هشام نفاع *
«لوبي المجموعات اليهودية الليبرالية الأميركية ضد مشروع القانون الأبرتهايدي بشأن الصندوق القومي الإسرائيلي»... كان هذا عنواناً لافتاً في صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، أواخر الشهر الماضي. وهو يشير إلى قرار الكنيست الإسرائيلي التمهيدي، أخيراً، المصادقة على قانون يمنع بيع أو تأجير أراضٍ بإدارة «الصندوق القومي الإسرائيلي» لـ«غير اليهود».
بادر الى القانون نائبٌ مستوطن يدعى أوري اريئيل، جنّد له 64 نائباً من أصل 120، وشاركه الاقتراح والدعم نواب من حزب «كديما»، حزب رئيس الحكومة. فالوصمة على جبين إيهود أولمرت أولاً.
عملياً، يسعى هذا القانون العنصري الى منع مليون مواطن فلسطيني في اسرائيل من استخدام نحو 13% من الأراضي التي يسيطر عليها ذلك الصندوق في الدولة. بكلمات أخرى، يجري الآن تطبيق «ترانسفير» للفلسطينيين مواطني اسرائيل بنسبة 13%! هذا التوجّه المغلّف بكتاب القوانين ليس جديداً. بمفهوم ما، يمكن القول إنه حلقة جديدة في سلسلة طويلة عريضة من الممارسات التي تؤلّف سياسة واحدة. لعلّ التسمية الأدق لهذه السياسة هي ما عبّر عنه عنوان كتاب المؤرخ الفلسطيني نور مصالحة: «أرض أكثر وعرب أقل» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1997). هناك حاجة إلى استعراض تاريخي سريع لكشف جذور هذه السياسة، وبالتالي ربطها بما يبتغي من خلالها معظم الجهاز الرسمي الإسرائيلي اليوم.
أقيم «الصندوق القومي الإسرائيلي» عام 1901، وكان عبارة عن وكالة قامت الحركة الصهيونية من خلالها بشراء الأرض من إقطاعيين محليين كبار تصرّفوا وفق مقولة/ حقيقة أنه لا وطن لرأس المال... وقد أُريد لهذا الصندوق أن يصبح القيّم على الأرض في فلسطين باسم الشعب اليهودي، ومُنح هذه المهمة رسمياً. وبعد حرب 1948 والتطهير العرقي الذي اقتُرف، استولت إسرائيل على 3,5 مليون دونم من بيوت وحقول أهالي القرى المدمرة، ونحو 25000 مبنى سكني، بعدما كانت مساحات ملكية المؤسسات الصهيونية عام 1947 تبلغ نحو 1,6 مليون دونم أي ما يعادل 7% فقط من أراضي البلاد. بعد 1948 وُضعت تلك الأراضي في البداية تحت سلطة قيّم حكومي، ثم سُمح له ببيع الأرض نيابة عن الحكومة. وهكذا جرى «بيع» مليون دونم من أصل 3,5 مليون للصندوق القومي اليهودي عام 1948. من هذه اليد إلى تلك! وتم تحويل ربع مليون دونم آخر إليه عام 1949. وقدّر مسح نشرته صحيفة «هآرتس» مطلع هذه السنة أنه جرى تحويل نصف أراضي القرى الفلسطينية المدمرة الى الصندوق إيّاه.
وفقًا لكتاب مصالحة أعلاه، كتبَ مسؤول كبير في الصندوق في كانون الثاني 1953 رسالة الى رئيس حكومة اسرائيل حينئذ دافيد بن غوريون، عبّر له فيها عن قلقه من أن «العرب بقوا بأعداد كبيرة في الجليل». واقترح عليه «تفتيت هذا التجمع للعرب عبر الاستيطان»، متوقّعاً أن العرب عند تحقيق سلام مع البلدان المجاورة «سيرحلون من البلاد، ولذلك لا بدّ من اتّباع سياسة تشجيع المغادرة».
في عام 1959، وفقاً للمصدر نفسه، كتب من سيصبح لاحقاً نائباً لرئيس حكومة اسرائيل، يغآل ألون، أن على الصندوق القومي اليهودي أن يؤدي «دوراً كبيراً» في المساعدة على مغادرة العرب غير الموالين. ذلك التشجيع وتلك المساعدة يعنيان عملياً المصادرة المكثفة لأراضي العرب الفلسطينيين وخنقهم في بلداتهم التي لم تعد اليوم تتسع فعلاً للازدياد السكاني الطبيعي فيها ولضرورات تطوير مرافق حياتية ملائمة.
