فنسان الغريّب *
يتساءل الكثير من المراقبين والمتابعين للشأن العراقي اليوم، عن السبب الكامن وراء إصرار الرئيس بوش الابن على إبقاء قواته في العراق، على رغم تكبّدها يومياً خسائر كبيرة في الأرواح، وفي ظلّ معارضة ديموقراطية شديدة لنهج الرئيس المتّبع هناك، والرافضة تمويل بقاء القوات الأميركية في هذا «المستنقع» إلاّ إذا تعهّد الرئيس بسحب تلك القوّات قبل أن يتعمّق تورّطها فيه، ما قد يشكّل خطراً حقيقياً على أمن الولايات المتحدة القومي، وتهديداً لصورتها وموقعها المهيمن في العالم.
يطرح في هذا الإطار السؤال المحوريّ التالي: لماذا يصرّ بوش الابن، عبر تحدّيه الرأي العام الأميركي والدوليّ على حدّ سواء، على مواصلة هذه الحرب العبثيّة و«غير الشعبيّة»؟ إنّ الجواب لا يكمن، برأي الكاتب الأميركي المعروف مانينغ مارابل، أستاذ التاريخ والعلاقات العامة في جامعة كولومبيا في نيويورك، في حاجة أميركا إلى محاربة «الإرهاب»، بل في حاجة أميركا الاقتصادية إلى مراقبة الأسواق الدوليّة والموارد الطبيعية (وأهمّها النفط). إنّ استراتيجية بوش الاقتصادية تكمن في «الليبرالية الجديدة» التي تسعى إلى تفكيك أطر الدولة الراعية، والقضاء على البرامج الاجتماعية المخصّصة لإعادة توزيع الثروة على الفقراء، وإلغاء التشريعات الحكوميّة والقيود المفروضة على الشركات.
ويصف في هذا الإطار توماس إيدسال، البروفسور في جامعة كولومبيا للصحافة، مسار النيوليبراليّة السياسيّة المحافظ داخل الولايات المتحدة على النحو التالي: «لربع قرن مضى، اعتبر الكثير من الناخبين المزاج الجمهوري (الذي تميّز بعدم التنبّه لمخاطر التخلّي عن شبكة الأمان الاجتماعي: دعمه للعنف في الإطار التشريعي والدفاع الوطني، دعمه قانوناً ضريبياً متحيّزاً لمصلحة الأثرياء، الخطر البيئي وفكّ القيود المنظّمة بناء على رغبة أوساط الأعمال، وإعادة إضفاء الصفة الأخلاقية على البحث عن الثروة)، اعتبروه ضرورياً لموقع أميركا في العالم، ومنتجاً للفوائد أكثر من التكاليف».
وكان من نتائج هذه السياسة الاقتصادية المحافظة، بحسب ايدسال، «سباق التسلّح الذي شرعت فيه إدارة الرئيس ريغان في ثمانينيات القرن الماضي»، والذي قاد (من بين عوامل أخرى)، الى إفلاس الاتحاد السوفياتي. أما النتيجة الثانية فكانت، برأيه، «الغزو الأميركي الكارثيّ للعراق» الذي، إضافة الى تكبيده العراقيين الدمار، ضاعف من عدد أعداء أميركا وعرّض وضعها العسكري والاقتصادي للخطر، وكذلك سمعتها الدوليّة. ومع عدم قدرته على إدارة هذا الوضع الخطر، فشل بوش الابن تكراراً، ومن دون الشعور بالندم، في تقويم نتائج أفعاله هذه بشكل صحيح.
والمهمّ في تحليل ايدسال أنه لم يعتبر الاحتلال الأميركي للعراق كـ«خطأ سياسي» أو «خطأ في تقويم الوضع»، بل وضع السبب وراء ما يطلق عليه تسمية «الحرب على الإرهاب» في إطار السياسات النيوليبرالية الأميركية المحليّة (أو الداخليّة): «إن التورّط الأميركي في العراق لم ينتج، برأيه، عن هفوة عابرة حصلت، بل ينبع من صلب مبادئ الحزب الجمهوري، وهو الأمر الواضح كذلك على الجبهة الأميركيّة الداخليّة».
إلاّ أنّ السؤال الأشمل والمتعلّق بالاقتصاد السياسي، والذي لا يجيب عنه معظم المحلّلين، هو عن الصلة ما بين المغامرات العسكريّة الأميركية في الخارج، والنيوليبراليّة والاتّجاهات الجديدة في الاقتصاد العالمي (أو المعولم). وكما أوضح منذ عقود اقتصاديون كبول سويزي وهاري ماغدوف وغيرهما، فإن الاتجاه الاقتصادي العام، خلال مرحلة النضج التي تمرّ بها الرأسمالية، يميل نحو الركود. يقول مارابل إنّه، ولعقود في الولايات المتحدة وأوروبا الغربيّة، كان هناك اتجاه ثابت نحو الانحدار في مجال الاستثمار في الاقتصاد المنتج، ما تسبّب بانحدار في القدرة الإنتاجية وبنموّ أقلّ.
منذ سبعينيات القرن الماضي، اعتمدت الشركات والمؤسسات المالية الأميركية، وبشكل أساسي، على الدين لتوسيع النموّ الاقتصادي المحلّي. عام 1985، وصل حجم الدين الى ضعف حجم الناتج المحلّي الإجمالي الأميركي. عام 2005، وصل حجم هذا الدين الى قرابة ثلاثة أضعاف ونصف حجم الناتج المحلّي (أي ليس ببعيد عن 44 تريليون دولار، وهو الناتج المحلّي الإجمالي للعالم ككلّ، استناداً الى فريد ماغدوف).
وكنتيجة لذلك، أجبرت الشركات الأميركية الناضجة على تصدير منتجاتها والاستثمار في الخارج، للاستفادة من كلفة اليد العاملة الأرخص، المعايير البيئية الضعيفة (أو غير الموجودة)، وبالتالي للحصول على هوامش ربح أعلى. يأتي اليوم، بحسب مارابل، 18 في المئة من مجمل أرباح الشركات الأميركية، من الاستثمار الخارجي المباشر. وبهدف حماية تلك الاستثمارات المتزايدة، تتّبع الولايات المتحدة سياسة خارجية عدوانيّة وتدخليّة في العالم (في عام 2006، حافظت أميركا على قواعدها العسكرية الموجودة في تسع وخمسين دولة). وهنا لا بدّ من التذكير بأن القدرة على نشر القوات المسلّحة في أي جزء من العالم يعتبر أمراً أساسياً للحفاظ على كل من الهيمنة السياسية والاقتصاديّة على حدّ سواء.
وهكذا، فإنّ الحرب على العراق (وكذلك الحرب المزمعة على إيران)، لم تكن بالضرورة خطأ عسكرياً سيئاً كان الدافع وراءه رغبة الإدارة الأميركية في منع العراق من امتلاك أسلحة الدمار الشامل (وحالياً منع ايران من امتلاك السلاح النووي)، أو إرادة نشر الديموقراطية، بل إنها سعي إمبرياليّ للتحكّم والسيطرة على ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم (ويقول بعض الاختصاصيين إن العراق قد يكون يملك احتياطياً نفطياً هو الأكبر في العالم، بما يفوق احتياطي المملكة العربيّة السعوديّة)، وكذلك لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط (عبر تدمير حكومات كل من إيران وسوريا)، خدمة لمصالح الشركات الأميركية واستثماراتها في المنطقة، وللتحكّم بالاقتصاد العالمي (وهنا لا بدّ من الإشارة الى ما قاله يوماً هنري كيسنجر، من أن من يتحكّم بمنطقة الشرق الأوسط، يتحكّم بالعالم أجمع).
هل ستنجح الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها تلك والتحكّم بالمنطقة وثرواتها، وبالتالي تمتين سيطرتها الأحاديّة على العالم؟ لقد نجحت في إسقاط النظام العراقي بسهولة، ولكنها فشلت حتى الآن في القضاء على حركات المقاومة فيه، وأصبح مشروعها التوسّعي لإنقاذ اقتصادها المتراجع (في ظلّ صعود حدّة المنافسة من قبل قوى وتكتّلات اقتصاديّة كبرى صاعدة كأوروبا والصين)، عبئاً تتزايد تكاليفه البشريّة والماديّة يوماً بعد يوم، في ظلّ تصاعد حدّة المعارضة في الداخل الأميركي وانحسار نفوذ المحافظين الجدد في الإدارة الأميركيّة.
فهل سيكون مشروع الشرق الأوسط الكبير بداية أفول نجم الإمبراطوريّة الأميركيّة وزوال نظام القطبيّة الأحاديّة الأميركيّة؟ هذا ما سوف تجيب عنه الأيام المقبلة.
* باحث لبناني