إسماعيل إبراهيم *
أثبتت الموالاة، حكومة وقوى ومرجعيات، عجزها عن إيجاد حل للأزمة العاصفة في لبنان، منذ عام تقريباً. وعلى رغم نزول أكثر من نصف سكان لبنان الراشدين الى الشارع للمطالبة بتأليف حكومة وحدة وطنية، فإن هذه الحكومة تتصرف كأنها لا ترى ولا تسمع، وتلقى دعم أميركا وعربها وأوروبا وإسرائيل.
ويؤخذ على الموالاة مواقفها العدائية من سوريا وإيران منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وارتهانها الشديد للوصايات الجديدة (أميركا وفرنسا)، وقد كان بعض أركانها خدماً للوصاية السورية. وقد راهنت الموالاة على المشروع الأميركي القائم على منطق السيطرة الكاملة أو الفوضى الخلاقة، حتى بات المتتبّع لخطابها يظن أنها أداة المشروع الأميركي أو هي هذا المشروع نفسه في لبنان. أليس من الغرابة والارتهان وقلة الحرص على المصلحة الوطنية العليا أن تبرّئ الموالاة الاستخبارات المركزية الأميركية والموساد الاسرائيلي من أي عمل إجرامي في لبنان وتتهم سوريا صبحاً ومساءً في كبير الأمور وصغيرها؟ لا نعني أن نبرّئ سوريا بمنطق مغاير معاكس. فالجميع أصابعهم في لبنان. غير أن الاحتماء من خطر سوريا بأميركا كالمستجير من الرمضاء بالنار! المهمّ ألا يضيّع اللبنانيون البوصلة في البحث عن مصلحة لبنان العليا، أهي مع أميركا أكثر أم مع سوريا؟ ثم لماذا يجري تهجّم الموالاة على إيران التي تنتصر اليوم لقضايا العرب الأساسية في صراعهم مع اسرائيل وتناقضات أصحاب هذه القضايا الحقيقيين مع سياسات الولايات المتحدة في المنطقة. فلو كانت إيران اليوم في المحور الأميركي لاصطفّ أقطاب الموالاة خلفها وأوسعوا لها، كما كانت تفعل الأنظمة العربية «المعتدلة» في اصطفافها خلف شاه إيران، بإيعاز أميركي، وتلاقي المصالح لمواجهة المدّ الناصري القومي العربي وخطر الشيوعية!
إن الموالاة بمدى ارتباطها بالمحور الأميركي غير المنفصل سياسياً عن مصالح اسرائيل، ستجد نفسها في موقع العاجز عن رفض التوطين ووصفات البنك الدولي الإصلاحية (والإصلاح هنا هو ما يناسب الشركات ذات الرساميل المتوحشة، لا ما يناسب الشعب اللبناني). فليس لحكومة الموالاة برنامج اقتصادي اجتماعي عدا ما تقرّر للبنان في باريس ــــ3 وعموده الفقري خصخصة المرافق اللبنانية ذات الربحية العالية (التفاهم اللبناني ـــــ الأميركي حول خصخصة الخلوي أول الغيث)، وبيع القطاع العام للشركات الوافدة من الخارج أو ملحقاتها في الداخل وتحويل الدولة مما يجب أن تكون عليه: دولة الرعاية، الى دولة الشركة حيث تلقى تحية الوداع على السيادة والاستقلال، إذ من يملك الاقتصاد يقرر السياسة، فهل للموالاة من خطة واضحة تشرح للمواطنين كيفية التعاطي مع خدمة الدين وأصل الدين؟
