strong>ساري حنفي *
ركّز كثير ممّن يهتمّون بظاهرة فتح الإسلام وعصبة الأنصار وجند الشام على هذه المجموعات كظواهر حديثة، باعتبارها تفرّعات للقاعدة. وتدافع المحلّلون السياسيون على ترصّد الآمر والمموّل لها (سوريا، السعودية، بعض التيارات اللبنانية، القاعدة...). لكنّ قلّة منهم كتبت كيف تركّزت هذه الظاهرة في بعض مخيّمات لبنان لا سوريا أو الأردن. لعلّ ما أودّ أن أركّز عليه، في هذا الحيّز، هو تناول الظاهرة، والعوامل البنيوية لا اللحظية التي جعلتها ممكنة. وذلك بغضّ النظر عن القابعين وراء هذه المجموعات، فكلّهم يعرفون أن المخيّمات الفلسطينية هي الأمكنة الوحيدة التي يمكن هذه المجموعات أن تنمو فيها، باعتبارها «فضاءات الاستثناء». فكيف تحوّلت المخيمات إلى مختبر للحركات الأصولية الجهادية؟
بينما كان هناك حضور وافٍ للدولة اللبنانية في الفضاء العام من خلال سنّ القوانين وتشريعات التنظيم المدني وتطبيقها، استثنت المخيمات الفلسطينية من هذا الحضور، فأصبحت فضاءً من دون قوانين وتنظيم. لقد طُبّقت عملية التنظيم المدني في المخيمات بدون أي سياسات تخطيط. فقد تم البناء بشكل فردي وعشوائي حسب رغبة كل شخص، وكانت النتيجة انتشار المباني كعشوائيات في جميع الاتجاهات. نتج من ذلك تحول المخيمات الى مناطق بؤس تحيط بالمدن، ويعاني العديد من سكانها المستوى المتدني للعيش بسبب حرمانهم حق العمل.
في حالة الاستثناء، لا شيء معرّفاً قانونياً. كلّ شيء معلّق بالتطبيق، لا بالقانون.
سياسات الفراغ
دخلت المخيّمات الفلسطينيّة تحت إدارة منظمة التحرير منذ 1969 بعد اتفاق القاهرة. لكن بعد خروج منظمة التحرير عام 1982 أصبحت المخيمات تحت سيطرة قوى منقسمة بين موالٍ لسوريا وموالٍ لمنظمة التحرير. بعد عام 1982، أصبحت للمخيّم مرجعيات متعددة غير منحصرة ضمن إطار منظمة التحرير الفلسطينية (لجان شعبية موالية لسوريا، مدير المخيم، المؤسسات غير الحكومية، الفصائل الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير والمعارضة لها، المجموعات الإسلامية غير الفلسطينية...). أثرت كل هذه المرجعيات في تغيير ميزان القوى. وقد بيّنت المقابلات التي قمنا بها في مختلف المخيمات كيف عاش سكان المخيمات في فوضى بسبب حالة الاستثناء. فقد عبرت امرأة مسنة عن غضبها قائلة «إلى من سأعود عندما يقوم جاري ببناء طوابق متعددة ويمنع عني ضوء النهار؟». لقد استخدم العديد ممّن قابلناهم كلمة «فوضى» لوصف الحالة في المخيمات.
على كل حال، فالفوضى ليست مبنية على غياب القانون، لكن على استثناء مجموعة سكانية من الحيّز الذي يسود فيه القانون: «المخيمات ليست تحت مسؤولية الدولة اللبنانية»، هكذا يقول أحد مسؤولي الأمن اللبناني. هذا يعني أن الفلسطينيين مستثنون من مجال العمل والحقوق المدنية، لكن، في الوقت نفسه، يشملهم القانون من حيث الواجبات، فهم يدفعون الضرائب.
هذا الاستخدام العشوائي للقانون وتعليق العمل به، هو ما يبرر استعمال مفهوم «فضاء الاستثناء»، وكذلك «سياسات الفراغ» لفهم العلاقة بين المخيمات والدولة اللبنانية، وتغيّر أشكال هذه العلاقة حسب موازين القوى.
قبل عام 1970، وُضعت المخيمات تحت حالة الطوارئ، عندما علّق الجيش اللبناني (المكتب الثاني) استعمال القانون. لكن بعد ذلك، لم يعد المكتب الثاني قادراً على دخول المخيمات دون التفاوض مع القوى الموجودة هناك التي تقرّر هي التنسيق أو عدمه.
