strong>هيفاء زنكنة *
هاكم يوميات ساسة الاحتلال على اختلاف أحزابهم وطوائفهم وأعراقهم في المنطقة الخضراء ببغداد.
صباحاً: جبهة التوافق تهدد بالانسحاب من البرلمان والحكومة.
ظهراً: يتلقى نوري المالكي رئيس وزراء ما يسمى بالحكومة العراقية مكالمة هاتفية عبر الأقمار الصناعية من سادة الاحتلال في واشنطن، فيشكل الائتلاف العراقي الموحد لجنة للتفاوض مع جبهة التوافق عقب تهديدها بالانسحاب.
عصراً: جبهة التوافق تتلقى مكالمة هاتفية مماثلة فتعود إلى البرلمان والحكومة.
مساءً: الكتلة الصدرية تنسحب.
ليلاً: تتلقى الكتلة الصدرية مكالمة عبر خطوط مزدوجة فتعود. صباح اليوم التالي تنسحب كتلة التوافق. وتلخص النكتة السوداء الشائعة في الشارع العراقي هذه الأيام، مراوغة الانسحاب والعودة، بأن الانسحاب يتم يوم ستة من الشهر والعودة يوم 26 منه أي يوم قبض الراتب والمخصصات.
على أرض الواقع، كل الأطراف السياسية المتصارعة ضمن منظومة الاحتلال تبقى طوال فترة وجودها في العراق، وهي فترة لا تتجاوز بضعة أيام شهرياً، في المنطقة الخضراء حيث يبحث الساسة إمكانات المناورة وتبادل الشائعات وإطلاق التصريحات وتوقيع العقود والصفقات وتشريع القوانين الخاصة بزيادة مخصصاتهم وكيفية حمايتهم والحصول على الجوازات الدبلوماسية لهم ولعوائلهم. ويتم كل ذلك، وضمنه تمرير القوانين المصيرية، تحت مظلة الحماية الأمنية والأسوار والأسيجة وإشعاع الهيمنة العسكرية والاقتصادية المنطلق من السفارة الأميركية، بمعزل عن الشعب الذي يُطلق كل تغيير وتشريع باسمه، نظرياً، مع اتخاذ كل الإجراءات الفاشية لتغييبه جسدياً ومعنوياً.
وإذا ما استعرنا لغة كرة القدم ونحن لا نزال نتمتع بلحظات الفرح النادرة التي صاحبت فوز الفريق العراقي ببطولة كأس آسيا، فإنّ مخطّطي السياسة الأميركية، وحسب بيان المحافظين الجدد، قد قرّروا، منذ اللحظات الأولى لبدء لعبة التخطيط للغزو في أوائل التسعينيات، تجميع لاعبين معيّنين من «المعارضة العراقية» المقيمة في واشنطن ولندن وإطلاق اسم «ممثلي الشعب العراقي» عليها، ثم أدخلوها معهم على ظهور الدبابات لينسّقوا معاً سلسلة أكاذيب بناء العراق الجديد وأكذوبة الانتخابات التي اهترأت لتزايد الثقوب فيها إثر كل فشل جديد، وإن كان المحتل مصرّاً على ترقيعها بكل الطرق الممكنة التي تتضمّن إدخال لاعبين جدد الى الساحة ليمثلوا العلمانيين حيناً أو السنّة مروراً بالمستقلين أو من يطلق عليهم اسم «أحد أجنحة المقاومة».
وكما هو معلوم، فإن معظم العراقيين الذين رفعوا إصبعهم البنفسجي للدلالة على مشاركتهم في الانتخابات يتمنون الآن لو أنهم قطعوا إصبعهم ندماً على سوء ما ارتكبوه من إضفاء صفة الديموقراطية على مجموعة عصابات. غير أن العنصر الأهم في اللعبة بقي بلا تغيير وهو تفريغ العراق من كل من لا يساير مواصفات السياسة الأنجلوأميركية ــــــ الصهيونية وشروطها، أو يحاول تجاوز الخطوط الحمراء التي يرغب المحتل في فرضها على العراق وعموم المنطقة العربية، بما في ذلك سيطرته على مصادر الطاقة.
