أسعد أبو خليل *
يتحدّث ألبرت ميمي في كتابه عن «المُستعمِر والمُستعمَر» عن نمط الفرد المُستعمَر. فهو (أو هي) يصبح شيئاً آخر. ‏يلتمس رضى المستعمِر. يغيّر نفسه. يحاول أن يقلّد ما استطاع النمط المُستعمِر. وفي لبنان، هناك تاريخ طويل من ‏تقليد المستعمِر. هناك شوارع وجادات لا تزال تحمل أسماء مستعمِرين غازين. فاللبناني مُحبّ لتقليد الرجل الأبيض، ‏لدرجة الانفصام. هو يظنّ نفسه رجلاً أبيض، ويقدّم نفسه للغرب على أنّه واحد منهم. ولبنان عريق في محاولته ‏التملّص من هويته وتاريخه عبر اختلاق تاريخ خاص به ــــــ مختلق أو «متخيّل» بلغة بنديكت أندرسن في كتابه عن ‏«الشعوب المُتخيَّلة» ــــــ أو تاريخ له علاقة بالأيديولوجيا أكثر ممّا له علاقة بالتاريخ نفسه، وأحداثه.‏

التكريم إعلاميّاً

هكذا، وببساطة، تناقلت الصحافة في لبنان، وبشيء من الاعتزاز، خبر قرار بلدية غزير تكريم أرنست رينان الذي مرّ ‏في بلادنا في قرن غابر (وأُعجب بمهارتنا في الحروب الأهلية). مي مكارم في الـ«أوريان لوجور» وصفته ‏بالرجل «العظيم». «إل.بي.سي» أفردت له تقريراً خاصاً مستفيضاًً، ركّزت فيه على كتابه عن المسيح. ‏وفادي الطفيلي كتب سيرة عن الرجل في ملحق «المستقبل» الأسبوعي، يبدو أنّه استقاها من موسوعة على ‏الإنترنت.
هذا التكريم اللبناني غريب في أمره، لكنّه ليس غريباً عن تقاليد الوطنية في لبنان. فقد اعتمد تبلور الوطنية في لبنان على معين الاستشراق اليسوعي الذي ساهم في اختراع الفكرة اللبنانية، وذلك من أجل توطيد الاستعمار ‏الفرنسي.
وكان علماء الآثار الغربيّون يدمّرون الطبقات الأركيولوجية التي تعود الى الحقبة العربية والإسلامية، وذلك ‏للوصول الى حقبات تثير اهتمام التأريخ المسيحي. وهذا يظهر في «تسريح الأبصار» في ما يحتوي لبنان من آثار. ‏وليس من السهل نسيان الدور الكبير الذي أدّته مدارس الاستشراق اليسوعي في لبنان، وكان لويس شيخو معلّماً ‏لأجيال من دعاة الوطنية في لبنان، من أمثال فؤاد أفرام البستاني وسعيد عقل ــــــ نسي عباس بيضون في معايدته في ‏‏«السفير» لسعيد عقل أن يذكر آراء عقل في الشعب الفلسطيني ومقابلاته مع الإعلام الإسرائيلي بعد اجتياح 1982، ‏لعلّها سهوة فقط (ونتاجهم الأوّل ما زال موجوداً في الأعداد المبكرة لمجلة «المشرق»). وساهم هنري لمنس في فصل ‏تاريخ لبنان عن العرب، وأيضاً في فصل الإسلام «الأموي» عن الإسلام البدوي. ولاحظنا وجود حارث ‏البستاني، الوريث الاستشراقي لفؤاد افرام البستاني، في حفل التكريم. لعلها صدفة.‏
أما جريدة «النهار»، فهي كعادتها تتصرّف كـ«أم العروس» في كل ما يعود الى: 1) إضافة لبنة في أساطير القومية اللبنانية. 2) ‏إقامة صلة قربى بين أي لبناني والرجل الأبيض، وخصوصاً إذا ما مرّ في بلاد الأرز والكستناء. 3) بثّ الفكر ‏الاستشراقي الغربي في ما يتعلّق بالشرق وبالإسلام خاصة. 4) أي اهتمام، حتى لو كان وهمياً، من قبل الغرب نحو أيّة ‏ناحية في لبنان. وهذا يفسّر ضرورة الإتيان بفرنسي أو اثنين من فرنسا لإزالة الستار عن تمثال رينان المُخلّد. لهذا، وضعت «النهار» الخبر في صدر صفحتها الأولى. كم بدت مزهوّة. مرّ مستشرق في لبنان، وتذوّق مآكله. ما من ‏فخر أكبر. ‏
لا ندري مدى معرفة صحافيّي «النهار» بتراث الاستشراق العنصري لأرنست رينان. لم نكن نتوقّع من كتّاب ‏«النهار» بالذات أن يكونوا ملمّين بكتاب إدوارد سعيد عن «الاستشراق» الذي خصص فيه فصلاً كاملاً للحديث عن ‏منهج رينان وكتاباته. كان يمكن على الأقلّ العودة لكتابات جمال الدين الأفغاني الذي دخل في مساجلة علمية مع ‏السيد رينان إثر محاضرته (تحوّلت الى مقالة) الشهيرة عن «الإسلام والعلم». وخلُص رينان الى نتيجة مفادها ان ‏‏«العقل السامي» (من «السامية»، إذ إن رينان أدمج الشعوب المتحدثة بما يسمى اعتباطاً اللغات السامية في إطار ‏معرفي أو حتى جينيّ خاص بها) لا يستطيع ان ينتج علماً أو فلسفة. زاد عليها أيضاً رينان ان العقل السامي غير قادر أيضاً على إنتاج الشعر، مع أنّه سمح باستثناء بسيط للعبريّة.‏

رينان المستشرق

لكنّ السيرة الذاتية (الحقيقية) لرينان كانت غائبة عن مهرجان التكريم في غزير. لم يرد رعاة الحفل ان يحرجوا ‏الكنيسة على الأرجح. جعلوا منه كاهناً في ربوعهم، مع أنه كان صريحاً في مذكراته بنبذه للإيمان (تحدّثت بعض ‏الخطب في المهرجان المذكور عن «شكّه» فقط).‏
لا يمكن النظر إلى أرنست رينان مستشرقاً بالمعنى العلمي للكلمة. صحيح انه تتلمذ على يد المستشرق الفرنسي ‏المعروف سيلفستر دي ساسي (الذي كان مطيعاً في ولائه لمصالح فرنسا الاستعمارية كما ظهر في ترجماته للبيانات ‏العسكرية الموجهة للشعوب المُستعمرة، مثل الإعلان الإمبراطوري لاحتلال الجزائر عام 1830)، لكن من الأكيد ‏ان رينان لم يمض قدماً في دراساته الاستشراقية. وهو لم يكن معجباً إطلاقاً بقدرات معلمه الذي لم يكن برأيه ‏قادراً على استنباط أفكار أكاديمية جديدة.
ومن المؤكد أيضاً ان معرفة رينان باللغة العربية كانت سطحية للغاية، إذ اعتمد ‏في كتابه عن ابن رشد على ترجمة لكتاباته باللاتينية. وكان رينان في كل ما كتب أسيراً لاقتناعه بأولوية ‏اللغة في نظرية تفسير الشعوب والحضارات. وكان رينان مؤمناً بسلم تراتبية الشعوب والحضارات بناء على ‏نظرياته في اللغة. وعندما هجر الإيمان، تحول تركيز رينان على اللغات الى ما سماه هو «دين فقه اللغات». ‏واعترض المستشرق المجري، إيناس غولدزيهر، على تطفّل رينان على الاستشراق، وخصوصاً أنّ أفكاره ‏العنصرية لم تنحصر بالسود أو بالمسلمين فقط، بل شملت اليهود أيضاً. (اختلف غولدزيهر مثلاً مع تعميم رينان ‏حول عدم قدرة «العقل السامي» على إنتاج الفكر الأسطوري، وقال إنّ العبرانيين القدماء توصّلوا إلى إنتاج الأساطير).‏
لكن رينان كان أقل اعتماداً من المستشرقين على الأدلة والإثباتات، مهما كان استعمالها مغرضاً. فهو اشمئز من: ‏‏«البساطة الفظيعة للروح السامية، التي تغلق العقل البشري نحو كل فكرة دقيقة، ولكل عاطفة رقيقة، ولكل بحث ‏عقلاني...» (انظر المجموعة الكاملة من أعماله المنشورة بالفرنسية، جزء 2، ص. 333). أما خلاصة استنتاجاته ‏عن «العقل السامي» وعن الإسلام، فكانت صريحة في تلك المحاضرة الشهيرة عن «الإسلام والعلم» حين قال أو أفتى: «ان كل من جال في الشرق أو في إفريقيا صُدم بالدائرة الحديدية التي تُغلق عقل المؤمن هناك، ما يجعله رافضاً ‏بالمطلق للعلوم، وغير قادر على الانفتاح على ما هو جديد». (المجموعة الكاملة، جزء 1، ص. 946). ‏
وكان رينان معادياً بشدة لليهودية (من يدري. قد تحرك هذه المعلومة ساكناً في ‏بعض المثقفين اللبنانيين الليبراليين الذين يعترضون على أية إساءة لليهود ــــــ وهذا حق طبعاً ــــــ وإن كانوا لا يحرّكون ‏ساكناً بالنسبة إلى القتل اليومي للشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة وفي لبنان أخيراً). وكان يعزو النزعات العنفية في ‏تاريخ المسيحية الى التأثير اليهودي الذي دعا الى التخلص منه.‏
أمّا الاستنتاجات السياسية لرينان، فكانت أسوأ من استعمارية. فهو آمن من دون أي لبس بتفوق العنصر الآري الذي ‏يحتضن برأيه مستقبل الإنسانية. لكن هذا المستقبل يتطلب، كما شرح ألبرت حوراني في تناوله لكتابات رينان، ‏‏«تدمير العنصر السامي في الحضارة، والسلطة السياسية للإسلام». لقد تجاوز الاستشراق المعاصر الكثير من أفكار ‏رينان وطروحاته. فهو مثلاً أنكر أن يكون هناك أية مساهمة مبتكرة للعرب في حقل الفلسفة، إذ إنه من القائلين بأن ‏العرب نقلوا عن الإغريق من دون إبداع. وهذا الرأي بات مرفوضاً في أوساط الدارسين الغربيين، وإن كان بقي ‏مقبولاً من قبل شارل مالك وتلميذه ماجد فخري.‏

الاستشراق لبنانيّاً

قد لا تكون بلدية غزير عالمة بكل هذا، وهي على الأرجح غير مكترثة. قد تكون بلدية غزير معادية لحجّة الأفغاني ‏في رده على رينان. من يدري. قد يعزو رئيس بلدية غزير فكر الأفغاني الى الطالبان أو القاعدة، وقد يطالب ‏بإصدار مذكرة توقيف بحقه بتهم إرهابية شتى. صحيح أن هناك من متبنّي الاستشراق بين اللبنانيين من يعتقد أن كلام ‏الاستشراق المعادي لـ«الشرق» لا يعنيهم لأنّه يتعلق بالإسلام والمسلمين، لكن يفوتهم أن الاستشراق غالباً ما يكون ‏مبنياً، كما كان في فكر رينان، على سلّم من التراتبية العنصرية التي لا ترحم كل من ولد في الشرق مهما كان دينه، ‏حتى وإن قطن بلاد الأرز والكستناء.
وعناصر الاستشراق موجودة في جوانب متعددة من الثقافة في لبنان ــــــ حتى لا نقول الثقافة اللبنانية. والكثير من ‏الكتابات العربية الليبرالية، الأولى والحديثة، نقلت وأحياناً من دون أمانة عن الاستشراق الغربي. فكتاب طه حسين عن ‏الشعر الجاهلي تأثر بكتابات المستشرق مرغليوت، وتأثر علي عبد الرازق في كتابه الشهير بكتاب توماس أرنولد ‏عن الخلافة. أما كتاب (وهي أساساً أطروحة بإشراف مستشرق يسوعي) أدونيس عن الثابت والمتحوّل فهو التماس ‏لفرضيات الاستشراق عن الحضارة العربية ــــــ الإسلامية.
وليس من المستغرب أن تحتضن الوطنية اللبنانية الكثير من ‏الفرضيات العنصرية والمنهجية للاستشراق الغربي. فهي شكلت عنصراً أساسياً في فكر مؤسسي الفكرة اللبنانية ‏الذين أرادوا أن يبعدوا لبنان عن «التخلف» العربي والإسلامي. وهذا يفسر لماذا ذهبت ميليشيات الكتائب ومن حالفها ‏بعيداً في حروبها لنفي الهوية العربية، لأنها دونية في أساطير التأسيس «الوطني». وتلازُم التأسيس الوطني للبنان مع ‏المشروع الاستعماري الغربي اعتمد على المنهج الاستشراقي في التمييز بين العناصر اللبنانية
المختلفة.‏
ويمكن ملاحظة الفكر الاستشراقي بوضوح في خطاب 14 آذار (وأحياناً في فكر 8 آذار عندما يكثرون الحديث عن ‏الحضارة وعن الرقي). وفي هذا الكلام محاولة لإرضاء الرجل الأبيض أو لتقليد المستعمِر. ونتذكر ان وليد جنبلاط ‏عزا في مقابلة في برنامج «كلام (بعض) الناس» أسباب «المشكلة» العربية الى غياب ديكارت بين العرب، حتى إنه ‏تكلم في تلك المقابلة عن محنة «العقل العربي». لم يحظَ العرب، حسب ظنه، بمواهبه في التفكير والتقلب ومسايرة ‏الطاغي الموجود (مع جرأة في مواجهته عندما يذهب). وهو يحذر من ان يصبح لبنان مرتعاً للغوغاء إذا ما استمرت ‏الهجرة منه. قد يفسد الفقراء الجو عليه، ويقلّلون من قدرة حفلة التنكر الوطنية التي تسود أوساط النخبة في لبنان. ‏وكلام 14 آذار عن «حب الحياة» ليس مبتكراً. فهو نتاج الخطاب المسيحي (والاستشراقي في جانب منه) المتعصب ‏في هذه البلاد الذي يصر على تقسيم الناس الى حضارات وعقول مختلفة ليس من حظ العرب والمسلمين فيها إلا ‏الدونية. وتظهر العقدة الدونية في الثقافة السياسية والشعبية في لبنان في هذا الإفراط في استعمال المفردات الأجنبية ‏في الحديث، وفي هذا الإفراط تمييز لبنان عن شعوب مجاورة. فكم مرة نسمع «ليبراليّي» 14 آذار يقولون إننا ‏‏«نحن لسنا شعب الكونغو» أو إننا «لسنا مثل سوريا». يحاولون جاهدين ان يتقربوا وأن يتملقوا للرجل الأبيض، ‏لعله يعطف عليهم بحرب تحريرية. ‏
أصبح لأرنست رينان تمثال في قلب غزير. يمكن ان نضيف الحدث الى واحدة من عجائب ما اصطُلح على ‏تسميته اعتباطاً الوطن اللبناني. لن نتعجّب. نتذكّر أحداثاً ليست ببعيدة. نتذكر كيف استُقبل أرييل شارون في بكفيا. قد يأتي يوم يحظى فيه عتاة المتعصّبين من المستشرقين بأسماء شوارع وجادات، وقد يأتي يوم يُقام فيه تمثال لكل من ‏مر في بلادنا من مستعمرين. نضمن أنّ جريدة «النهار» ستكرّمهم على صفحتها الأولى.‏
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com