مازن صفية *
في الوقت الذي يجهد فيه اللبنانيون بحثاً عن طريق خلاصهم من الأزمة التي تهدد وحدتهم مساراً ومصيراً، نجد تلك الأزمة تشتد وتزداد تعقيداً نظراً لكثرة الإشكاليات التي ما انفكت في الظهور تباعاً، ولا سيما بعد استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة والجدل العقيم الذي أحاط بتلك الاستقالة والتداعيات التي خلفتها.
أما جديد تلك الإشكاليات، لا آخرها بالطبع فكان المرسوم 493 الصادر عن الحكومة بتاريخ 16/6 /2007 والقاضي بدعوة الهيئات الناخبة لانتخاب نائبين عن دائرتي بيروت والمتن.
وإذا كانت الانتخابات قد جرت في ظل الانقسام الحاد في البلد من دون إشكالات تذكر، فإن الجدل لا يزال قائماً حول قانونية المرسوم في ظل الطريقة التي صدر بها. وزادت تلك الجدلية لدى صدور حكمين بتاريخ 18 تموز و1 آب عن مجلس شورى الدولة بهيئته العامة (مجلس القضايا) قضيا برد الطعون الموجهة إلى المرسوم لعلة عدم الصلاحية...
فبدل أن يجترح حكم مجلس الشورى المذكور الحل المنشود، فينهي الجدل القائم كما يفترض، إذا بهذا الحكم يزيد التعقيد تعقيداً. فجاءت التعليقات والانتقادات للحكم المذكور لتصيب السلطة القضائية هذه المرة وتضعها في موضع الانتقاد. وبعيداً عن الآراء المسبقة المحكومة بخلفيات سياسية، فإنّ الحكم المذكور يستدعي منّا إبداء بعض الملاحظات القانونية عليه من باب التوضيح والتصويب ووضع الأمور في نطاقها القانوني السليم:
ـــــ لقد أعلن مجلس الشورى عدم اختصاصه لبتِّ الطعن الموجه إلى المرسوم، لأنه بحسب مجلس الشورى يتعلق بالعملية الانتخابية ككل، وهو جزء لا يتجزأ منها، وبالتالي هو يشكل عملاً حكومياً، يكون حينها محصناً من الطعن به أمام مجلس شورى الدولة...
ـــــ من حيث المبدأ إن قرار مجلس شورى الدولة سليم لجهة اعتبار مرسوم دعوة الهيئات الناخبة من الأعمال الحكومية، الأمر الذي كان يجد ميداناً تطبيقياً له في الاجتهاد الفرنسي وفي الاجتهاد اللبناني...
ففي الاجتهاد الفرنسي: les actes du pouvoir executif concernant ses rapports avec le parlement ne peuvent faire l'objet d'un debat par la voie contentieuse... les decrets portant convocation des collegues electoraux en vue des elections aux assemblees
أمّا في الاجتهاد اللبناني: يراجع قرار مجلس الشورى تاريخ 6 /12/ 62 حسن الشحيمي/ الدولة اللبنانية ـــــ مجموعة إدارية 63 ص 123.
كما ارتكز مجلس الشورى في تعليله على حكم صادر عنه في عام 94 يعلن فيه عدم اختصاصه ببتِّ الطعن ضد دعوة الهيئات الناخبة لانتخابات عام 92... وبالرغم من هذا التعليل والمرتكزات القانونية التي بنى عليها مجلس الشورى في إعلانه عدم اختصاصه، إلا أن حكم مجلس الشورى قد أخطأ حول هذا التعليل للأسباب التالية:
ـــــ إن ارتكاز مجلس الشورى على قراره السابق والصادر في عام 94 ليس في محله القانوني، لأن في ذلك الوقت كانت الظروف مختلفة تماماً عن واقعنا الحالي، بحيث إن المجلس الدستوري الناشئ في عام 93 لم يكن يحق له بتُّ الطعن بالعملية الانتخابية لعام 92. كما أن المرجع الصالح آنذاك كان لا يزال بحكم الدستور المجلس النيابي، وبالتالي كان من الطبيعي في ذلك الوقت أن ينأى مجلس الشورى بنفسه عن النظر بالطعن المذكور لكي لا يشكل تصديه للقضية تعدياً على اختصاص سلطة دستورية هي المجلس النيابي. أما حالياً، فالظروف مختلفة تماماً، كما أن الاجتهاد قد تطور وتغير كما سنبين لاحقاً. وبالتالي، فإن الارتكاز على قرار عام 94 لم يكن في محله القانوني.