إذاً صار من الطبيعي، حسب منظور الاحتلال، تقويم الشعب العراقي المقيم خارج المنطقة الخضراء بأنه هو المشكلة التي تعوق نجاح «الحرب على الإرهاب» و«بناء العراق الجديد». لذلك بات من الضروري، وكما حدث في فيتنام إبان شن حملات التهجير القسري، إما التخلص منه أو استبداله أو تغيير ديموغرافية البلد لتتلائم مع طموح الاحتلال. لذا كثرت التكتيكات الدافعة في اتجاه التخلص من الشعب وتعددت، حيث قامت الشركات الاحتكارية أولاً بجلب الأيدي العاملة الرخيصة من كل بقاع الأرض لتعمل في العراق بينما يعاني ابن البلد البطالة والفقر، وبلغت نسبة الفقراء ما يزيد على ثلث السكان فضلاً عن شحّ الأساسيات من الماء الصالح للشرب والكهرباء والدواء، إذ كشفت منظمة أوكسفام البريطانية للإغاثة منذ أيام عن أرقام مخيفة تتعلق بسوء الأوضاع الإنسانية في العراق، أرقام سترسخ في ذاكرة الشعب: 8 ملايين عراقي معرض للجوع، وأكثر من 4 ملايين مهجر قسراً في داخل وخارج البلد، ومن هو في الداخل يعامل بشكل أسوأ ممن هو في الخارج، وتضاعف نسبة سوء تغذية الأطفال، و70% من البيوت من دون ماء صالح للشرب.
هذا التدهور السريع في مستوى حياة المواطنين يضاعف وتيرة انخراط العراقيين في مناهضة الاحتلال وعملائه، التي بدأت منذ اللحظة الأولى للغزو الأجنبي نفسه وسياساته المتغيرة حسب درجات الفشل والنجاح.
فعندما حارب العراقيون سياسة الاحتلال الاستبدالية، شرع المحتل وعملاؤه أولاً بمحاولة ترسيخ المحاصصة الطائفية والعرقية على مستوى الشارع وكل المؤسسات الحكومية، ثم انتقل ثانياً الى مرحلة ترويع المواطنين بمختلف الطرق والأساليب الإرهابية من الاختطاف الى التهديد بالقتل والتصفية وتفجير المفخخات في الأسواق المكتظة الى غلق الصحف ومهاجمة محطات التلفزيون المستقلة، لكي يجبر المواطن على الهجرة القسرية حفاظاً على حياته وحياة أفراد عائلته.
بموازاة تنفيذ هذا المخطط قام الاحتلال أيضاً باستخدام المغريات المادية ومنح العقود المحلية وحتى إيصال الأكياس المعبأة بملايين الدولارات إلى رؤساء الأحزاب والطوائف، فضلاً عن جلب المزيد من قوات الاحتلال والمرتزقة الذين بات عددهم يزيد على 126 ألف مرتزق من حثالة الجيوش، من أميركا وجنوب إفريقيا وأستراليا وبريطانيا، ممن استقالوا من مراكزهم الرسمية في القوات الخاصة ليخدموا أسيادها في سوق صناعة الموت الحرة.
لذلك جاء رد الشعب العراقي على سياسة الاحتلال واضحاً وصريحاً متمثلاً بمقاومته المسلحة الباسلة. وليس أكثر دلالة على عدم انحناء قامة العراقي وإبائه واعتزازه باستقلاله ووحدة وطنه من مواصلة المقاومة عملياتها العسكرية على الرغم من كل المغريات والتهديدات والتقدم التكنولوجي الهائل للعدو، وعلى الرغم من وقوفه وحيداً بلا دعم خارجي عربياً كان أو عالمياً. ويكفينا لندرك مدى دعم الحكومات العربية لمقاومة الشعب العراقي المطالبة بالانسحاب الفوري لقوات الاحتلال أن نقرأ تصريح وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس القائل إن الحكومة المصرية وبعض السياسيين في واشنطن قلقون من عواقب أي انسحاب أميركي متهوّر من العراق!
* كاتبة عراقية