أُبيّ حسن
اقتصر الحديث في هذا الحوار المقتضب مع المفكر السوري
د. الطيب تيزيني على إشكالية الداخل والخارج، وخاصة بعد الضغوط الجدية التي تتعرض لها بعض الأنظمة العربية (وأعني هنا النظام السوري تحديداً)، ووجود أصوات هنا وهناك ــ سورية وغير سورية ــ باتت تبارك التدخل الخارجي في الشأن الداخلي السوري (علناً، وهذا لم يكن يحصل قبل سنوات قليلة!) من دون أي اعتبار أو اتعاظ من الدرس العراقي الذي يكاد يغرق شعبه (أو من بقي منه) بدمائه. وهذا لا يعني أننا نبارك سياسة النظام السوري في كل ما يقدم عليه، الذي بدوره، كما يبدو لم يأخذ العبر كما كان مرتجى منه، مما جرى (ويجري) في العراق


  • يعاني المثقّف العربي راهناً من جدلية العلاقة بين الداخل والخارج. كيف تقرأ هذه الجدليّة؟

  • ــــ ما كان لمسألة العلاقة بين الداخل والخارج أن تعبِّر عن نفسها إلا بكيفيات حادة غالباً، بواسطة الحروب. ولما لم يكن «الوطن» و«مفهوم الوطن» قد تبلورا بعد، فقد كان من الأمور الاعتيادية أن تتم عملية الاختراق بين الداخل والخارج، دونما إدانة «باسم الوطن» وباسم السيادة. ومن شأن هذا أنّه قاد إلى النظر لعملية الاستقواء بالخارج على أنه حالة ثأرية تمس الحاكم لا «الوطن». ومع ظهور هذا الأخير بوصفه مفهوماً سياسياً واستراتيجياً وثقافياً في بعض مراحل التاريخ العربي الأموي والعباسي وذلك بالتوافق مع نشأة بواكير أولية لدولة وطنية، بدأت علاقة الداخل بالخارج تكتسب بعداً وطنياً مكرّساً بوثائق قانونية ودستورية يمثل اختراقها جرماً قانونياً وإدانة أخلاقية.
    ومع التحوّلات التاريخية الكبرى في أوروبا الغربية الحديثة وتوطيد مفاهيم الدولة الوطنية والمجتمع المدني والعقد الاجتماعي، بدأت الأمور تكتسب طابعاً جديداً ومجمعاً على صدقيته وضرورة الإقرار به واحترامه. أمّا ما يتّصل بالفكر السياسي العربي، فقد بدأت فكرة الوطن وحدود سيادته تأخذ مداها مع تبلور الفكر العربي النهضوي الحديث وبعد ذلك في مراحل الاستقلال التي تبلورت بعد التخلص من القوى الأجنبية. ومن اللافت أن مفهوم «الطابور الخامس» الذي نشأ غربياً، بدأ يظهر في الفكر السياسي العربي في المراحل الاستقلالية الأولى المذكورة. لكن النقلة الكبرى على هذا الصعيد حدثت لاحقاً مع ظهور النظام العالمي الجديد الذي راح يطرح استحقاق فتح العالم، وإنهاء مقولة حدود السيادة الوطنية.
    ومنذ الغزو الأميركي للعراق، راحت تبرز في الفكر العربي مسألة محدّدة وتكتسب شيئاً فشيئاً حيّزاً متنامياً في حوارات المثقّفين والباحثين والمفكّرين والسياسيين؛ وما زال الأمر كذلك؛ بل لعلها أصبحت في مقدّمة المعضلات الفكرية المطروحة في سياق الحوار حول الغزو المذكور والحيثيات التي رافقته، والتداعيات التي أنتجها في العالم العربي كما في المعمورة عامة؛ نعني بذلك مسألة العلاقة بين الداخل (هنا: العربي) والخارج الإقليمي والدولي. ومع أن التخوم بين هذين الحقلين لا يمكن أن تكون قاطعة بإطلاق، وخصوصاً مع تعاظم التأثيرات التي أخذت تمارسها ثورة المعلومات والاتصالات على العالم برمته، وباتجاه اختراق الحدود القائمة بين الدول والمجموعات البشرية بكيفية محددة وبخطط استراتيجية مقصودة. وقد يتسارع الأمر ويتشامل إلى درجة قد تفضي إلى القول بتساقط الحدود والتخوم، ومن ثم إلى انكشاف العالم عارياً.

