محمد مصطفى علوش *
على رغم أنّ لبنان بلد متعدّد الطوائف، بخلاف الدول العربية ذات الأغلبية السنّية، لم يخلُ هو أيضاً من اعتماد الاستراتيجية الجديدة المطبّقة من قبل الأنظمة العربية الحاكمة في احتواء الإسلاميّين أصحاب النهج الوسطي المؤمن بالديموقراطية والتعدّدية وتبادل السلطة. يتمّ ذلك إمّا بإقصائهم قسراً عبر تلفيق ملفّات أمنية لهم كما هي الحال في مصر مع جماعة الإخوان المسلمين، أو بالتضييق عليهم بما يُسنّ من قوانين وتشريعات تحرمهم دون غيرهم التمثيل الحقيقي لشرائحهم الشعبية، كما هو حاصل الآن في الأردن مع جبهة العمل الإسلامي. أمّا في لبنان، فإنّ الأمر يختلف في التكتيك عن ممارسة الأنظمة العربية، وإن تماهى معها في الاستراتيجية بشكل يتناسب مع الخصوصية اللبنانية.
ولعلّ من الفوراق أنّه في الوقت الذي تعتمد فيه هذه الاستراتيجية أنظمةٌ وحكومات، يترجم في لبنان، وبحكم خصوصيته المذكورة، هذه الاستراتيجية تيّارٌ سياسيٌّ تحوّل بفعل متغيّرات داخلية وخارجية ليصبح المرجعية السياسية الشرعية للطائفة السنّية، بعدما أصبح التيّار الأكثر نفوذاً على الساحة الداخلية للطائفة التي كانت تتقاسمها الزعامات السنّية السياسية تاريخياً.
فمنذ وصول رفيق الحريري لرئاسة الوزراء، وهو يحاول أن يشكّل حالة استقطاب واسعة داخل الشرائح اللبنانية. وعلى رغم تعرّضه لسلسلة من الضغوط، سواء على يد منافسيه داخل الطائفة من الزعامات السنّية أو على يد الأجهزة السورية الموجودة في لبنان، استطاع الحريري أن يستحوذ على نسبة إعجاب عالية، تكرّست أكثر فأكثر بعد استشهاده.
لم تكن الزعامات السياسية السنّية التاريخية هي وحدها من تجد في مشروع رفيق الحريري الخطر على مصالحها، بل تعدّى الأمر ذلك إلى الحركات الإسلامية المنتشرة على الأرض اللبنانية من إخوانيّين وتحريريّين وسلفيّين، حيث إنّ قلقاً ما كان يراود الحركات الإسلامية التي ذاقت الأمرّين على يد الأجهزة السورية من أن يكون الحريري امتداداً لمشروع سوري أو أميركي. وقد استطاعت الأجهزة السورية تأليب هذه التيارات على الحريري، عبر إيحائها بأنّه وراء طرح مشروع الزواج المدني في لبنان، أو أنّه وراء الدفع لإعدام أفراد المجموعة التي اغتالت رئيس جمعية «الأحباش» الشيخ نزار الحلبي. واستمرّت الحال بين تيار المستقبل، وعلى رأسه الحريري الأب، والحركات الإسلامية، بين مدّ وجزر، حتّى وقع الاغتيال الذي قلب كل الموازين والتوازنات السياسية. فقد اعتبر هذا الاغتيال، على امتداد الساحة السنّية، استهدافاً للنفوذ السنّي في لبنان، ولا سيّما أنّ علاقات الحريري الدولية والعربية الواسعة استحوذت على إعجاب أهل السنّة من دون استثناء، بمن فيهم الكارهون لوجود الحريري أصلاً في لبنان.
هذا الفراغ الذي أحدثه اغتيال الحريري، والذي لحق به انسحاب القوات السورية من لبنان، أربك الساحة السنّية المكبوتة، فظهرت حالة انفلاش كبيرة في نشأة الحركات الإسلامية وتمدّدها. تأسّست حركات واندمجت حركات على حساب الحركات الباقية، وخصوصاً بعد وقوع حرب تموز التي زادت من الاستقطاب السياسي لهذا المحور أو ذاك. فولدت «جبهة العمل الإسلامي» و«اللقاء الإسلامي المستقل»، فضلاً عن التراخيص التي حازتها حركات وجمعيات وعلى رأسها «حزب التحرير» و«الجماعة الإسلامية».
