نسيـم ضاهـر *
هَـالَ متابعي السجال الذي رافق المعركة الانتخابية في المتن، ذلك السيْل العارِم من الكلام عن المسيحيين وتهميشهم وخياراتهم. وراعَ العقلاء ترداد مقولة التفيّؤ بمظلّة البطريركية المارونية والالتزام بسقف بكركي، عنواناً للحكمة السياسية والولاء للثوابت الوطنية.
دار التاريخ دورته ليعود قادة موارنة إلى المربّع الأوّل، حاشرين في مقطورتهم سائر الطوائف المسيحية، ومسقطين ما تخيّله السذّج، بعد طول تجارب ومآس، من تبدّل في جوهر خطابهم ولغتهم، واقتناع بالحاضنة الوطنية مرجع قياس والتماس. الحال أن ثمة ملامح تراجيدية تلف هذه المعاناة الوجودية السائرة قهقرةً باختلاف الزمان، من طبعة أصلية أرادت الأوائل عصب الوطن الصغير وعماد المؤسّسات، إلى حاضر مُستنسخ قوامه الضعف الديموغرافي وانتفاء مزية الإبداع والحضور الحداثي.
تدعونا هذه المقدمة الى طرح السؤال بوضوح وصراحة عمّا حقَّقه المسيحيون منذ ارتسام الكيان اللبناني، وما قدمته سياساتهم على مرّ السنين. فليس من خافٍ أن صدقيّة الرؤى والممارسة في الحقل العام قد اعتورَت وأصيبت باختلال عميق، على نقيض الإسهام المدني في الاجتماع، ما استولد انفصاماً في الشخصية وتمزّقاً دائماً يستشعر به شركاؤهم في المواطنة بدايةً، وبعضهم في حيرة حيال سبل التعامل مع هذه الظاهرة واستيعاب مفاعليها. البارز اليوم، أنّ كيفية الحفاظ على الوجود المسيحي ومكانته ومحله، باتت تسكن ضمير المسلمين ومرادهم وعنايتهم، فيما نفر من أبناء الكنائس المشرقية في شبه غيبوبة تاريخية وغربة من حقيقة واقع مرير أقعدهم فيه طيش الأسطورة والبطولة الزائفة، ذهب في جريرتِهِ الفرد والجماعة، واختزل الساحة المسيحية في أعمال وصراعات مغامرين سلخ عليهم الموارنة لقب القادة والمُلهمين، بعيداً عن حيوية المجتمع المدني والإخلاص للمفاهيـم الحقوقية وتعاليم التثاقف الحضاريفقد المسيحيون صدارة صنع السياسة منذ أن بعثر الاقتتال صفوفهم، وأجهزت الهجرة الكثيفة على رافعة نفوذهم. جاء الطائف محصلة حقبة، وتصحيحاً لمعادلة السلطة في ضوء المتغيرات، ينتزع صلاحيات دهرية من فريق متراجع، ويضفي على الجناح الآخر مسوّغات، غير أنه أقرَّ بتعويض الخاسر ومحاصرة المزيد من التنازلات، عبر إرساء المناصفة أساساً صيغة لا تنال منها التحوّلات وتسوية تجمّد وتنظّم اقتسام السلطة.
هكذا رسّخت المشاركة الطوائفية، واعتمد التوافق ممرّاً الى بلورة القرار على أن يحسم وفق قواعد الديموقراطية اذا تعذر ذلك، مع اشتراط إقرار حزمة من المسائل بأكثرية موصوفة على سبيل التثقيل الذي يؤمّن انبثاقها دون انفراد فريق واحد، أو بالأحرى تبعاً لاجتماع إرادة ممثلين عن الفريقين بالضرورة.
سدّدت الطوائف المسيحية جميعاً فواتير ما سمّي بالمارونية السياسية وقدّمت القرابين على مذبح التناحر المزمن بين القادة الموارنة، المحتكمين لفظاً الى صرح بكركي الذي أعطيَ له مجد لبنان. فالبطريركية حازت طوال قرون، عهدة الأمة المارونية، وائتُمنت على مقدّراتها ومصائرها، إلى أن لاحت بوادر الانتظام الدستوري منتصف القرن التاسع عشر، تكللت بالكيانية المطلقة مطالع القرن العشرين، ومن ثم بالسيادية مع الاستقلال الناجز والجلاء. تباعاً وطرداً، قَضَم الزمني برموزه وأبطاله ميراث الجماعة، دافعاً المراجع الروحية الى كرسي النصح والتوجيه والرعاية. فحيث فعلتْ عقاقير السياسة، انخفض عائد الموعظة، وضاع سرها في متاهات الخلافات والأحلاف.
تلك إشكالية خبرتها مجتمعات سبّاقة في انتقالها من كنف الكنيسة الى فضاء التنوير والقطع المعرفي المتبوع بالثورات والإصلاح الحداثي. لكن خشبة المسرح اللبناني كانت على قدر من الاختلاف لاجتماع أسباب المنبت المشرقي ذي ذاكرة القهر والعصبيّة، صاحبة النوازع القبلية والتنوع الكنسي المتنابذ، والحضور المسيحي في محيط إسلامي طاغٍ.
يعيب دعاة الشمولية وأرباب التشكيلات الحديدية على المسيحيين، انقسامهم وعدم رسوّهم على رأي موحَّد. الحقيقة أن هذا التنوّع السياسي وسام يعلق على صدورهم، ومثال يُحتذى به في حلبة السياسة ذات البعد الديموقراطي. إنما عيبهم الحقيقي راهناً يكمن في اضطراب ترجمتهم للتعددية، سواء في الاعتقاد أنها تحكم الصراع على الصعيد الوطني وتنصب ميزانه، أو في بناء التحالفات على قاعدة الاستنجاد بكتل طائفية أخرى بغية تحقيق الغلبة، ما يُفسِّـد اللعبة الديموقراطية ويتوهم توظيف الشركاء مجاناً في السباق نحو سدة الرئاسة. ولقد تمخَّضَ هذا الحَوَل السياسي، عبر انفجار ثورة الأرز، عن مفارقات عجيبة ونقائض غريبة، حمل لواءها طرف واعد فتيّ نشيط غادر صفوفها باكراً وسار بقيادة العماد عون على دروب الممانعة. فعلى خلفية رفض الحلف الرباعي المعقود ظرفياً إثر انسحاب الجيش السوري من لبنان، شهر التيار الوطني الحر سيف النصارى في الانتخابات العامة، وحقق نتائج مذهلة لم يتوقعها أخلص محازبيه، وفق قراءة لولبية للتحالفات وصياغة زئبقية تنكَّـرت للمحتوى المدني الذي طبع رسائل العماد من المنفى، ولميثاق التيار التأسيسي. وفي غضون سنة ونيّف، أعاد التيار الوصل مع مكوّنات الحاضنة السورية ومخلفاتها، متكئاً على حزب الله في تفاهم لا ينطبق عليه تعريف المُسمَّى، يتجاوز واقعاً التحالف بدرجات، ويضمر ما لا يقول صراحةً.
تتدافع الأمثلة الدّالة على عوارض الالتواء والخلل في ممارسة المسيحيين للمنهج الديموقراطي حالما تلوح بشائر الانعتاق من الوصاية. يحفل تاريخ لبنان الحديث بتفرّق شملهم وانقلاب فريق معتبر منهم على التعاهد، واندفاعه نحو السلطة، غير آبه بمخاطر الغلوّ في افتعال الأزمات. وعلى وجه العموم، يمكن ملاحظة انتفاء مقادير الاتزان والحكمة في حجم المراد وسبل بلوغه. كما يُلاحظ غالباً إسقاط الشواغل المسيحية المحضة على الشركاء وتعميم مقاربتهم واستعدادهم لها، واعتبارها في صدارة اهتماماتهم. هكذا شاغبت قرنة شهوان على الرئيس الراحل رفيق الحريري وأنزلته موقع الامتحان حتى عشية اغتياله، قبل أن تكتشف مبلغ الصعوبات التي واجهته وحتمت تروِّيه ومهادنته الظاهرة لنظام الوصاية. وعلى نحوٍ مماثل، أغفلَ الجانب المسيحي مطلب شريكه المسلم في الإصلاح عام 1975، وماهى بين المحقّ الداخلي والوجود الفلسطيني، فانقطعت الجسور واختلط الأمران معاً. وقريباً منا، قارب العماد عون الانفتاح على الآخر والشراكة من زاوية العداء لدارة قريطم وإلحاق مناوئيه اعتباطياً بها، وبالتالي فهو ينادي عملياً بشطبهم جميعاً من المعادلة.
توالت أخطاء الأقطاب المسيحيين، فيما شهد الواقع اللبناني، الديموغرافي والمناطقي، متغيرات كبرى عدّلت معالم الصورة التقليدية والتوازنات. لذا، تتسم المرحلة الحالية بمعطيات من إفرازات حقبة ما بعد التحرير عام 2000 والصراع الإقليمي الدائر ومحاوره. بات الكباش السياسي في دائرة بالغة الخطورة، نظراً للتفاوت العميق في المنظومة التي ترعاه واختلاف الرؤى المستقبلية والنموذج الاجتماعي ووسائل الحشد والتعبئة. وحيث يسجل قدر مشهود من التجانس في طروحات قوى 14 آذار ومربطها المرجعي وتناغمها مع مزاج المسيحيين العام ومخزونهم الوجداني، تكثر الأطراف المسيحية المنضوية تحت رايتها من التنويه بأسبقية رفع شعاراتها، مبالغة في ادّعاء الأمومة والقوامة، ما ينمّ عن نزعة دهرية في امتلاك الحقيقة، تكاد أن تحجب المقوِّمات التاريخية التي أنجبت «التحوّل» داخل الطائفة السنية وسمحت بتظهيره لأسباب عضوية ذاتية، كثيراً ما غاب تقويمها الموضوعي عن ذهن الساسة المسيحيين. على نقيض هذه الصحوة (غير المكتملة)، ينبري التيار الوطني الحر وحلفاؤه لدحض صدقية الرهان على مآل الحاضر ونتاجه وتفاعلاته، أي كون السياسة لقاء إرادات ومخاضاً وحاصل دروس وتجارب، ضمانها احترام الشخصية الاعتبارية ضمن وعاء وطني شامل لا يخلو من الخصوصيات، ويرتدّ الى ذاكرة ماضٍ يحفها الالتباس ونكء الجراح، وصولاً إلى جوامد نظرية وعملانية تخالف جوهر التسوية ومفهوم الأداء السياسي وغاياته.
إنّ ارجاع السياسة الى بستان عدن المفقود بعامل الاقتحام الدولتي، السنّي على مرّ العصور، مفاده الدعوة الى حلف الأقليات، وإحياء مفكرة الاضطهاد بمثابة البوصلة الثابتة والردّ على الظلامة التاريخية. ومن النافل أن هذا المحمول الايديولوجي يُبيـح الخروج على الدولة القادمة من منشأ موصوف بالغبن والإلغاء، ويفقدها المدلول المعاصر، بل إنه يجعل من مخاصمتها عملاً حداثياً وقطعاً مع موروث هيمنة، توطئة للنظام الجديد. على هذا النحو، يمتد السخط الوجداني ليشمل معاندة الأسرة الدولية والقوى العظمى التي تنتهك سيادة الضعفيف وتكبّل إرادته على غرار ما مارسته دولة الخلافة والسلطنة العثمانية في ما قبـل.
واستطراداً، ينبغي ليس تغيير القواعد فحسب، بل أيضاً إعادة بناء الدولة انطلاقاً من اجتماع «المضطهدين» وحاجاتهم بصهر قوى الروافض أصحاب المشروعية، وانفتاحهم على أقرانهم في المحيط، الذين أنجزوا هذه المهمة وأضحوا في مقام الحليف الموضوعي، كلّ على طريقته واستنسابه.
قد يجد هذا الطرح ـــــ وقد وجد فعلاً ـــــ آذاناً صاغية في الوسط المسيحي، فهو يُدغدغ المشاعر ويُحيي هواجس كامنة في عمق الذاكرة التاريخية. لكن طابعه الإقصائي يُعاكس مطلوبه التصحيحيّ ويُنذر بصراعات حافلة لا تنتهي فصولاً، ولا سيّما أنّ منظوره التبسيطي يقتصر على تكاثف المجاعات المتظلمة دون لحمتها، في السلب لا في الإيجاب، وقد يحلم بتوظيف رسالاتها المغايرة اجتماعياً وعقيدياً ورؤيوياً. بيد أن وثبة المستضعفين من كلّ حدب وصوب، على ما بيّنه سلوك حزب الطاشناق الأرمني في انتخابات المتن الفرعية، فضلاً عن مخيم الاعتصام المزمن في قلب العاصمة بيروت، تدلّ على أمرين بالغي الخطورة ـــــ رغم تبرؤ التيار الوطني الحرّ من التهمة ـــــ هما الازدراء بالنسيج الاجتماعي المحيط والفكاك عنه، والتماس التنظيم الشمولي الحديدي وسيلة لبلوغ
الأهداف.
قطع معظم المسيحيين شوطاً معتبراً في تجاوبهم مع الواقع الإقليمي والقناعة بفوائد عائداته، كيانياً ومعيشياً، ضمانة لمستقبل وطنهم الملاذ. وفي المحصلة، لا يرتقي المحقق الى مستوى طموحاتهم يوماً، سوى أن الأصل، اليوم وغداً، في بقائهم، لا في التطلع إلى أقصى الطموحات والأحلام. الأمل الدائم في إسهامهم وإبداعهم المجتمعي الحضاري بعيداً عن أسر السياسة ودائرتها، حيث الشراكة الممكنة شريطة الإيمان بالمساواة والمواطنة بديلاً عن تجاور الجماعات، وتحديد سرعة ووتيرة التحوّلات على قدر طاقة الشركاء واستعداداتهم. وإذا كان تموضعهم السياسي الصحيح من حسنات الوعي المكتسب، فإن تموضعهم الاجتماعي الثقافي يبقى القاعدة الصلبة لاستمرارهم شهوداً على المشرقية، محافظين على ذات الجماعة ورفعة الوطن.
إن الإنجاز التاريخي المنتظر لخدمة المسيحيين وسائر اللبنانيين، عنوانه الدولة المدنية الديموقراطية، ولسانه خطاب وطني شامل ينبذ المنطق الفئوي والنموذج الشمولي. هنا يتضح الدور النهضوي، أياً تكن المعوّقات ويستوفي المسيحيون حقهـم في قاطرة التحوّلات بلا عقد أو ضغينة. فالأساس أن لا يخجل المسيحيون من إعلان ريادتهم وانفتاحهم لقاء العزوف عن مجرد التفكير في تفوقهم أو تناسي واقع البيئات الأخرى والإشكاليات الملازمة للبِنـى الاجتماعية ومضار التنميط.
* كاتب سياسي