خلود بدوي *
عند تناول موضوع عنصرية الدولة العبرية تجاه مواطنيها العرب، تميل الصحافة العربية والعالمية إلى إبراز الملاحقات السياسية التي يتعرض لها الأعضاء العرب في الكنيست الإسرائيلي، في حين أن الأمر لا يقتصر طبعاً على هذا. فالملاحقة السياسية هي أحد أوجه السياسة العنصرية للدولة الإسرائيلية، فيما ملاحقة الأقلية العربية كمجموعة مستهدفة تأخذ معاني مصيرية لكونها تقوم على سياسة العقاب الجماعي، من خنقٍ سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، لخدمة هدف واحد معلن هو الترحيل. ولعل خير مثال على ذلك هو ما يتعرض له العرب البدو في النقب من مداهمات وهدم بيوت ومحو قرى كاملة عن الوجود وتدمير مجتمع فعلي يمتلك كل المقومات المجتمعية.
اشتدّت حملة السلطات الإسرائيلية ضد العرب البدو في النقب في السنوات الأخيرة، وهي حملة تجري من دون كلل أو ملل. يقطن منطقة النقب أكثر من 160,000 نسمة من العرب البدو وهم يشكّلون 25% من سكّان المنطقة. ويعيش ما يقارب نصفهم في 38 قرية لا تعترف الدولة بها، أي أن هذه القرى غير موجودة على الخريطة الرسمية ولا تنال أي نوع من الخدمات، بما فيها الأكثر أساسيّة كالماء والكهرباء والتعليم والصحة. أكثر من ذلك، فإنّ دولة إسرائيل تدّعي ملكيّتها للأراضي التي تقوم عليها تلك القرى. يبلغ مجمل مساحة منطقة النقب 12,918,000 دونم، يشغل منها البدو (في البلدات والقرى المعترف بها وغير المعترف بها على حدّ سواء) 240000 دونم أو ما يعادل 1.8% من الأراضي. ويشغل سكّان القرى غير المعترف بها 180000 دونم، أو ما يعادل 1.3%. ويقدّر مجمل مساحة الأراضي التي يُطالب بها البدو بـ5.4% من إجمالي مساحة أراضي النقب، إلى جانب دعاوى ملكيّة معلَّقة تخصّ 776000 دونم.
إن الهدف من السياسة الإسرائيلية واضح ومعروف، وهو الترحيل و«تنظيف» المنطقة من العرب، أو بمعنى آخر تطبيق شعار «أرض أكثر وعرب أقل». فبموجب مفهوم الدولة اليهودية الصهيونية، التي قامت على مبدأ شعب بلا أرض لأرض بلا شعب، ترفض دولة إسرائيل الاعتراف بوجود العرب البدو في النقب كأقلية أصلية يعود تاريخها إلى ما قبل قيام إسرائيل بكثير، وتتعامل معهم على أنهم سكان غير قانونيين على أراض لا يملكونها، الأمر الذي يبرر العمل على طردهم بشتى الوسائل، وعلى رأسها هدم البيوت. وهكذا تتزايد نسبة العائلات المهجرة بلا مأوى في ظل فقدان الحلول المطروحة من جانب السلطات التي أوجدت المشكلة. لقد هدم منذ عام 2001 حتى الآن 338 بيتاً، منها 110 بيوت هدمت منذ بداية العام الحالي وحده، وأكثر من خمسين بيتاً خلال شهر تموز الفائت. وقد صرح أخيراً وزير الداخلية الإسرائيلي، روني برؤون، بأن الحكومة تنوي هدم أكثر من 42,000 بيت في النقب، باعتبارها بيوتاً غير قانونية.
يرى السياسيون الإسرائيليون في وجود البدو في النقب خطراً ديموغرافياً حقيقياً وعائقاً أساسياً في طريق مخطّط التهويد المزمع في إسرائيل من خلال جنوب البلاد. وهذا ما أكّده أرييل شارون فور انتخابه رئيساً للحكومة عام 2000، في إحدى مقالاته تحت عنوان «الأرض كأداة اقتصاديّة لتطوير البنية التحتيّة وتقليص الفجوات الاجتماعية بشكل ملموس»، حيث كتب عن خطورة وجود كمية كبيرة من الأراضي بأيدي البدو، وكيف أن البدو ينتزعون مناطق جديدة، ويقتطعون من احتياطي أراضي «الدولة» ولا أحد يقوم بأمر جدّي بشأن ذلك.
يشكل النقب مركز الإنشاء والإعمار المركزي لجذب أكبر عدد ممكن من المهاجرين الجدد من شتى أنحاء العالم إلى إسرائيل مستقبلاً، وذلك بعدما أتمّت الحكومات الإسرائيلية حملات نهب الأراضي ومصادرة ما بقي للعرب في الجليل شمال البلاد. ويتمحور معظم التركيز الحكومي في السنوات الأخيرة على تطوير النقب اقتصادياً واجتماعياً على حساب البدو الذين استُثنوا من أي رؤية تطوّر مستقبلية للمنطقة. إنّ الخطط السلطوية المدمِّرة أثبتت في تعاملها مع البدو قدرتها على الإبداع في إيجاد وسائل ترحيل مختلفة. فالأمر لا يقتصر على هدم البيوت في القرى غير المعترف بها، بل شملت الوسائل تدمير مصادر الرزق الأساسية للمجتمع البدوي، من مصادرة المواشي واقتلاع الأشجار ورشّ الحقول الزراعيّة بالمبيدات بهدف إتلاف المحاصيل الموسمية إلى آخر لائحة طويلة مشابهة.
وعلى رغم النضال القانوني الذي تقوم به جمعيات حقوق الإنسان بموازاة النضال الجماهيري للمجتمع العربي البدوي، وإحراز بعض الإنجازات من خلال ذلك، إلا أن الحل غير مرهون بذلك فقط، ما دام تعامل إسرائيل مع الأقلية العربية بشكل عام، وفي حالة البدو بشكل خاص، يقوم على أساس أن الكيان العربي في الدولة اليهودية مشكلة موجودة، ويجب التخلص منها من خلال اقتلاعها، وما دام التعامل مع العربي على أنّه قنبلة ديموغرافية موقوتة. لذلك نجد أن السياسة المنتهجة اليوم هي نفسها السياسة التي اتُّبعت في الماضي في شمال البلاد، في الجليل، وأعطت «يوم الأرض» حين قُتل متظاهرون مسالمون في أم الفحم لاعتراضهم على مصادرة أراضيهم. وهي السياسة عينها التي تمارس اليوم وستمارس مستقبلاً في كل مكان وجدت فيه قطعة أرض ملكيتها تعود لمواطن عربي.
* ناشطة وصحافية فلسطينية