بالمقابل، لم يكن سعد الدين الحريري ليدع هذا التعاطف الشعبي العارم الذي تكرّس باستشهاد والده يمرّ من دون أن يسخّره لخدمة المشروع الذي كان يحلم به الأب، وخصوصاً أنّ الوصي السوري رحل من لبنان، والمناطق التي كان يُحرم على الحريري دخولها، سواء في طرابلس أو عكار أو الضنية، أصبح من السهل له أن يتجول فيها.
وبناء عليه، عمل التيار على استقطاب الساحة السنّية على امتداد انتشارها الجغرافي في لبنان. وبما أن عموم الساحة السنّية، ولا سيما في الشمال، يغلب عليها التعاطف مع الحركات الإسلامية أو الانتماء إليها، كان لا بد من التقارب أو التحاور مع الحركات الإسلامية التي يمكن تصنيفها ضمن فئتين: الفئة الأولى تضم الجماعة الإسلامية (كبرى الحركات الإسلامية السنية وصاحبة برنامج سياسي وسطي غير مكتمل الملامح)، وحزب التحرير (امتداد لحزب عالمي، إلا أن وجوده في لبنان ضعيف قياساً بغيره، وهو حزب راديكالي يتعدّى القطر والوطن)، و«جبهة العمل الإسلامي» التي لا تختلف كثيراً عن الجماعة الإسلامية سوى في أمرين (دعمها العلني والمباشر لحزب الله ولخط المقاومة في فلسطين والعراق، وعدائها الظاهر لتيار المستقبل وخطه السياسي)، و«اللقاء الإسلامي المستقل» الذي وُئد قبل أن يولد، والذي لم يكتب له أي بصمة سياسية لكثرة مكوّنيه واختلافات مرجعياتهم وتوجهاتهم التي تصل حد التناقض. أمّا الفئة الثانية، فيمكن ان نضع تحت خانتها ما دون ذلك من تجمعات وجمعيات ووقفيات تتفاوت في الحجم والانتماء، جامعها المشترك أنه لا برنامج سياسياً لديها ولا تسعى لممارسة دور سياسي على غرار أصحاب الفئة الأولى، ومن بينها «جماعة الدعوة والتبليغ»، الجمعيات الخيرية الإسلامية و«التيارات السلفية» الباقية، إذا ما استثنينا سلفيّي «اللقاء الإسلامي المستقل».
بالنسبة إلى الفئة الثانية، فقد تمّ احتواؤها لناحية تقريب أصحابها ورموزها والجلوس معهم وتقديم الدعم السياسي لهم، كما هي الحال مع بعض الرموز السلفية التي تعلن تأييدها العلني لتيار المستقبل لاعتبارات عديدة، وقد ظهر ولاؤها المطلق للتيار في الانتخابات النيابية الأخيرة.
أما الفئة الأولى، فإن العلاقة بين تيار المستقبل ومكوناتها تختلف من تيار الى آخر. ففي الوقت الذي لم يستطع فيه التيار أن يستقطب «حزب التحرير» إلى جانبه في المعركة السياسية التي يخوضها على رغم الترخيص واللقاءات المتكررة بينهما، يرتفع مستوى العداء والتوتر بين التيار وجبهة العمل الإسلامي يوماً بعد يوم، في الوقت الذي يزداد فيه التقارب ويرتفع التنسيق بين الجبهة وحزب الله على أكثر من صعيد.
وبين هذا وذاك، تبقى الجماعة الإسلامية التي تتأرجح في خياراتها السياسية منذ استشهاد الحريري، إذ على رغم حرصها الشديد على التقارب مع تيار المستقبل في الوقت الذي تحافظ فيه على قربها من حزب الله، استطاع التيار تحجيمها، وهو الذي لم يكن راغباً في مشاركتها أي نفوذ سياسي بعدما وجد الفرصة المناسبة لاحتكار التمثيل السني سياسياً، بحيث بات قادراً على حصر المرجعية السياسية السنية فيه. هذا ما لوحظ في الانتخابات النيابية، سواء في لبنان عموماً أو في بيروت
أخيراً.
* باحث متخصّص في الشؤون الإسلامية