أمل سعد غريب *
بعيداً من تمسّك محمود عباس الشخصي بالسلطات المناطة دستورياً بحكومة إسماعيل هنية، ارتكب هذا الرئيس الفلسطيني العديد من الانتهاكات الدستورية. ووفقاً لواضعي أطر النظام الأساسي الفلسطيني، فإن إقدام عباس على تأليف حكومة طوارئ برئاسة سلام فياض من دون الحصول على الموافقة البرلمانية المطلوبة ضمن فترة زمنية لا تتجاوز ثلاثين يوماً يُعتبر انتهاكاً واضحاً للدستور. أضف إلى ذلك أن مهندسي القانون الأساسي يسعون إلى إثبات أنه في غياب تصويت مماثل ينص الدستور على أن تبقى حكومة هنية حكومة تصريف أعمال إلى حين موافقة البرلمان على تأليف حكومة جديدة. ويدلّ ذلك أكثر ما يدلّ، على المستوى القانوني، على أن محاولة عباس الالتفاف على هذه القوانين عبر جعل حكومة الطوارئ المنتهية ولايتها حكومةً بالوكالة ليست أيضاً سوى تدبير خارج عن القانون، باعتبار أن من المفترض أن تضطلع حكومة هنية بهذا الدور. ولما كانت حركة «فتح» قد قاطعت الدورة الأخيرة التي دعا إليها رئيس المجلس التشريعي الذي ينتمي إلى حركة «حماس» من أجل التصويت على حكومة مؤقتة جديدة، فقد تذرع عباس بـ«الشلل البرلماني» للالتفاف على المجلس التشريعي برمته والدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة بموجب مرسوم، وذلك على الرغم من أن واضعي الدستور يؤكدون ما مفاده أن الحكم بموجب مرسوم لا يعني أن بوسع الرئيس تعليق القانون أو تعديله.
من جهة أخرى، لم تكن حكومة السنيورة أقل جرأة في تجاهلها الدستور. وفي هذا الإطار، يعتبر خبراء الدستور، من خلال ارتكازهم على مقدمة الدستور اللبناني التي تنص على ما حرفيته أن «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»، أن استقالة الوزراء الشيعة الخمسة من حكومة السنيورة في تشرين الثاني الماضي تضفي طابعاً غير شرعي على هذه الحكومة باعتبار أن طائفة برمتها باتت غير ممثلة في الحكومة. وفي محاولة خجولة لإيجاد مخرج قانوني من أجل إضفاء مظهر مخادع من الشرعية الدستورية، اعتبرت حكومة السنيورة أن مجلس الوزراء ما زال يشكل هيئة شرعية بما أنها لم تقبل باستقالة الوزراء. والجدير ذكره أنه مع استقالة وزير مسيحي آخر، بما يرفع عدد الوزراء المستقيلين إلى ستة، غدت الحكومة لا تمثل إلاّ فريق 14 آذار، ما يسهّل لها بالتالي عملية اتخاذ القرار. وهذا تحديداً ما مكّن الحكومة من التصويت على العديد من المسائل الاستراتيجية كالمحكمة الدولية، فيما تقوم بالالتفاف في العديد من الحالات، على الصلاحيات الدستورية المناطة برئيس الجمهورية المتحالف مع المعارضة. وبذريعة الشلل البرلماني، هدّدت قوى السلطة مراراً وتكراراً بالالتفاف على صلاحيات رئيس مجلس النواب وعقد جلسة برلمانية بمفردها، ما يشكل مخالفة للدستور، وذلك بهدف المصادقة على مسودة المحكمة الدولية وانتخاب رئيس جديد من دون اكتمال نصاب الثلثين الضروري في هذا الصدد.
وفي ظل غياب مجالس دستورية فاعلة في البلدين، بات المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الحَكَم للدستورين الفلسطيني واللبناني. وعلى الرغم من الانتهاكات الفجّة التي ارتكبها عباس بحق القانون الأساسي، اعتبرت الولايات المتحدة الحكومة التي عيّنها هذا الأخير «شرعية» معتمدةً المصطلح عينه لحكومة السنيورة، علماً بأن الولايات المتحدة لا تتوانى عن تذكيرنا بأن هذه الحكومة «انتخبت وفقاً للأصول الديموقراطية» كما لو أن هذا الواقع كان ليحدّ أو ليبرّر ما ترتكبه هذه الحكومة من انتهاكات بحق الدستور.
وبالطبع، لا ينسحب المنطق نفسه على حكومة هنية التي انتخبت وفقاً للأصول الديموقراطية أيضاً ـــــ وهو واقع تعمّدت واشنطن تجاهله ـــــ لكنها وجدت نفسها مرغمة على الدفاع عن نفسها في وجه محاولات ميليشيا دحلان تقويضها. وبحسب المفكر الفلسطيني جوزيف مسعد، فإنه من وجهة نظر واشنطن، يشكل دفاع حركة «حماس» عن نفسها في وجه انقلاب حركة «فتح» المنظّم، «انقلاباً على الديموقراطية». وفي تصوّر فريد من نوعه للحريات الديموقراطية، تصف الولايات المتحدة حملة الاحتجاج التي يقودها حزب الله والتي شملت تظاهرت شعبية كبيرة وإضراباً وطنياً واعتصاماً مستمراً، بأنها «انقلاب خارج عن القانون».
