إسكندر منصور *
في ردّه على صاحب «الزنّار»، أراد أمين الجميّل أن تكون معركته حضاريّة بحسب التقاليد اللبنانيّة، أي خالية من كل التعابير البعيدة عن الحضارة والتحضّر وتعاليم جبران وشارل مالك، على حد قوله. طبعاً، لم أكن في صدد أخذ خطابه على محمل الجدّ لكوني قد بلغت الخمسين وما زلت أتذكّر جيداً فترة رئاسته والمآسي التي جلبها على لبنان واللبنانيين. ذاكرتي ما زالت تسعفني عند الحاجة. لكن بعد خطاب الرئيس الأسبق عن التقاليد اللبنانيّة وحضارة شارل مالك والبستاني... (لاحظوا معي أصحاب الحضارة كلهم مسيحيّون، حتى إنه نسي مفتي صور السيّد الأمين وزيارته المكوكيّة لأبطال «ثورة الأرز». فعندما يكون الموضوع جديّاً ويدخل في صلب الحضارة والتحضّر، لا يبقى مكان إلا للمسيحيّين أصحاب الحضارة الأصليين).
حزنت لأنّ الجيل الجديد، وخاصة اليساريين منهم، والذين لا يعرفون عن الشيخ أمين كثيراً، سوف يصدّقون ما قاله الياس عطا الله في الشيخ أمين بأنّه رجل «المواقف العقلانية والمواقف الصامدة السياسية، وأعتقد أنه ليس هناك مواطن لبناني حقيقي لا يقف الى جانبنا» (الذين يصوّتون لكميل خوري ليسوا في نظر عطا الله لبنانيّين حقيقيّين. لقد سبق عطا الله الجميّل في تقسيم المتنيّين إلى لبنانيّين حقيقيّين ولبنانيين غير حقيقيين). وتابع عطا الله: «أتينا اليوم للوقوف الى جانب الشيخ أمين الجميل في هذه المعركة التي هي استكمال لمسيرة الاستقلال، لمسيرة الشهداء من جبران إلى جورج إلى سمير قصير، وأخيراً رفيقنا بيار» (هنا أيضاً يطلق عطا الله العنان لخطاب مسيحي/ طائفي و«يساري» أيضاً، حيث رفيق الحريري ووليد عيدو لم يُذكرا في عداد شهداء مسيرة الاستقلال لكونهما ينتميان إلى الطائفة السنيّة، لئلا يؤثّر ذلك على حماسة الموارنة). «يا حبيبي» على تحالف 14 آذار وعلى الذين أقسموا اليمين «بأن يبقوا موحّدين مسلمين ومسيحيين» (رحم الله الشهيد جبران التويني صاحب القسم). وكانت الوحدة قد تجلّت طبعاً في انتخابات بيروت حيث الإقبال المسيحي على التصويت لمصلحة مرشّح تيّار المستقبل فاق «الرقم القياسي». وعلى المنوال نفسه، كان سمير جعجع قد أخرج كلاً من رفيق الحريري ووليد عيدو من قائمة الشهداء حين قال «إنهم (المتنيون) يقولون كما نقول جميعاً... لبّيك جبران، لبّيك جورج، لبّيك سمير، لبّيك بيار أمين الجميل».
طبعاً، خلال أسبوع الانتخابات، صمت وليد جنبلاط عن الكلام لئلّا يؤثّر كلامه على سير المعركة الانتخابيّة. هنا أعطي علامة جيّدة للذين أداروا المعركة الانتخابيّة للجميّل، وخاصة عندما طلبوا من جنبلاط والحريري وكلّ المسلمين في 14 آذار السكوت لئلا يتأثّر الناخب المسيحي.
كنت على ثقة بأنّ الشيخ أمين لن يخيّب أملي، وسوف يكشف عن ذاته وعن مقاربته للديموقراطيّة. فالظواهر تكشف عن ذاتها كما هي، حسب هوسرل مؤسس الفلسفة الظهوريّة (للمزيد عن الفلسفة الظهوريّة راجع كتاب «المقدمة» لشارل مالك). وها هو الشيخ أمين يكشف عن حضارته وحبّه لكلّ ما هو مسيحي، وخاصة المسيحي الأرمني اللبناني. في لحظة من اللحظات، أصبحت مسيحيّة ولبنانيّة فئة كبيرة من اللبنانيين موضع شك. سوف يحاسبون على فعلتهم لأن قسماً كبيراً منهم قرر أن يصوّت للدكتور كميل خوري الذي ينتمي إلى تيار سياسي بقيادة ميشال نصر الله «الشيعي»، لمقعدٍ مقرّر سلفاً حسب الدستور واتفاق الطائف للطائفة المارونيّة.