قد يلجأ سكان المخيم إلى إمام الجامع أو فعاليات المخيم أو رؤساء الفصائل السياسية لحل الخلافات في ما بينهم قبل الاستعانة بالأمن اللبناني. وقد نجحت هذه الأساليب في حلّ النزاعات في الأراضي الفلسطينية، لكنّها لم تنجح في المخيمات الفلسطينية في لبنان لأنّها لا تتمتّع بتجانس التركيبة المجتمعية الموجودة في تلك الأراضي. نلاحظ، في بعض الأحيان، نشوء نخبة جديدة تستمدّ مشروعيّتها من النضال الفلسطيني الوطني. لكن، حالياً، لا يكفي النضال وحده لكي تصبح هذه النخبة وسيطاً في النزاعات الاجتماعية وغيرها.
فضاء المخيّم
يحمل فضاء المخيم أربع وظائف أساسية: مكاناً للسكن، فضاءً اقتصادياً وسوقاً، مكاناً للذكريات وللتأكيد على الهوية، ومكاناً لممارسة القوة، وأحياناً قاعدة حربية. تجعل هذه الوظائف من المخيم مختبراً للمجتمع/ للدولة في طور النشوء، لكن أيضاً مختبراً تجريبياً للمراقبة والسيطرة، ونموذجاً تقنياً لقمع طور بفعل تراكم خبرات المسيطرين، وذلك لاستخدامه في مناطق متفرقة مع الشعوب التي «لا تحسن التصرف». لكن أبعد من ذلك، فحسب الأنثربولوجي الفرنسي برنار روجيه، ظهر المخيم كنوع من مختبر أو كعالم مصغّر من التفكير الإسلامي المسيّس.
لكن بوصف الإسلام السياسي أنّه ضدّ «الحضارة الغربية»، استخدم روجيه فلسفة بوش نفسها المتمثّلة بـ«النبوءة المتمنّاة» لصراع الحضارات التي تتجاهل البنية الأساس للخلاف: السيطرة الغربية، مطامع أميركا في نفط المنطقة، وفوق كل هذا طريقة دعم أميركا للممارسات الإسرائيلية الاستعمارية. كذلك، فالإسلام السياسي ليس كما يقترح روجيه خطأً، مختبراً سنّياً ضد الشيعة. وعلى الرغم من أهمية الأيديولوجيا الجديدة المعولمة للأصولية الجهادية، يبقى السؤال الكبير ليس في توصيف نشوئها، لكن في تحليل وضع القمع المحلي والانهزامات المتتالية أمام الهيمنة الأميركية الإسرائيلية في المنطقة، التي جعلت إمكان تحوّل بعض السلفيين إلى جهاديين سريعاً للغاية، كما بيّنه بحثنا الميداني عن بعض أعضاء القاعدة. لعلّ هذه الصورة التي أرسمها معتمة ومخيفة، رغم أنّها لا تشمل كل المخيمات الفلسطينية في لبنان. لكن حان الوقت لدّق ناقوس الخطر حول ما يجري في فضاء مخيمات فلسطينية تمّثل حالة الاستثناء وسياسة الفراغ.
خطاب حق العودة
لقد اتّسم الخطاب الفلسطيني وخطابات المؤسّسات الإنسانية في شأن الصراع بتركيزه على المعاناة الإنسانية ومفهوم الضحية. وأصبحت مثل هذه الخطابات ممكنة، باعتبار أنّ هذه المخيمات المغلقة قد صوّرت على أنّها متاحف. إضافة إلى ذلك، فلقد اعتبرت هذه المخيمات الوحدات الأساسية للحفاظ على هوية اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية المضيفة. كنتيجة لذلك، أصبح المخيم شبه كينونة سياسية نظر إليه كثير من الباحثين الاجتماعيين والصحافيين والخبراء باعتباره فضاءً لإعادة إنتاج المكان الأصلي: بإطلاق أسماء بعض القرى والمدن في فلسطين على بعض الأحياء في المخيمات سعسع ولوبية ...، تصورّت أن المخيمات هي سعسع الجديدة ولوبية الجديدة... لقد غطى إضفاء الصبغة الاثنية على تاريخ اللاجئين على أهمية العلاقات الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية التي حيكت مع الدول المضيفة، على الرغم من التهميش.