وفي محاولة إضافية لتقويض هذه التيارات وتحركاتها، سعت الولايات المتحدة إلى أن تحطّ من انتمائها وأجندتها الوطنيين، وذلك بتصوير أصحابها على أنهم وكلاء لسوريا وإيران ويعملون على زعزعة الاستقرار في بلادهم لمصلحة الجهات الأجنبية التي ترعى هذه الحركات. أما في ما يتعلق بحزب الله، فقد ذهبت هذه الحملة أبعد بكثير، مع محاولات الولايات المتحدة تصوير الحزب على أنه منظمة أياديها ملطخة بدماء الأميركيين. وفي غياب أي أدلّة قاطعة على ذلك، عمدت واشنطن إلى اتهام حزب الله بأنه «يشكل تهديداً دائماً ومتنامياً في السنوات الثلاث المقبلة»، شأنه في ذلك شأن «القاعدة». وزعمت الولايات المتحدة أن الحزب يعمل أيضاً على تدريب الميليشيات الشيعية في العراق من أجل محاربة القوات الأميركية هناك.
والجدير ذكره أن تصوير الولايات المتحدة لأعمال الاحتجاج التي تنظمها هذه الحركات الشعبية المنتخبة ديموقراطياً وتشويه صورتها بوصفها تهديداً أمنياً للولايات المتحدة ولبلدانها إنما يخفي وراءه رفضاً أميركياً للاعتراف بنتائج الانتخابات التي أتت بهذه الحركات إلى السلطة. غير أن الانقلاب على إرادة الشعب لا يشكل ممارسة يزعج بوش نفسه بإخفائها إذ يؤكد أن «الصواب ليس بالضرورة ما يحظى على الفور بتأييد الشعب». وبوجود مرشدين مماثلين في مجال الديموقراطية، لا عجب أن يتبجّح السنيورة في أنه «لم يرف له جفن» لدى رؤية أكبر تظاهرة نظمتها المعارضة في تاريخ لبنان.
من جهة أخرى، وفي غياب أي شرعية دستورية وشعبية، تلتفت كل من الحكومة التي عيّنها عباس وحكومة السنيورة إلى المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة باعتباره بديلاً من المشروعية الوطنية، ما يدفع بالتالي كلاً من حركة «حماس» وحزب الله إلى التحذير من أن «الشرعية لا تأتي من الخارج». وفي الواقع، يبدو أن هاتين الحكومتين تشكلان آخر شكل من أشكال الديموقراطية التي تعمل واشنطن على تنميتها: أي «الأنظمة الديموقراطية». وهي ديموقرطية، بقدر ما تكون الأنظمة السياسية التي تنتمي إليها ديموقراطية. غير أنها كـ«أنظمة»، تمثل شكلاً جديداً من الحكم يُواجه تحدّياً على المستوى الشعبي، ويشكل مثار جدل على المستوى الدستوري، ويستمد شرعيته من قوى خارجية. وباختصار، إن هذه الأنظمة هي أقرب إلى النموذج الذي يمكن أن تحوّله الولايات المتحدة إلى نظام ديكتاتوري.
لمّا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد تبنّت الأنظمة الديموقراطية في العالم العربي، فقد حرصت هذه الأخيرة على اعتناق المبادئ التي ترتكز عليها عقيدة الرئيس بوش وأخذت منها العبارات التي رفعتها شعاراً. وخير دليل على تأثر هذه الأنظمة بالنموذج السياسي الأميركي هو تبنيها لـ«الحرب على الإرهاب» التي شنّها الرئيس بوش وللخطاب السياسي المرافق لها. وقد نجحت الولايات المتحدة في نقل عدوى «الرهاب الإيراني» إلى الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس ورئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة اللذين يحمّلان إيران المسؤولية الأكبر في المشاكل الداخلية التي يتخبط فيها بلداهما ويلقيان اللوم على النظام الإيراني لاستئثار «حماس» بالسلطة في قطاع غزة ولإطلاق حزب الله حملته المعارضة في لبنان.
ومن وحي الخطاب السياسي لبوش بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، جعل عبّاس من حركة «حماس» امتداداً لتنظيم «القاعدة»، فنعت خصومه بـ«الإرهابيين القتلة» و«قوى الظلام»، وزعم أنّهم مرتبطون بـ«القاعدة». وعلى المنوال نفسه، استعار فريق الرابع عشر من آذار من قاموس بوش حملة «أحب الحياة» التي شنّتها هذه القوى في مواجهة «ثقافة الموت» المزعومة التي يمارسها حزب الله. وقد شنّت الحكومة اللبنانية أخيراً «حرب لبنان على الإرهاب» في مخيم نهر البارد في الشمال حيث يقاتل الجيش اللبناني حركة «فتح الإسلام» الجهادية السلفية. وقد اعتبر السنيورة هذا النزاع حملة «لضرب الإرهاب واجتثاثه» مستوحياً الكثير من خطابات بوش حول مكافحة الإرهاب.