  • هل تعتقد أنّ تساقط التخوم والحدود الآنفة الذكر قابل للتحقق على المدى المنظور؟

  • ـــــــ ربّما ليس قابلاً للتحقّق من باب أنّ مفهوم «الخصوصيّة النسبيّة» غير قابل للتلاشي. إلا أنّ اتّجاه «تنميط» العالم المقترن بتعاظم حضور النظام العالمي الجديد (العولمة) يراهن على إمكان هيمنة تحت وقع الحروب والاقتصاد والتجارة والإعلام. بيد أن ذلك الرهان ذو طابع نظري، يفتقر إلى إمكان التحقق على أرض الواقع، ما دام العالم لا يحتمل أحادية قطبية متفرّدة. وما يدور في هذا العالم يقدّم، في جزء أساسي منه، أدلة كبرى عليه.
  • ثمة مجموعة من المثقّفين والسياسيّين العرب ترى أن استقواء الدواخل العربية بالخارج الإقليمي والدولي أصبح ذا صدقية، بمعنى تحوّله من رذيلة إلى فضيلة في ظل راهن عربي لا يتغيّر. برأي الدكتور تيزيني، ما السبب في ذلك؟

  • ـــــ مسوّغات مثل تلك الرؤية تقوم على هيمنة نظام أمني استبدادي في جلّ العالم العربي «يبدو» أن اختراقه من الداخل أصبح شبه مستحيل. وقد أخذت هذه الأفكار تظهر فعلاً في بعض أوساط المثقفين والسياسيين العرب في مصر والأردن وسوريا وغيرها، ممّن فقدوا الآمال في إمكان قيام مشروع إصلاحي وطني ديموقراطي في بلدانهم وبمبادرة من القابضين على السلطة الكلية فيها.

  • هل هذا الخارج أو ذاك فيه تهديد لنا إلى تلك الدرجة التي يصوّرها البعض؟ وماذا عن وجود أنظمة استعصت على الإصلاح؟

  • ـــــ من بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ثمّة حالتان تتبدّيان أمامنا. الأولى منهما تتمثّل في أنّ الخارج الاستعماري يتعاظم عمقاً وسطحاً، ويهدّد الدواخل العربية على نحو جاد حقاً. لكن الحالة الثانية تفصح عن نفسها في امتناع النظم العربية ـــــ بمعظمها ـــــ عن البدء فعلاً بمشروع إصلاحي أصبح ضرورة وجودية تاريخية، بعد أن كان خياراً سياسياً تاريخياً، وذلك ـــــ وهنا المفارقة الغريبة المدوّية ـــــ بالاستقواء بالخارج على الشعوب العربية. ولعل هذا الاستقواء يظهر بصيغة اعتقاد النظم العربية المعنية أنها قادرة على اللعب على الخارج الأمريكي والأوروبي، مع تصميم شديد على رفض ملفات إصلاحية راهنة حاسمة، كالملفّ السياسي على سبيل المثال لا الحصر.
    ضمن هذه الوضعية المعقدة، تجد القوى السياسية الوطنية العربية نفسها أمام لعبة القط والفأر: في الداخل تسود قوانين طوارئ وأحكام عرفية تقف سداً «قانونياً» منيعاً في وجه حراك سياسي يقوم به ناشطو الحرية وحقوق الإنسان وسواهم. أما في الخارج، فإنّ القوى الغربية المتعاملة مع أمثال أولئك الناشطين تسعى حثيثاً لوضعهم تحت قبضتها، ولتدخلهم في حدود «أجندتها». وهذا حدث في العراق خصوصاً، على نحو لافت ومفعم بالإذلال. في مثل هذه الحال تكمن أهمية اكتشاف الآخر في الغرب نفسه.

  • من تعني بهذا الآخر هنا؟

  • ـــــ الآخر الذي يتجلّى في القوى الحيّة الديموقراطية هناك. لأن الغرب ليس ذا نسق واحد وحيد، بل هو، بفعل التناقضات والصراعات القائمة بين الكتل المجتمعية هناك أكثر من نسق، سواء تجلّى ذلك ثقافياً أو سياسياً. ومن شأن ذلك التشكيك في أنّ الغرب يمثّل ـــــ في بنيته العقلية ـــــ نسقاً واحداً مضادّاً للشرق.