محمّد سيّد رصاص *
كان انهيار نظام يالطا في عام 1989 مدخلاً إلى حقبة جديدة في العلاقات الدولية تميزت ببروز واشنطن كقطب واحد للعالم لأول مرة منذ معركة «أكتيوم» (31 ق. م.) لمّا وصلت روما لذلك، مما جعل انهيار الاتحاد السوفياتي، بعد عامين، يطبع العصر بنتائجه، مثلما حدّدت ثورة أكتوبر ملامح مرحلة جديدة في الوضع الدولي استمرت زهاء ثلاثة أرباع القرن العشرين.
ظهر مقدار التفرّد الأميركي على حساب القوى الأخرى (أوروبا ـــــ روسيا ـــــ الصين)، التي لم تستطع امتلاك قوة التأثير والتقرير، في الأزمات الثلاث الكبرى لعقد التسعينيات الماضي: أزمة وحرب الخليج (1990 ـــ 1991)، حرب البوسنة (1992 ـــ 1995)، أزمة وحرب كوسوفو (1999)، فيما قادت الولايات المتحدة، منفردة، مسار «تسوية» الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي منذ مؤتمر مدريد (ت1 1991) حتى مؤتمر كامب ديفيد (تموز 2000)، إلى أن أدت الأزمة العراقية، وما تبعها من حرب واشنطن على العراق، في عام 2003، إلى تبيان مدى اختلال التوازن الدولي لمصلحة «القطب الواحد»، على حساب أوروبا التي بان مدى قدرة الولايات المتحدة على إحداث الانقسام فيها ضد قوى حاولت الممانعة مع واشنطن في الأزمة العراقية (فرنسا ـــــ ألمانيا)، وعلى حساب روسيا التي حاولت التحالف مع باريس وبرلين.
من جهة أخرى، استطاعت واشنطن تحديد الكثير في عملية إدارة الصراعات والمشكلات الإقليمية، وتعيين آفاقها: نحو تغيير الخرائط من عدمه (أوروبا الشرقية والوسطى بعكس الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية وسريلانكا، من خلال مشكلتي كشمير والتاميل)، إلى ضبط حدود التعامل مع «الدول المارقة» («الاحتواء المزدوج» تجاه العراق وإيران منذ 1993، ثم «الاحتواء المنفرد» تجاه العراق منذ 1999، وصولاً إلى الاتجاه لضربه وغزوه بعد 11 أيلول، وبعد ذلك محاولة العودة لاحتواء إيران ـــــ وربما ضربها ـــــ منذ عام 2005 بعد تعاون قصير معها في كابول (2001) وبغداد (2003 ـــ 2004)، ثم استخدام العوامل المحلية لإحداث تغييرات ضد قوى دولية أخرى (استخدام أقلية التوتسي في رواندا وبوروندي ضد الأكثرية ممثلة في قبيلة الهوتو الموالية تقليدياً لفرنسا)، إلى تحديد أدوار الدول الإقليمية باتجاه التحجيم (إيران ـــــ باكستان) أو باتجاه إطلاق اليد أو تعيين المسار (تركيا في آسيا الوسطى السوفياتية والقفقاس) أو باتجاه منعها من التدخل في أزمات إقليمية أو مجاورة (مصر تجاه الأزمة السودانية، أو حيال حل أزمة لوكربي مع ليبيا عام 1999).
أدى هذا وذاك إلى ترسيخ قوة «القطب الواحد» في الزمن الذي يفصلنا عن نهاية الحرب الباردة، وإلى نظم العلاقات الدولية على أساس ذلك، وهو ما نجحت فيه الولايات المتحدة إلى حد كبير. وكان المثال العراقي مؤشراً قوياً على ذلك، تجاه أوروبا، وروسيا، والصين، وكذلك الجوار الإقليمي للعراق، والجسم العربي، وأيضاً على صعيد الأمم المتحدة.
