عصام نعمان *
أميركا وإسرائيل في مخاض. السبب؟ إخفاق استراتيجيا الأولى في العراق وأفغانستان، والثانية في فلسطين ولبنان. في غمرة المخاض الطويل، تجري إعادة نظر شاملة في استراتيجيات الماضي.
القاسم المشترك بين المخاض الأميركي والآخر الإسرائيلي هو سقوط مدوٍّ لنمط تقليدي في الحرب التي عرفها العالم منذ قرون. فالحرب كانت تقوم وتتواصل بين دول، وتتوقف وتنتهي بمعاهدات صلح أو استسلام بين حكومات. اليوم اختلف الأمر. الحرب أصبحت تندلع، غالباً، بفعل طرفٍ ليس دولة بالضرورة، وإن كان الطرف الآخر المستهدف دولة أو حكومة في غالب الأحيان.
الولايات المتحدة لا تواجه في العراق وأفغانستان دولةً أو حكومة. إنها تواجه، في الواقع، شعباً من خلال تنظيمات للمقاومة المسلحة منبثقة من صفوفه. هذه المقاومة الشعبية المسلحة دخلت في العراق عامها الخامس وفي أفغانستان عامها السابع، وليس في الأفق ما يشير إلى أنهما تعبتا أو تعتزمان التوقف.
إسرائيل كذلك لا تواجه في فلسطين ولبنان دولة أو حكومة. إنّها تواجه، في الواقع، شعباً من خلال تنظيمات للمقاومة منبثقة من صفوفه. عمر المقاومة في فلسطين من عمر إسرائيل نفسها، تطغى في نضالها أحياناً أساليب المقاومة المدنية وفي أحيان أخرى أساليب المقاومة المسلحة. غير ان الدولة الصهيونية أخفقت في التغلب على كلتا المقاومتين في كل الأحيان. كذلك الأمر في لبنان، إذ تواجه إسرائيل منذ منتصف الثمانينيات مقاومةً شعبية مسلحة، دقيقة التنظيم، جيدة التسليح، وشديدة المهارة في أساليبها القتالية.
الأمر نفسه يتكرر، بمستويات متفاوتة من التنظيم والتسليح والقتال، في بلدان إسلامية أخرى. لكن النمط يبقى هو عينه: تنظيمات للمقاومة الشعبية في مواجهة جيوش نظامية لدول أو مجموعة دول وحكومات.
حكومتا أميركا وإسرائيل أدركتا أخيراً فشل الاستراتيجيات القائمة على أساس تصدّي الجيوش النظامية، عموماً، بأساليب الحرب التقليدية لتنظيمات المقاومة الشعبية. وفشلت إدارة بوش، خصوصاً، في مواجهة تنظيمات المقاومة الشعبية، في ممارسة ضغوط سياسية على الحكومات المحافظة الموالية لها من أجل تقبّل إصلاحات ديموقراطية محددة لتجميل وجوهها القبيحة.
المخاض يتخذ في كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل شكل ندوات للمناقشة وورش عمل للبحث والتقرير. في غمرة المخاض، تطفو على سطح المناقشات ظواهر لافتة. ففي واشنطن، يشكو الرئيس بوش من نائبه ديك تشيني ومن بيروقراطية لم تساعده على تنفيذ استراتيجيته الداعية لنشر الديموقراطية، بل هو يشكو، تصوّروا، من الرئيس المصري حسني مبارك الذي «نجح على ما يبدو في إخضاعهم لعملية غسل دماغ»! ما يعنيه بوش هو أن مبارك، كما سواه من الملوك والرؤساء العرب والمسلمين، رفضوا الإصلاحات الديموقراطية التجميلية بدعوى أنها تُضعف أنظمتهم السلطوية وتقوّض الاستقرار في بلدانهم.
المخاض يتّخذ في إسرائيل شكل مناقشات عامة في الصحف والتلفزيونات، كما في هيئة قيادة أركان الجيش الإسرائيلي. الهدف؟ تقويم أسس البرنامج الطويل الأمد للجيش الإسرائيلي الذي يتناول أساساً حاجات الأذرع المختلفة للسنوات العشر المقبلة و«العقيدة الأمنية» الواجب اعتمادها «بعدما انهارت العقيدة السابقة التي اعتمدت مبدأ الحسم الجوي ولم تصمد في الاختبار في الحرب الأخيرة على لبنان»، بحسب ما نقلت الإذاعة العبرية العامة عن ضابط كبير.
غير أنّ المخاض الطويل لا يتناول غايات كل من الدولتين وأغراضها الاستراتيجية حيال دول العالم، ولا سيما البلدان العربية والإسلامية، بل استراتيجيات المواجهة ومقاربات العمل الميداني ضد هذه البلدان ليس إلا. فالغايات والأغراض الاستراتيجية ما زالت على حالها، بل لعلها ازدادت اتساعاً وحدّةً. ها هو المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض طوني سنو وضع، قبل أيام خلال محاضرة في مركز «هيودسون للدراسات»، جمهوره أمام معادلة حادة مفادها ان الانسحاب من العراق سيعني «أننا لا نريد أن نبقى القوة الأعظم في العالم. إنني أنصح الأميركيين، مواطنين وسياسيين، ممن يطالبون بانسحاب قريب باستبدال تساؤلهم «كيف نغادر العراق؟» بـ«كيف نفوز ونبقى في العراق؟». وجاءت التصريحات المنسوبة إلى وزير الدفاع روبرت غيتس حول سحب تدريجي للقوات الأميركية اعتباراً من أول السنة المقبلة تأكيداً لتطوير سياسة بوش الداعية إلى خفض عديد القوات الأميركية، لكن مع إبقاء قسم فاعل منها في قواعد عسكرية خارج المدن العراقية.