ولا يخفى على بصير سعي الموالاة لعزل لبنان، عبثاً، عن أزمات المنطقة والمحيط، والعودة به الى منطق قوة لبنان بضعفه والاعتماد على معاهدة 1949 مع اسرائيل. وفي سياق المنطق نفسه، سعت الموالاة الى تغيير عقيدة الجيش الوطني اللبناني لينسجم مع توجهاتها الخارجية، متناسية أن اسرائيل ارتكبت مجزرة قانا داخل خيمة الأمم المتحدة. إذاً الضمانات الأساسية يجب أن تكون لبنانية أولاً وأخيراً. وانطلاقاً من ذلك يسجّل على الموالاة تنكّرها لدور المقاومة كواحدة من الضمانات اللبنانية. فلولا المقاومة والتحرير سنة 2000 لما كان هناك إمكانية لخروج السوريين من لبنان، ولماذا تستمر الموالاة في تنكرها لانتصار المقاومة على اسرائيل في حدود الموضوعية وتذرف الدموع على الجسور قبل الشهداء؟ ولا تخفي خوفها من هذه المقاومة لعلاقة قائمة مع التوجهات الأميركية ولمحاذير داخلية طائفية ومذهبية ولرؤية الموالاة المختلفة على مستوى بناء الدولة واتساع التأييد الشعبي اللبناني والعربي للمقاومة، فلماذا بالتالي كل هذا الجهد للنيل من سمعتها في الداخل والخارج ومحاولات جرّها الى معارك لا تريدها في الزواريب والأزقة، ألإفقادها قوة المثال التي تجلت في مواجهة الجيش الاسرائيلي في حرب تموز الأميركية ـــــ الاسرائيلية؟

المعارضة

إن أول ما يسترعي الانتباه في نقد المعارضة غياب برنامجها المتكامل شأنها في ذلك شأن الموالاة. وقد كشف الحوار والخطاب والمواقف والخيارات السياسية حقيقة تعارض نهج المعارضة مع الموالاة التي تأخذ على المعارضة، بحق، أنها لم ترفع صوت الرفض والنقد والاحتجاج على ممارسات وأخطاء سوريّة تسيء الى لبنان ولا تخدم العلاقات بين البلدين ولا تصلّب الجبهة الداخلية في مجرى النضال ضد اسرائيل: نشر السلاح خارج المخيمات، تحفظ تاريخي على اعتبار لبنان بلداً مستقلاً، وعدم الكشف عن أية جريمة اغتيال منذ قرابة ثلاثين سنة...
وما يلاحظ على صعيد الداخل اللبناني هو أن المعارضة كانت أكثر حرصاً على حماية السلم الأهلي بتفويت الفرص على دعوات مسعورة كان رائدها إحداث فتنة مذهبية سنية ـــــ شيعية. وقد سخّرت في هذا السبيل وسائل إعلام مرئية ومسموعة ومقروءة الى جانب مرجعيات وقيادات. ولا يخفى دور المعارضة الإيجابي في الجانب الإداري والاقتصادي والاجتماعي، فقد تمكنت من كبح جموح سلطة الموالاة نحو تنفيذ سريع لوصفات البنك الدولي والتعاقد الوظيفي والخصخصة وقد كان دور الحزب الشيوعي اللبناني في هذا المجال مميزاً...
ويسجّل، في السياق عينه، للمعارضة دورها الاستراتيجي في تصدّيها المتعدّد الأشكال للمشروع الأميركي والأطماع الاسرائيلية والتمسك بثوابت لبنان مع محيطه العربي، وذلك بالمقاومة وإرباك الحكومة المدعومة أميركياً وبالانتصار الذي حققته على اسرائيل.
إنّ على المعارضة بخطها الاعتراضي على المشروع الأميركي في تجلّياته اللبنانية أن تكون واضحة في تميزها عن محور إيران ــــــ سوريا، ولا بأس من لقاء موضوعي مع هذا المحور والاستفادة منه في التناقض الرئيسي مع المشروع المذكور. وعلى القوى العلمانية منها، ولا سيما الحزب الشيوعي والتيار الوطني الحر والقوميون الاجتماعيون ومنبر الوحدة الوطنية والتنظيم الشعبي الناصري وحركة الشعب وآخرون، أن تسعى الى تمييز موقفها عن مجرد المشاركة الفاعلة في الحكومة الى تجاوز ذلك في رؤية مستقبلية موحدة واضحة المعالم يعي فيها الناس بأكثريتهم مصلحة لبنان بقيام نظام ديموقراطي لا طائفي. فالمشاركة أو المحاصصة هي من الترجمات الطائفية وليست نهاية الإصلاح أو قمة التغيير. فالنظام الطائفي الذي «خدم عسكريته» وأدى دوره، تحوّل الى عائق في تطور لبنان نحو الأفضل، وبات تجاوزه أمراً ملحّاً. فما شهدنا من حروب وما نحن فيه يشهدان على مسؤولية النظام الطائفي ويقدمان الدليل على كونه لم يعد صالحاً. فلمَ الإصرار على التمسّك بنظام مهترئ مهجّر للكفاءات والأدمغة ومنتج للحروب والأزمات وللفساد والدويلات الطائفية ومعوّق للوحدة الوطنية الشعبية ولقيام الدولة القوية الديموقراطية العادلة؟
المعارضة الفاعلة، كما الموالاة، لا برنامج اقتصادياً اجتماعياً لها، بل هي مكتفية بمطلب المشاركة في الحكومة مع الثلث الضامن، وهذا غير كاف. فمن حق اللبنانيين على قادتهم من هنا وهناك أن يعرفوا ماذا أعدّت لهم الموالاة أو المعارضة من خطة اقتصادية ينمو فيها الاقتصاد ويفتح الآفاق على الأمل في الخلاص من المديونية الهائلة الحجم، القادرة على ابتلاع أي نمو. ومن حق اللبنانيين أن يعرفوا ويأملوا تحسين أوضاعهم المعيشية وتطوير الخدمات الاجتماعية وتعزيز الضمانات وتوفير مقومات الأمن الاجتماعي والعلم والتربية والبحث والثقافة... فقد شبع اللبنانيون زعيقاً وشتائم ووعيداً وقلقاً وتهديداً وما من حل واضح يلوح في الأفق فأين المفر؟

خلاصات

إن لبنان على مفترق خطير بعيد عن الحلول الجذرية والسلام. غير أن التسوية ممكنة. لكن لا حظّ بالنجاح لمبادرات عربية أو أجنبية ما لم تلق رضى الولايات المتحدة كعرّاب للتدويل أو التعريب. فلبنان، بجغرافيته السياسية، واقع على خط التماس في صراع المحاور الدولية والإقليمية كما يقول الرئيس سليم الحص في توصيفه الرائع البليغ للوضع اللبناني الشديد التأزم، والحل محكوم بتناقض مصالح القوى المتصارعة في لبنان وعليه، والأهداف تتعدى لبنان وقدرته على التحمل، ما يصعّب الحل الى أن يتّفق الأوصياء أولو الأمر والنعمة. فهل دخل لبنان مرحلة كونه قاصراً وتحول الى ساحة مكشوفة تصفّى فيها حسابات الأبعدين والأقربين أو ورقة تفاوض؟ كثيرون هم المهتمون بشأن لبنان كأن فيه مركز الكون أو مصطرع الأمم، يهمهم أمره منفردين أو مجتمعين، أحلافاً ومحاور. ولكل منهم رايته وغايته. وبين الانفراج والانفجار مسافة قصيرة. وهدف الانفجار كان منذ القرار 1559 مروراً بحرب تموز: نزع سلاح المقاومة وإقامة صلح منفرد مع اسرائيل وفرض التوطين.
وفي خلاصة ما تقدم، مبدئياً أكثر منه إجرائياً، نلحظ أهمية أن يعي اللبنانيون مصالح لبنان الفعلية، الراهنة والمستقبلية، في ضوء ما بلغه تجاذب الوضع اللبناني إقليمياً ودولياً مستنيرين بما نرى فيه خير لبنان واللبنانيين:
أ ــــــ إن السلام في لبنان والمنطقة بعيد جداً، غير أنّ التسويات الظرفية ممكنة الحصول. فالقضية الفلسطينية تزداد تعقيداً يضاف إليها الاحتلالان الإسرائيلي والأميركي، وقوة المقاومة اللبنانية سلاحاً وفعلاً ومثالاً لا تزال هي الهدف الأكبر أمام الولايات المتحدة وإسرائيل والملتحقين بهما من أوروبيين وعرب وأدوات لبنانية. لذا الدعوات المتلاحقة لعزل لبنان عن المنطقة وأزماتها تبدو مستحيلة، وتسرّع الصعود في قطار السياسة الأميركية وتؤسّس لبناء لبنان المحميات والحانات ومواطئ الأقدام الأجنبية...
ب ـــــ إذا كان لبنان لا يحكم من سوريا ولا يحكم ضد سوريا، وهو كذلك، فإلامَ تستمرّ الموالاة في التحريض ضد سوريا داعية وعاملة على إسقاط النظام فيها؟ أليس هذا شأن الشعب السوري متى يشاء ذلك؟ لقد ثبت، أحببنا سوريا أو كرهناها، أنه لن تقوم للبنان قيامة في أجواء الاستعداء والتوتر مع سوريا، وأن على اللبنانيين، بعد إقرار المحكمة الدولية تحت الفصل السابع، أن يروا مصلحتهم في خلق مناخات التهدئة، فهل لنا من ذكي بارع يقنعنا بكيفية بناء لبنان المعزول عن المنطقة والمعادي لسوريا؟
ج ـــــ إنّ على أقطاب الأكثريّة أن يدركوا، ومن أجل لبنان، أنهم ليسوا أصدقاء الإدارة الأميركية، إلا بمقدار ما هم أدوات مشروعها وأن على المعارضة أن تغادر صمتها على ممارسات سوريا التي لا تخدم حسن العلاقات بين البلدين الشقيقين، وتنطلق من خلفيات إيديولوجية ترى في لبنان ورقة تفاوض أكثر من كونه بلداً مستقلاً، وتسهم في زعزعة استقرار لبنان كيداً وانتقاماً. وربّ معترض يقول إن رفع صوت الاحتجاج على هذه الممارسات والأخطاء يحرم المعارضة (8 آذار)، وفي صلبها المقاومة، الدعم في النضال ضد اسرائيل. نقول إن سوريا التي لا تزال تحجم عن تحرير الجولان بمقاومة وطنية سورية، مضطرة الى دعم الوطنيين اللبنانيين لمواجهة اسرائيل والمشروع الأميركي، وإلا تحولت سوريا الى دولة «معتدلة» تدخل في مدار انعدام الوزن!
د ـــــ إن على اللبنانيين واجب الإسراع في حوار وطني يحافظ فيه على الوحدة الوطنية والجيش والمقاومة بإيجاد الصيغ التي يتحمّلها لبنان، وتمكّننا من استعادة أسرانا ومزارع شبعا والدفاع عن مياهنا. إن المجيء برئيس توافقي هو في مصلحة لبنان العليا بينما الإصرار على أن يكون هذا الرئيس من الأكثرية وفي توجهها السياسي الراهن، يدخل البلاد في تناقضات جادة قد تنفجر حروباً داخلية.
هـ ـــــ إن اتساع علاقات اللبنانيين الخارجية يجب توظيفها في خدمة لبنان واستقلاله، لا أن يستسلم اللبنانيون للتجاذبات الخارجية كقدر واقع مقبول ويتحوّلوا الى أدوات للخارج المتعدد والمتناقض المتفجّر، فيغرق لبنان في سياسات المحاور والأحلاف والوصايات. وفي ذلك مغامرة ومقامرة بلبنان صيغة وكياناً ومصيراً ولا حاجة يومئذ إلى القول من ربح ومن خسر، إذا خسر اللبنانيون بعضهم بعضاً وضاع لبنان.
و ـــــ إن عجز النظام اللبناني الطائفي عن مواكبة التطور، وعن بناء الوحدة الوطنية الشعبية، يحتّم على اللبنانيين البحث للخروج التدريجي من هذا النظام، فالثوب الشيحوي الذي فصّل لصيغة 1943 لم يعد صالحاً لحاضرنا ومستقبلنا بفعل تغيّر المعطيات المتحركة. فتجاوزه بالحكم الوطني الديموقراطي اللاطائفي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بات حاجة ماسّة وأمراً حيوياً ونقلة نوعية في مواكبة العصر، بدءاً بالطائف وتعديله وتطويره.
* كاتب لبناني