لقد حصرت صورة اللاجئ في العالم العربي بهؤلاء الذين يعيشون في مخيمات البؤس، مع أنهم أقلية عددياً. إن الافتراض السائد في التفكير الشعبي وبين الجماعات المثقفة هو أنه كلما كان المخيم أكثر بؤساً، كانت حظوظ الناس بالبقاء في الدول المستضيفة أقل، وفي النهاية سيعودون الى ديارهم. لم يفهم خطاب البؤس أن العلاقة بين الهوية/ الانتماء الوطني(ة) الفلسطيني(ة) ومكان السكن ليست ذات مدلول. فليس هناك علاقة بين مكان السكن والدفاع وتبنّي حق العودة.
لقد امتدّت حركة حق العودة في أوروبا وأميركا الشمالية وتأجّجت اكثر مما هي عليه في العالم العربي. بناءً على ذلك، لا حاجة الى العيش في مخيم مغلق للحفاظ على الهوية الفلسطينية وعلى حق العودة. خلافاً للمعتقدات الشعبية في أن المخيمات تعزز الهوية الوطنية الفلسطينية، لقد أصبحت هذه الفضاءات مكاناً للحركات الوطنية الراديكالية المختلطة مع محافظة دينية. لقد أدى ذلك الى إنتاج هوية مكانية متمردة اكثر منها هوية وطنية موحدة. فمخيم عين الحلوة الذي لديه تاريخ طويل في المقاومة الفلسطينية، أصبح اليوم بعيداً عن الصراع العربي الاسرائيلي وعن الوطنية الفلسطينية، ومركزاً لنشاط إسلامي سياسي سلفي، ذي انعكاسات مخيفة على اللاجئين وعلى اللبنانيين، وربّما على المنطقة بأسرها. وهكذا نلاحظ قطيعة بين المخيم وجذوره في فلسطين/ إسرائيل ناتجة من اتصاله ايديولوجياً ومالياً بشبكة سلفية داعمة للمخيم عبر رجال دين من السعودية، وأحياناً إيران.
بينما تدفع منظمة التحرير حالياً نحو تعاون وتنسيق بين السلطات اللبنانية والفلسطينية لحكم وإدارة المخيم، كما بدا واضحاً في خطابات السفير الفلسطيني عباس زكي هذا العام، فإن كثيراً من الفصائل الموالية لسوريا وكذلك الإسلاميين قد رفضوا ذلك وفضّلوا بقاء الوضع على ما هو عليه، أي على حالة الاستثناء. لم يتنبّه كثير من المثقفين المؤمنين بالحركة الوطنية الفلسطينية إلى شكل استبداد المشروع الوطني والتديّن السلفي الذي زُرع في المخيم. وهذا يتضح جلياً لكل من يراقب المخيم منذ عشرين سنة ماضية؛ ولعل انتشار غطاء الوجه والكفوف للمرأة في الشارع خير دليل على ذلك. لقد أدّى هذا التغيّر الى أن يقوم بعض المثقفين الجدد كخالد الحروب وعريب الرنتاوي بالتساؤل عمّا إذا كان الشكل الاختزالي لطرح حق العودة مناقضاً لحق البقاء، ملمّحين الى أن الحركات الوطنية في المخيمات قد ركزت على خطاب مجرّد لحق عودة، وهذا يهدّد بقاء المشروع الوطني الفلسطيني، وربما أيضاً الانتماء الفلسطيني.
يجب أن نعيد التفكير في المخيمات الفلسطينية كفضاء للراديكالية وفضاء يساهم في تخليد الصراع العربي الإسرائيلي أكثر منه في حلّه. هناك حاجة ملحّة إلى تمكين سكان المخيمات، ولا يتم ذلك الا بمنحهم الحقوق المدنية والاقتصادية معترفين بميزة هويتهم التي تتخطى حدود الدولة القومية وبتحسين جذري للتنظيم المدني للمخيمات. هذا لا يمكن أن يحدث من دون وصل المخيم بالنسيج المدني لمحيطه وخلق نظام حكم شفاف مبني على الانتخابات المحلية.