في هذا الإطار، أدت الامتدادات الأميركية، عبر حرب الخليج الثانية حتى احتلال العراق في 2003، وفي القفقاس عام 2001 مع الأزمة والحرب التي أعقبت أحداث 11 أيلول في أفغانستان ـــــ إلى سيطرة واشنطن على منابع واحتياطات النفط الأساسية في العالم، وإلى تحكمها بحنفيته تجاه أوروبا واليابان والصين، وهو ما يشكل مكسباً استراتيجياً (يمكن أن يكون هو الهدف الرئيسي من تركيز «القطب الواحد» على ذلك القوس الممتد بين الخليج وقزوين بعد انهيار «الكتلة الشرقية» بدلاً من مناطق أخرى من العالم) من المحتمل أن يؤدي إلى تحديد شكل التوازنات بين الولايات المتحدة وهذه القوى الثلاث التي تشكل تهديداً مستقبلياً لمكانة «القطب الواحد» على مدار القرن الجديد، وخاصة الصين التي يتوقع، إذا استمر معدل نموّها السنوي الحالي (8 %) أن تضع اليابان وراءها في عام 2050 كثاني قوة اقتصادية عالمية، مما سيجعل منطقة شرق آسيا، التي تقدم الآن 35 % من الناتج الاقتصادي العالمي، تشكل التهديد المستقبلي الأكبر للقطب الواحد، وخاصة إذا أفرز الاقتصاد مستتبعاته السياسية والأمنية.
لذلك كان «النفط» والسيطرة عليه، مشكِّلاً لضربة وقائية استباقية (تماماً مثل العقيدة الاستباقية الوقائية التي أعلنها الرئيس الأميركي في عام 2002، كاستراتيجية عسكرية أميركية جديدة) تأتي لتعزيز التفوق العلمي ـــــ التقني الذي مال كثيراً لمصلحة الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين تجاه أوروبا واليابان، وهو ما ينعكس أساساً على الصعيد العسكري، بعد أن أصبحت الحرب لعبة تكنولوجية أساساً، مما جعل هناك اختلالاً عسكرياً بين الولايات المتحدة والآخرين الذين وراءها، أصبح يشكل ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ العسكري.
تشكل الحرب في هذا الإطار (وشكلت) وسيلة لخلق حقائق سياسية واقتصادية جديدة، وهو ما اتبعته الولايات المتحدة بقوة وفاعلية في فترة ما بعد الحرب الباردة، وهذا ينطلق أساساً من إدراك صانعي القرار في واشنطن بأن التفوق العلمي ـــــ التقني، والعسكري، إذا لم يرادفهما حقائق مكافئة في الاقتصاد، وعلى الصعيد الجغرا ـــــ سياسي، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تقويض بناء الأحادية القطبية، وخاصة مع وجود مؤشرات على بزوغ قوى اقتصادية كبرى تتجه نحو العملقة، بالترافق مع اعتلالات بدأت تظهر على الاقتصاد الأميركي، مما يفسر اتجاه بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي نحو «دولار ضعيف» تجاه اليورو والين الياباني منذ عام 2001، لتشجيع الصادرات الأميركية وجعل البضائع اليابانية والأوروبية أقل تنافسية تجاه البضائع الأميركية في السوق الداخلية والخارجية.
تأتي النزعة الحربية الراهنة عند الأميركان من ذلك، وهو ما ظهر بقوة في كابول 2001 وفي بغداد 2003، بخلاف النزعة الإنكفائية التي ظهرت عقب الحرب الفيتنامية، فيما يلفت النظر حقيقة أن المقاومات الدولية، أو بالأصح الممانعات، لا ترتفع إلى مستوى قامة الغايات الأميركية من الحرب، وهو شيء ظهر بوضوح في الحرب العراقية، رغم أن بعض القوى الدولية قد قدمت فيها درجة من الممانعات كانت أكبر من كل ما ظهر في محطات الحروب الأميركية السابقة (حرب 1991، حرب كوسوفو 1999)، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لمنع «البلدوزر» الأميركي من متابعة طريقه، أو حتى عرقلته عن ذلك.
في هذا الإطار، يلاحظ بحث القوى الكبرى عن تفاهمات مع واشنطن، أو عن صفقات معها، خلال كل أزمة دولية، بدلاً من البحث عن طريق مقاوم: غورباتشوف في حرب 1991 وكذلك الصين؛ الأوروبيون في كوسوفو 1999 مع سكوت روسي؛ موسكو في حرب 2001 الأفغانية رغم امتداد واشنطن إلى «الحديقة الخلفية» للروس في آسيا الوسطى والقفقاس؛ الصين في حرب 2003 العراقية، مع ترك بكين لحليفتها الكورية الشمالية في أثناء أزمتها مع الأميركيين، ثم انضمام الفرنسيين والروس إلى بكين بعد فشل ممانعاتهم في الأزمة العراقية والعودة إلى التوافق مع واشنطن كما ظهر من خلال قرار مجلس الأمن المشرِّع للاحتلال الأميركي للعراق، وهو ما تبلور أكثر من جانب باريس حيال واشنطن عبر (القرار 1559) في صيف 2004 الخاص بلبنان ومنطقة الشرق الأوسط.
* كاتب سوري