إذاً، نسف الأرمن الطائف واختاروا ليس فقط مرشحاً ينتمي إلى تيّار سياسي بقيادة «شيعي»، لكن يقال إنه من أصول إيرانيّة حسب آخر سيرة ذاتيّة كتبت عنه. لقد ارتكب الأرمن «الكبيرة» بالقفز فوق التقاليد اللبنانيّة التي تنصّ بالحرف الواحد على أنّ الأرمن الذين كانوا أوفياء لوالد الرئيس، الشيخ بيار الجميل والذي كان قد انتخب نائباً عن بيروت بأصوات أرمنيّة، كان عليهم حسب التقاليد اللبنانيّة أن يصوّتوا للابن.
لم يكن وحده الرئيس أمين الجميّل الذي صبّ جام غضبه وعنصريّته على قسم من اللبنانيّين من أصول أرمنيّة، بل ساعده في الخدمة لفيف من المناضلين الكتّاب والسياسيين. فكتب راجح الخوري: لولا «شفاعة» الصوت الأرمني، لكان الرئيس الجميل أضاف إلى انتزاعه ثلثي أصوات الموارنة من عون، الاحتفاظ بمقعد ولده الشهيد بيار». لماذا لم يقل الخوري: لو أن الجميل استطاع إقناع 418 مارونياً آخر، لنجح في الانتخابات. لماذا يضع اللوم على الصوت الأرمني الذي يتمتع حسب الدستور بحق التصويت والاختيار لمن يشاء؟
أمّا علي حمادة فكتب: ربح عون «بأصوات سوريّة، طاشناقيّة، شيعيّة». طبعاً، المسكوت عنه في نص حمادة هو القول إنّ عون نجح بأصوات غير لبنانيّة. فالسوري طبعاً غير لبناني ولا أعرف من يقصد هنا، أمّا الأصوات «الطاشناقيّة» فهي أرمنيّة غير لبنانيّة ومرتبطة بسياسة عالميّة بعيدة كل البعد عن مصالح لبنان، أما الأصوات الشيعيّة فهي غير لبنانيّة، ولم تبرهن عن لبنانيتها حتى الآن حسب مقولة وليد جنبلاط (عليهم أن يصبحوا لبنانيين).
أمّا نسيب لحود، الذي أكن له الاحترام، ففاجأني بإجابته عندما سئل عن موضوع الأرمن: «الموضوع الأرمني ليس جديداً، فمنذ عام 1996 طرحتُ على الإخوان الأرمن أن يكونوا خارج الصراع بين القوى السياسيّة في المتن، وطرحت أن يكون مرشّح الطاشناق على اللائحتين المتنافستين في المتن فلم يقبلوا بذلك، وأصرّوا على أن يكونوا فقط على اللائحة الأخرى». أوّلاً، بأيّ حق يطرح نسيب لحود على قسم من اللبنانيين أن يكونوا على الحياد، أي ألّا يكون لهم موقف في ما يجري في لبنان. كما لو أنّه يقول: دعوا اللبنانيين يقرّروا السياسة والمواقف السياسيّة وأنتم بصفتكم «غير لبنانيين»، كونوا على الحياد، أصدقاء مع الجميع وارتاحوا من عناء التصويت («ولو... طالما كامل عن يتعلّم ما في داعي للمدارس»). فبما أنّ الموارنة يصوتون، لا داعي للتصويت من جانب الأرمن. وإذا كان من ضرورة، فلا داعي إلى أن يصوّت الأرثوذكس. عادة في البلدان «الديموقراطيّة»، يطلب المرشّحون من الشعب القيام بواجب التصويت لأيّ كان، أما في لبنان، فمرشّحو رئاسة الجمهورية، نسيب لحود مثلاً، يطلبون من شريحة من اللبنانيين أن تستقيل من عمليّة التصويت ومن الانخراط في العمل السياسي. حقّاً إنها مساهمة نظريّة في التجدّد الديموقراطي من صاحب حركة «التجدد الديموقراطي».
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتّحدة الأميركية