أنا لا أطرح مفهوم التغيير الكلي، بل إعادة تأهيل المخيمات وجعلها فضاءً حضرياً مدنياً، ليس فقط بإعطائها الوضع الشرعي السياسي والمدني، لكن أيضاً بجعلها جزءاً من الفضاء المحيط، تماماً كما هي الحال في مخيم اليرموك في سوريا. بحيث يأخذ مخطط مدني قائم على التأهيل بعين الاعتبار النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي للمخيمات. ويكون ذلك عن طريق المشاركة من الأسفل الى الأعلى لتحديد الاحتياجات المختلفة للاجئين الفلسطينيين: نساءً، أطفالاً، رجالاً، والشرائح الطبقية العاملة والمتوسطة، وبدء حملة لا تركز فقط على حق العودة، بل على حق الاختيار للّاجئ (بين العودة الى فلسطين أو البقاء في البلد المضيف، أو الهجرة الدائمة الى بلاد أخرى). المطلوب تعاون وثيق، لا تنافس، بين منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية والأونروا والبلد المضيف كخطوة أولى لتخفيف مشاكل اللاجئين. قد يمثّل هذا التحسين أداة لتمكين اللاجئين كأفراد بهويات متعددة وعابرة لمكان وجودهم أو أصولهم.
بينما بُذلت بعض الجهود الحثيثة في الأردن وبشكل أقل في سوريا لضم المخيمات إلى التنظيم المدني المحيط به، فإنه لا وجود لأي مبادرة عملية من طرف السلطات اللبنانية. من وجهة النظر هذه، يجب على السلطات أن تعترف بالطبيعة المرنة العابرة الحدود القومية للهوية وحقوق المواطنة (التي لا تعني بالضرورة التجنيس) لمجموعة اللاجئين، إذ لا تناقض بين اعادة تأهيل مكان سكن اللاجئين ورغبة بعضهم القوية في العودة. فيمكن اللاجئ أن يكون على علاقة بعدة أمكنة في الوقت نفسه وبدون انفصام شخصي.
إن خطاب التوطين في لبنان هو الفزاعة التي تنشر خوفاً وهلعاً عاماً ضد الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. يبدأ أي نقاش حول الحقوق المدنية والاقتصادية بالتأكيد على أن الهدف يجب ألّا يكون التوطين وينتهي بالنغمة نفسها. وتستبدل الحقوق بحلول أمنية وإنسانية. ولعلّ استخدام كلمة التوطين كمحرم هو الشيء الوحيد الذي يجمع مختلف الأحزاب السياسية اللبنانية. يكفي تصفّح عناوين الصحف اللبنانية (الأخبار، النهار، السفير، لوريان لوجور) لملاحظة لجوء فريق سياسي إلى معارضة الآخر لترويجه للتوطين ومتهماً إياه بالخيانة: «برنامج إعادة إعمار البارد تمهيد للتوطين»، كما قرأنا في الصفحة الأولى لإحدى الجرائد. البعض الآخر، ومن ضمنهم رجال دين، رأى أن الحديث عن حقوق الفلسطينيين خطوة أولى نحو التوطين.
في كل هذا النقاش، أصبح الإنسان الفلسطيني غير مرئي. فمن ناحية، تعامل سياسات المنظمات الإنسانية الإنسان الفلسطيني كجسد يحتاج إلى الطعام والإيواء دون وجود سياسي (شكل من أشكال الحياة العارية، كما يقول جورجيو أغامبن)، ومن الناحية الأخرى، هناك خطاب التوطين. يرى المختبئون وراء هذا الخطاب أنّ الفلسطينيين مجرد أرقام، منتج ديموغرافي، كتلة سياسية عابرة تنتظر العودة. لقد ضاعت، بين الخطاب الإنساني وخطاب التوطين، المقاربة القائمة على الحقوق للفلسطينيين كأفراد وجماعات، كلاجئين يتمتعون بالحماية وبالحقوق المدنية والاقتصادية، وأيضاً حقهم بالعيش في المدينة.
ليس للفلسطينيين مكان في لبنان الجديد. إنّهم مهمشون اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ويمثّلون طائفة صغيرة دون أن يكون لهم مكان ضمن نظام طائفي، وما عادوا يمثّلون طليعة ثورية لمقاومة التهميش. الجديد في وضع هذه الطائفة أنها محاصرة فضائياً. هل أصبح ذلك ضرورة في عصر الهيمنة وما بعد الحادي عشر من أيلول؟ فحسب مصطلح المهندس الإيطالي أليساندرو بتيت، يعيش العالم في أرخبيلات متصلة بعضها ببعض، ولكي يتنقّل فيها الأشخاص «المتحضّرون» بحرية، لا بد من إيجاد مناطق محاصرة ومقفلة لاحتواء المجموعات غير المرغوب فيها، مثل مخيمات اللاجئين، ومخيمات انتظار المهاجرين غير الشرعيين وسجون غوانتانامو وأبو غريب والبنتوستانات.

* أستاذ مشارك في علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت