً عن كل التحليلات والإشادات بوحدة اللبنانيين الكبيرة، وإذا أردنا بالفعل دراسة التجربة للاستفادة منها وللاتعاظ من عبرها، نأتي اليوم لنقوِّم في البدء تعامل اللبنانيين مع العدوان وردّات فعلهم تجاهه.
فعلياً، لقد انقسم المجتمع اللبناني خلال عدوان تموز، وبرزت الانقسامات جلية وواضحة من خلال وسائل الإعلام ومن خلال التصرفات السياسية والأقوال والهمسات والأحاديث التي تم تداولها.
انقسم المجتمع إلى قسمين وبشكل عمودي حاد، فبرز أن هناك مجتمعين، لا بل مجتمعات وفئات عدة:
أولاً، المجتمع الهامشي: وبرزت فيه فئتان أساسيتان:
الفئة الأولى هامشية قولاً وفعلاً، نظرت إلى ما يحصل كأنه يجري في أجزاء أخرى من العالم، فراحت تشاهد المجازر والقصف من خلال شاشات التلفزة، وأمضت وقتها تتحسر على موسم الاصطياف والربح المادي المنتظر تحقيقه من موسم الصيف الواعد كما قالوا. والبعض الآخر منهم، ممن امتلك قدرة مادية، غادر البلاد، إما لسياحة صيفية أو بحثاً عن مكان آخر للاستثمار وهو يردد: «ما عاد ينعاش بها البلد، كلو خسارة بخسارة...».
أمّا الفئة الثانية منه، فلم تكتف بمشاهدة صور المجازر والآلام والدماء والتهجير، بل شنّت حملة شعواء على المقاومة وأهلها ومن يحتضنها ومن يؤويها ومن تفاهم معها...
استخدمت في الحملة جميع الوسائل الإعلامية والتحريضية غير المشروعة... فخرج سياسيّو هذه الفئة وإعلاميوها يحمّلون حزب الله المسؤولية الكاملة عن الحرب وتداعياتها، ويتّهمونه باحتكار قرار الحرب والسلم، ويتهمون «وثيقة التفاهم» بتأمين التغطية، ويتباكون على الاقتصاد المنهار، فيحمِّلون المقاومة وزر المأساة الاقتصادية التي يعيشها لبنان منذ عقود، ووزر المليارات الخمسة والأربعين التي أهدرتها الحكومات المتعاقبة.
راهنت هذه الفئة منذ بداية العدوان على تعب المقاومين والشعب، وعلى ظهور احتجاجات داخلية تلاقي الآلة العسكرية الإسرائيلية، فتطوق المقاومة: من الأمام جيش يُقال عنه إنّه لا يُقهر، وفي الداخل التضييق على السكان لحملهم على التحلل من المقاومة أو الضغط عليها، ما يؤدّي إمّا إلى موتها عبر تجفيف المياه عن السمكة المقاومة، أو خنق السمكة بضغط المحيط عليها.
أما القسم الأكبر من المجتمع اللبناني، الذي أثبت أنه مقاوم بامتياز، فيعود له الفضل الكبير في الانتصار. وينقسم هذا المجتمع المقاوم إلى فئات أيضاً أهمّها فئتان رئيسيتان:
الفئة الأولى: مجتمع المقاومة، أي أهالي المجاهدين والمقاومين وعائلاتهم. يتكوّن هذا المجتمع من الجمهور ذي الغالبية الشيعيّة الذي يتعاطف مع هذه المقاومة ويمجّدها انطلاقاً من معايير إيديولوجية ودينية وحياتية.
المقاومة في هذا المجتمع ليست مقاومة حزب أو فصيل سياسي، بل هي مقاومة شعب برمّته، شعب قرّر التماشي مع سلوك قادته في القرار ومقاتليه في الميدان، أي مواصلة القتال حتى النصر أو الشهادة بدون أن يكون في صفوفه من يرضى بأن يبقى حتّى يقبل التوقيع على الاستسلام. إنّهم مجتمع يرى المعركة معركة «مصير»، معركة صراع الحقّ ضد الباطل.
لقد أثبتت حرب تموز أنّ المقاومة عند هؤلاء ليست فعلاً عابراً أو عرضياً، بل تحوّلت إلى فعل إيمان وأسلوب حياة يومي، بحيث يعيشون على تطويرها وتربية أطفالهم على مبادئها كما يعلمونهم مبادئ الدين، ويدربونهم على الثقة بها والعمل من أجلها، ويقومون بتربية الأسر والمحيط على الارتباط بها والعمل الدؤوب لحماية وجودها وبناء منظومة العلاقات الوطنية على أساس تأييدها
ونصرتها.