«الدولة» مفهوم آخر لم يكن يُستخدم سابقاً، لكن استُعير من الخطاب السياسي الأميركي لكي تسبغه إدارة بوش على القوى السياسية التابعة لعباس والسنيورة باعتبارها تجسيداً لها. وفي حين أن أياً من هذه الفصائل لم تولِ أي اعتبار لدستور بلادها، تصرّ على وصف «حماس» وحزب الله بـ«الانقلابيين» والثائرين على «شرعية الدولة». أما السخرية فتكمن في أنّ هذه القوى نفسها التي اتُّهمَت مراراً وتكراراً بالفساد المالي والسياسي، وبالتعامل مع سلطات الاحتلال، وبتأسيس ميليشيات خارجة عن القانون، هي القوى نفسها التي تلقي المواعظ حول قدسية «مشروع الدولة» في فلسطين و«دولة المؤسسات» كما تعرف في لبنان. وبالطبع، لمّا كان بدهياً أنّ هذه الفئات لا تمثل الدولة بل تتحكم بأجهزتها فحسب، فإنّ الدولة التي تدأب هذه المجموعات على حمايتها لا تمثل الدولة بمفهومها المطلق بل دولتهم.
وفي هذا الإطار، يتمثل الهدف النهائي من «تعزيز» الدولة، في القضاء على حركات المقاومة بما يتوافق وتصريحات المسؤولين الأميركيين التي يواصلون تردادها وهي: «لا تتعدد السلطات في الأنظمة الديموقراطية»، و«السلاح في يدّ الدولة دون سواها»، و«تجريد الميليشيات من أسلحتها»، و«بسط سيادة الدولة على أراضيها». وفي تصريحات مشابهة إلى حد ما، حول موضوع «استئثار الدولة»، تعهّد محمود عباس الحفاظ على «وحدة السلاح الفلسطيني»، فيما يسعى فؤاد السنيورة إلى ضمان أن ما من «سلاح أو سلطة إلا سلاح الدولة اللبنانية وسلطتها». وما من مثال أوضح على اجترار شعارات إدارة بوش، إلاّ توعّد عبّاس أخيراً بإعلان «كل الميليشيات المنتشرة على الأراضي الفلسطينية غير شرعية»، فيما عبّر السنيورة عن التزامه «بسط سلطة الحكومة اللبنانية على الأراضي اللبنانية كافة وذلك عبر القوات المسلحة الشرعية».
ففي التحليل النهائي، يمكن الاستنتاج ان مشروع «بناء الدولة» حسب الرؤية الأميركية لا يتعدّى كونه خدعة تهدف إلى مواجهة حالة «الدولة داخل الدولة»، أي دولتي «حماس» وحزب الله، وذلك من أجل استبدالهما بدول أخرى تكون موالية لأميركا وأكثر طواعية. فقد اعتبرت إدارة بوش وحلفاؤها المحليون أن كلاً من «دويلتي» «حماس» وحزب الله تشكلان عقبة في وجه قيام الدولتين الفلسطينية واللبنانية، وهذه مقاربة تحمل في ذاتها نوعاً من افتراض مسبق بأن هناك دولة أكبر للتنافس معها. فالحقيقة الساطعة هي أنه في كلتا الحالتين لم تكن هناك دولة، مع العلم بأن المفهوم الليبرالي التقليدي للسياسة الغربية، الذي يعتبر أن الأولويات التي تقوم عليها الدولة هي توفير الحاجات الأساسية للمواطنين، بالإضافة إلى حماية حياتهم وممتلكاتهم، قد ثبت تاريخياً غياب كل ذلك في كل من الأراضي الفلسطينية ولبنان.
لقد أخذ حزب الله و«حماس» على عاتقهما مهمة تقديم الخدمات الاجتماعية من جهة، والدفاع عن الأرض من جهة ثانية، وذلك في ظل غياب أي دور للدولة المركزية. لذلك يصح اعتبار كل منهما «دولة» داخل «اللادولة»، وذلك على خلاف وصفهما «بدولة داخل الدولة». فـ«حماستان» (Hamastan) و«حزب الله ستان» (Hizbullahstan) هما إذاً نتيجة وليسا سبب ضعف الدولة أو غيابها في الحالتين. فإذا أخذنا بالاعتبار أن هناك خيطاً رفيعاً يفصل بين حالة «اللادولة» وحالة «الدولة الفاشلة»، فقد يتبين أن الاستراتيجية التي تعتمدها الولايات المتحدة الأميركية في كل من فلسطين ولبنان إنما هي استراتيجية مدمّرة، إذ إنها لا تهدّد بتحويل هاتين الدولتين اٍلى «دول فاشلة» فحسب، بل تهدّد أيضاً بجعل القوة العظمى الوحيدة في العالم اليوم إلى «قوة عاجزة» إلى حد كبير جداً في الشرق الأوسط.
* باحثة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط




الجزء الأول | الجزء الثاني