يكشف الموقفان الرسميان السالفان بوضوح أن ذلك الصندوق أدّى في تلك الفترة دور الأداة الناجعة بأيدي السلطات الإسرائيلية لتنفيذ مخططات المصادرة والخنق خدمة لأحلام استكمال تهجير العرب الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم. هذا الصندوق سيطر بأساليب كولونيالية نموذجية على أراضي الفلسطينيين، المهجّرين منهم والباقين. وهي حقيقة تنسف مزاعم مؤيدي هذا القانون وكأنه جاء ليحافظ على الأراضي التي تم «اقتناؤها» لمصلحة الشعب اليهودي. هذا الاقتناء هو الغطاء الواهي لأشكال السيطرة التي تترادف مع تعبير «النهب»، حتى لو تم ذلك باسم القانون. فالسؤال سيظلّ هويّة المشرّع وأهدافه. لا قانون فوق السياسات.
توقيت هذه الخطوة التشريعية العنصرية لا يتعلق بالطبع بخيوط الماضي الكولونيالي فقط. لأن هناك حاضراً كولونيالياً أيضاً. لقد بات واضحاً اليوم أن جميع مشاريع الضم الإسرائيلية الكولونيالية للمناطق المحتلة عام 1967 قد فشلت. لقد فتّت النضال الفلسطيني خلال عقود، شملت انتفاضتين، وهْمَ تأبيد السيطرة على تلك المناطق. ورغم قتامة المشهد السياسي الفلسطيني والعام الراهن، والضباب الخانق الذي يلفّه، فلا يمكن تجاهل حقيقة سقوط مشروع أرض اسرائيل الكبرى. في هذه الظروف تكشّر الجماعات الصهيونية المتعصبة عن أنيابها، وما هذا التشريع إلا واحداً من تحركاتها. فسرطان الاستيطان الذي وُجّه طيلة عقود الى المناطق المحتلة عام 1967، يتّجه الآن نحو الداخل الاسرائيلي. ليس أن مشاريع المصادرة والتهويد الداخلية توقفت يوماً، بل إن ما يجري الآن هو ما يصحّ تسميته سقوط آخر جدران الحياء. فقد جرت عمليات المصادرة وحرمان المواطنين الفلسطينيين الأرض، سابقاً، تحت تسميات شبه دبلوماسية منها «المصلحة العامة»، «الضرورات الأمنية»، «المناطق الطبيعية الخضراء» وغيرها. وهي تسميات لم تنطلِ على العرب الفلسطينيين الباقين الذين فجّروا يومهم المشهود في 30 آذار 1976، يوم الأرض الخالد، الذي بات ذكرى وطنية وفلسطينية وعربية. أمّا الآن فقد سقطت جميع الأقنعة، ومعها الذرائع. ربما يجب التنويه بحالة الجشع المهووسة التي تستحوذ على المأزومين بجرائر فعلاتهم.
في عودة الى ما افتُتح به هذا المقال، يتّضح أن اشتداد الهوس العنصري يجعل أصحابه يفقدون الرشد فلا يعودون يأبهون حتى لتغطية ممارساتهم الساقطة بتسميات مخفّفة. وهو ما يدفع الآن كما يبدو حتى جماعات صهيونية أميركية الى المطالبة بوقف هذا المشروع الفاضح. وهي تقول بصراحة إن خطوات من نوع هذا التشريع تصعّب عليها مواجهة المحاججين ضدّها بحقيقة أن المؤسسة الإسرائيلية تتعنّت على مشاريعها الكولونيالية وتغوص في وحل الأبرتهايد، وأنه لا يمكن ديمقراطيتها المزعومة أن تتعايش مع تعريفها الإثني المنغلق كدولة يهودية.
إن هذه السياسات تحتاج الى فضح على مستوى دوليّ لوقفها. يجب «مساعدة» المؤسسة الإسرائيلية على اتخاذ قرار استراتيجي، فإما أن تظلّ دولة أبرتهايد وإما أن تنزَع نحو الرشد السياسي. هذا يحتاج إلى مواجهة سياسية حازمة ومنظمة. وهو ما يتجاوز قانون صندوق الشرور المذكور ويتعدّاه الى جوهر، وبالتالي مستقبل، هذه الدولة في المشرق العربي.
*صحافي فلسطيني