في إسرائيل، أعاد وزير الحرب إيهود باراك تأكيد المذهب العسكري الإسرائيلي التوسعي. أعلن أنّ «إسرائيل ستتزوّد بأنظمة فعالة مضادة للصواريخ في غضون أربع إلى خمس سنوات. ففي حال نشوب نزاع، على إسرائيل نقل الحرب إلى معسكر العدو والانتصار بشكل واضح مع أقل ما يمكن من الخسائر في الصفوف الخلفية».
باراك لم يتحدث عما ستفعله إسرائيل إذا ما تمكّن العرب، كما حدث في حرب تموز العامَ الماضي، عندما نقلت المقاومة اللبنانية بصواريخها الحرب الى قلب الكيان الصهيوني، بل هو لم يعلّق على تهديد سيّد المقاومة حسن نصر الله، في خطابه لمناسبة الذكرى الأولى لحرب تموز، بمفاجأة كبرى أعدّتها المقاومة إذا ما شنّت إسرائيل الحرب مجدداً على لبنان، مفاجأة سيكون من شأنها إحداث تغيير مصيري في الحرب والمنطقة.
حوار الإرادات هذا بين قادة العدو وقادة المقاومة يقودنا إلى سؤال آخر بالغ الأهمية هو: ما ردّ تنظيمات المقاومة الشعبية في البلدان العربية والإسلامية على ورش العمل وندوات إعادة النظر في استراتيجيات كلٍّ من أميركا وإسرائيل؟
لعلّ السيّد حسن نصر الله كان البادئ في توفير الجواب المطلوب، ولو بصورة غير مباشرة. فالسلاح ـــــ المفاجأة الذي لوّح به في خطابه الشهير ينطوي، كما يبدو، على فعالية عظيمة بدلالة قوله إنه من شأنه إحداث «تغيير مصيري في الحرب والمنطقة». بكلام آخر، سيكون لاستعمال السلاح ــــ المفاجأة آثار وتداعيات إقليمية. ذلك يعني، بالضرورة، أنّ لفعالية السلاح المشار إليه من جهة ولمستعمليه من جهة أخرى أو للاثنين معاً صلة إقليمية ما. هذا التعليل يطرح بدوره سؤالاً آخر مهمّاً: هل ثمّة تنسيقٌ تنظيميٌّ بين قوى المقاومة على الصعيد الإقليمي؟
لعلّ صحيفة «ذي إنديبندنت» البريطانية قدّمت، بصورة غير مباشرة، قبل يومين، إجابة أولية عن ذلك السؤال. فقد نسبت إلى مقاتلين في «جيش المهدي» بزعامة السيد مقتدى الصدر قولهم إنهم تلقّوا تدريبات على تكتيكات حرب العصابات المتقدمة على يد «حزب الله» في جنوب لبنان. ونسبت إلى الصدر نفسه قوله: «نقيم روابط رسمية مع حزب الله، ونتبادل معه الأفكار ونناقش معه الوضع الذي يواجهنا في البلدين. ومن الطبيعي أن نعمد إلى تحسين أنفسنا من خلال التعلّم من بعضنا. وسنستمرّ في مناقشة خطط إسرائيل المستقبليّة في الشرق الأوسط لأننا جزء من أي شيء يحصل في المنطقة».
إذا كانت أميركا وإسرائيل من جهة وتنظيمات المقاومة الشعبية في البلدان العربية والإسلامية من جهة أخرى لا تكتفي بخوض الصراع ومعالجة أدواته وتطويرها على الصعيد المحلي بل تتجاوزه أيضاً الى الصعيد الإقليمي، فهل تعالج الحكومات العربية والإسلامية هذه المسائل والتحديات على الصعيد الإقليمي أيضاً؟
نعم، إنها تفعل ذلك بدليل الموقف الذي اتخذته أخيراً السعودية من سوريا. فهي لم تكتفِ بالامتناع عن حضور الاجتماع الأمني الذي عقدته أخيراً في دمشق الدول المجاورة للعراق بحضور وفد من الولايات المتحدة، بل ردّت بحدّة لافتة على تصريحات لنائب الرئيس السوري فاروق الشرع. غير أنّ المهمّ في هذا كله ما أورده مجلس الوزراء السعودي لاحقاً في تفسير أو تبرير ردّ المملكة، إذ شدّد على أنّ التحالفات الإقليمية التي يعقدها العرب يجب ان تكون «مسخرة لدعم وحدة الصف العربي، لا أداة من أدوات شقّه وإضعافه». هذا الكلام الموجّه إلى سوريا (التي تستطيع اعتماده بحرفيته ردّاً على السعودية!) يدلّ بوضوح على أنّ السعودية تواجه تنظيمات المقاومة الشعبية، كما الإرهابية، على الصعيدين المحلي والإقليمي. ولن يطول بها الزمن قبل أن تنظم، بالتعاون مع حكومتي مصر والأردن وسواهما، ورش عمل لإعادة النظر في الخطط المعتمدة حالياً ضد تلك التنظيمات ووضع أسس مغايرة ومتطورة في مواجهتها.
أجل، المخاض الجاري هذه الأيام في أميركا وإسرائيل ومعظم البلدان العربية والإسلامية يبحث عن جوابٍ معاصر لسؤالٍ قديم: ما العمل لمواجهة مقاومة الشعوب؟
* وزير لبناني سابق