بينت التجارب أن المقاومة ليست جزءاً لا يتجزأ من حياة هذا المجتمع اليومية فحسب، بل هي حياته اليومية بكل تفاصيلها ومصيره الكامل من المهد إلى اللحد. تماهت المقاومة معهم، بحيث بات يصعب فك الارتباط بينهما، عاشوها كما الماء والهواء، هي علة وجودهم وحياتهم.
هي جزء من إيمانهم الديني والعقائدي وطريقهم الذي يسلكونه في سبيل الله، فيمارسون القتال بذهنية القيام بالواجب أو التكليف الشرعي من دون أن تثنيهم المخاطر أو حجم التضحيات أو يعوقهم بُعد تحقيق النتائج أو قربها.
لذلك لا نستغرب الروح المعنوية العالية التي سادت هذا المجتمع بالرغم من كل عذابات التهجير، والخوف على الأبناء والأزواج والإخوة... أطفال وأمّهات وشيوخ، أربعة أجيال تأكل، تتنفّس، وتنام تحت سقف غرفة التهجير المستطيلة، لكن الثقة بالنصر والرغبة في الشهادة والتضحية من أجل قضية سامية، طغت على كل ما عداها من مشاعر ولم تعد مساحة الغرفة أربعين متراً مربعاً، بل أمست بحجم الوطن العظيم وارتفاعها بحجم التضحيات التي بذلت وتبذل من أجله.
أمّا الفئة الثانية، فهي فئة مقاومة أيضاً، لكنها من خارج مجتمع المقاومة.
بداية نلفت إلى أن هذه الفئة ليست بقليلة في المجتمع اللبناني، وينتمي إليها مواطنون من كل الطوائف.
يختلف مفهوم المقاومة عند هؤلاء عن مفهوم «الجهاد» لدى حزب الله، وتختلف لديهم المعايير التي ينظرون إليها للفعل المقاوم، بالرغم من أنهم يؤمنون بحق الشعوب في مقاومة المحتل، ودحر الاحتلال والدفاع عن الارض. آمن هؤلاء بالمقاومة خياراً حاسماً ووحيداً في دحر المحتل عن أرضهم، ولو أنهم اعتمدوا أشكالاً مختلفة عن المقاومة العسكرية، فقاوموا بكل ما أوتوا من وسائل سياسية وإعلامية واجتماعية وثقافية، وانتصروا للمقاومة من خلال الوحدة الوطنية الصلبة التي أظهروها، وتضامنهم الشديد وغير المحدود مع أهلها، والدعم اللامتناهي لخيار مواجهة العدو ومحاربته.
بنظر هذا المجتمع، أنّ المقاومة شعب وثقافة قبل أن تكون عسكراً. لقد آمن هؤلاء خلال تاريخهم أن الحرب واستعمال القوة المسلحة للدفاع عن الوطن ليسا شأناً يخص العسكر فقط، بل على الجميع أن يشاركوا في الحرب ضد العدو لمحاولة كسبها.
تجذرت في هذا المجتمع قيم ومبادئ تقدس الحرية والسيادة والاستقلال، وتعي أهمية الخطر الإسرائيلي ومطامعه في لبنان، وترى أن من واجب الأمم التوحّد لمجابهة العدوّ، فجميع التمايزات تسقط عند أبواب التهديد الخارجي، والخوف على الوطن والمصير.
وما وثيقة التفاهم التي وقّعها التيار الوطني الحر وحزب الله سوى تعبير عن حالة شعبية أصيلة ومزاج عام لدى هذا المجتمع السيادي بامتياز، العاشق للحرية والسيادة والاستقلال والمجتمع التحريري الذي نظم المقاومة المسلحة، ترجمت في وثيقة وقعها قائدان استرشدا بالإرادة الشعبية وعبّرا عن مكنوناتها. فالإرادة الشعبية بالتلاقي والتفاهم كانت موجودة قبل توقيع الوثيقة، ولو أنها لم تظهر وتعبِّر عن نفسها إلا لغاية 6 شباط 2006.
لقد أثبت المجتمع اللبناني خلال عدوان تموز أن باستطاعته عزل الفئات الهامشية والخاضعة والمتعاملة، وأثبتت الحرب أن الجزء من الشعب المتمسك بكرامته وحريته وسيادته الفعلية هو الأكثرية الحقيقية.
* كاتبة لبنانية