strong>دينا حشمت *
لعل من المفارقات الطريفة أن يقع إعلان طرح 80% من أسهم بنك القاهرة للبيع في شهر الذكرى الخامسة والخمسين لاستيلاء الضباط الأحرار على السلطة في مصر، سنة 1952. فبنك القاهرة هو بالضبط من عمر «ثورة يوليو»، تأسس في العام نفسه، وارتبط في الوجدان الوطني بالاستقلال. فقد موّل، بالتعاون مع بنك مصر، شراء محصول القطن الذي كان من أهم ركائز الاقتصاد المصري في ذلك الحين، سنة 1956، عندما رفضت البنوك الأجنبية تمويله، من أجل الضغط على الحكومة المصرية، وإجبارها على التراجع عن قرار تأميم قناة السويس. وبقي بنك القاهرة طوال هذه المدة من أهم أربعة بنوك مصرية عائدة للقطاع العام، إلى جانب بنك الإسكندرية ـــــ الذي بيع أخيراً ـــــ وبنك مصر والبنك الأهلي، اللذين لم تعلن الحكومة نيتها في بيعهما بعد.
لقد تزامن هذا القرار مع توقيع مصر على إعلان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية حول الاستثمار الدولي والشركات المتعدية الجنسيات. ومصر أول دولة عربية وأفريقية توقع على هذا الإعلان (الذي يضم حتى الآن 40 دولة)، وهو بالنسبة إلى منظمة التعاون بمثابة اعتراف «بالإنجازات» التي حققتها حكومة أحمد نظيف في هذا المجال، منذ توليها الأمور في 2004، بمبادرة وتحت إشراف «الوزير الشاب» محمود محيي الدين، وهو لم يكن قد بلغ الأربعين عاماً حين تولى، سنة 2004، «وزارة الاستثمار» التي حلت محل «وزارة قطاع الأعمال». ومحيي الدين من رجال جمال مبارك المقربين، من «شلّة لجنة السياسات» إذا صح التعبير، ودرس مثله في إنكلترا، حيث حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد عن «سياسات اللبرلة المالية في الدول النامية»، ثم انطلق في تطبيق ما درسه كمستشار لوزير الاقتصاد يوسف بطرس غالي قبل أن يصبح وزيراً للاستثمار.
تشيد إذاً منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بالإنجازات التي حققتها حكومة نظيف ووزير استثمارها؛ وكيف لا تشيد، ومعدلات النمو وأرقام الاستثمار الأجنبي المباشر على ما هي عليه من زيادة وانتعاش؟ كيف لا تشيد تلك المنظمة التي تتكون من الثلاثين دولة الأكثر غنى في العالم، وهي من أذرع المؤسسات المالية الدولية في تنفيذ سياسات الليبرالية المتوحشة؟ كيف لا تشيد بحكومة حققت «المساواة» «بين المستثمرين المصريين والأجانب»، وسمحت للأجانب بالاستثمار في مجالات المال والاتصالات؟ كيف لا تشيد هذه المنظمة بحكومة كان من أول إنجازاتها في كانون الأول/ديسمبر 2004 التوقيع على «اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة»، «الكويز»؟ تلك الاتفاقية التي تنص على السماح بدخول الصادرات المصرية في مجال النسيج السوق الأميركية، معفاة من الجمارك إذا كان المكوّن الإسرائيلي فيها يمثل 11% من المنتج النهائي؟
وإذا كان من المتوقع من هذه المنظمة، وغيرها، أن تشيد بهذه «الإنجازات»، فمن الطبيعي أننا، نحن المواطنين المصريين، نمتنع عن التهليل للأرقام والإشادة بالخروج من حقبة «احتكار الدولة» في مجالات شتى، ما لم نرَ أيّ عواقب إيجابية لكل هذا على حياتنا اليومية. والحقيقة أنه يكفي إلقاء الضوء على بعض العوامل المصاحبة لهذه الإنجازات، لإدراك ما يشوبها من ضعف. ففي ما يخص معدلات النمو (7,1% سنة 2006ـــــ2007) والاستثمار الأجنبي المباشر (من نصف مليار دولار سنوياً في 2003/2004 إلى تسعة مليارات في الأشهر التسعة الأولى من سنة 2007)، فإنه لا شك أنها حققت فعلاً طفرة في السنوات الثلاث الماضية. لكن لا بد من مقارنة هذه الطفرة بتلك التي حققتها بلاد مجاورة، ومنها الأردن على سبيل المثال؛ هذا إذا تجنبنا الخوض في الأسئلة المرتبطة بنموذج «التنمية» التي يطرحها نوع الاستثمار الأجنبي المباشر الذي ازداد في السنوات الأخيرة وتركّز في قطاع الخدمات بشكل أساسي. أمّا في ما يخص «الكويز»، فإن رشيد محمد رشيد، وزير التجارة الخارجية والصناعة، ورجل الأعمال المقرب أيضاً من جمال مبارك، كان يقول آنذاك إنه سيؤثر بالإيجاب على صادرات مصر في مجال النسيج، من دون أن ينظر إلى فشل التجربة في الأردن، التي كانت قد سبقت مصر في إبرام نص مماثل. ولم تتحقق الطفرة التي كان ينبئ بها رشيد. والشيء الوحيد الذي تحقق بالفعل، هو الجانب السياسي من الاتفاقية الذي كان يهدف إلى تكريس تداخل الاقتصاد المصري والإسرائيلي والأمريكي.
وبغض النظر عن هذه النتائج الشديدة الالتباس، فالإعلان الذي وقّعت الحكومة المصرية عليه أخيراً يطالبها بالإسراع في سياسة «الإصلاح». والإصلاح بمفهوم منظمة التعاون، يعني فتح الباب أمام شركات متعدية للجنسيات للاستثمار في مجالات كانت لا تزال تحتكرها الدولة المصرية، ويعني إلغاء الضوابط في مجال الاستثمار الأجنبي المباشر، على غرار الضوابط في مجالات البناء والمواصلات والبريد، ويعني تأسيس فروع شركات أجنبية في مجالات التأمينات والمحاسبات؛ كما يطالب هذا الإعلان مصر بوضع حد لاحتكار الدولة في مجالي الاتصالات والكهرباء.
الحكومة إذن مطالبة بأن تلغي أي عائق يمنع الشركات العالمية من الاستفادة من السوق المصرية؛ وبعد هذه الإجراءات الأولية، ستأتي مهمة إلغاء الدعم على «العيش» (الخبز)، وبعض المنتجات الأساسية الأخرى، وهي الخطوة التي لم تجرؤ الحكومة حتى الآن على الإقدام عليها. لكن لا شك أن الجيل الجديد من النخبة «المتعلمة في الخارج» الملتفّة حول جمال مبارك في لجنة سياسات الحزب الوطني، سيعكف على إطاحة الدعم وكل المكاسب والضوابط التي وضعها النظام الناصري، والتي كان الاعتماد على بنوك وطنية جزءاً أساسياً منها. وهذا ما يفسّر الصدمة التي أعقبت إعلان بيع بنك القاهرة، وارتفاع أصوات عديدة منددة بهذه الخطوة، حتى من كتاب ومعلقين يدافعون بشكل عام عن سياسات الخصخصة. فالإحساس العام هو أننا لسنا بصدد خصخصة بعض المصانع، ولا حتى خصخصة القطاعات الحيوية من صحة وتعليم ومواصلات فقط، على ما يمثله ذلك من خطورة، بل بصدد ما أطلقت عليه حركة كفاية، للتنديد به، «بيع مصر». فقد أشيع في فترة من الفترات أن هناك مشروعاً لخصخصة إدارة قناة السويس، التي تشكّل حتى الآن أحد أهم مصدرين ماليين للدولة، وقد أسرعت هذه ونفت الشائعة. لكن لم يعد أي شيء يثير الدهشة من تلك النخبة التي أتت لإطاحة كل القديم: هذه المرة ليس لكسر شوكة العلاقات الإقطاعية، بل لفرضها من جديد على البلاد، بكل من تعنيه من إفقار للسواد الأعظم من الشعب المصري، ومن تبعية لسياسات المؤسسات المالية الدولية والولايات المتحدة الأمريكية.
* صحافية مصرية