ـــــ إذا كان مجلس الشورى قد ارتكز إلى سابقة قضائية صادرة عنه في عام 94 (قد تكون يتيمة في ظل تطور الاجتهاد وتغيره حول هذا الموضوع) فكان عليه، ومن باب أولى أن يرتكز على قراره الصادر حديثاً في عام 98 (قضية ميشال قاصوف/ الدولة اللبنانية) حيث رأى فيه أن مرسوم دعوة الهيئات الناخبة هو عمل منفصل تماماً عن العملية الانتخابية وهو قابل للإبطال أمام قاضي الإبطال.
نقرأ في ذلك القرار الرقم 746 تاريخ 13/ 8/ 98: «بما أن الطعن في قانونية العملية الانتخابية بحد ذاتها أو في النتائج المترتبة عنها والتي تتعلق «بتأليف المجلس البلدي أو بانتخاب الرئيس ونائب الرئيس وتلك التي تتعلق بعدد الاعضاء»... كل ذلك يدخل في صلاحية قاضي الانتخاب... «وبما أن القضاء الإداري ما زال يؤكد اجتهاده «القائم على التفريق بين الأعمال المنفصلة والأعمال غير المنفصلة للعمليات الانتخابية»، فالأعمال غير المنفصلة فقط تقبل المراجعة أمام قاضي الانتخاب، بينما يمكن أن تكون الأعمال المنفصلة موضوع مراجعة أمام قاضي الأبطال.
«... وبما أنه تعتبر أعمالاً منفصلة... الأعمال المتعلقة بالسير الجماعي للانتخابات وبالحملة الانتخابية وأخيراً القرارات المتعلقة بدعوة الهيئات الناخبة... وبما أن سبب اعتبار تلك الأعمال منفصلة عن العملية الانتخابية تدارك إجراء انتخابات غير قانونية...».
وبالمعنى نفسه قرار مجلس الشورى الرقم 34 / 2004ـــــ 2005 تاريخ 14/ 11/ 2004.
لذلك يكون قرار مجلس الشورى اعتبار المرسوم يشكل جزءاً لا يتجزأ من العملية الانتخابية النيابية التي تخضع برمتها لصلاحية المجلس الدستوري في غير محله القانوني.
إذا كان مجلس الشورى قد علل قراره في إعلانه عدم صلاحيته، هو وجود هيئة قضائية مختصة لبتِّ قانونية الدعوة للانتخابات النيابية هي المجلس الدستوري المختص بموجب الدستور (م 19 منه) وبموجب قانون إنشائه لبتِّ النزاعات الانتخابية، إلا أن هذا التعليل جاء قاصراً وفي غير محله القانوني، لأنّ مجلس الشورى أغفل أو تغافل عن أحكام المجلس الدستوري الصادرة عنه منذ تاريخ إنشائه في لبنان التي تحصر صلاحيته فقط ببتِّ النزاعات بين المرشحين المتنافسين فيصحح النتيجة من دون أن يلغي العملية الانتخابية. أما أفصح تلك الأحكام وأوضحها في هذا الصدد، فكان حكم المجلس الدستوري الصادر بقضية ميرنا المر ضد غبريال المر بتاريخ 8/12/2000 حيث رأى المجلس أنه غير مختص ببتِّ صحة القرارات التمهيدية السابقة للعملية الانتخابية، وإن مراجعة الطعن أمامه لا يمكن أن تتناول عملية انتخابية برمتها، بل فقط إلغاء النتيجة بالنسبة إلى المرشح المطعون بصحة نيابته، وبالتالي تصحيح النتيجة بين الطاعن والمطعون بصحة نيابته، أو إبطال الانتخاب بين المرشحين المتنافسين من دون أن يتناول العملية الانتخابية برمتها.
ـــــ إن هذه الحقيقة التي كان يعلمها مجلس الشورى وغفل عنها، فيها تنكُّر للمبادئ القانونية المعمول بها حديثاً ولدى القضاء الإداري نفسه ومفادها «أن من واجب السلطات بما فيها القضاء الإداري الالتزام بأعمال مفاعيل أحكام المجلس الدستوري...».
ـــــ إن قرار مجلس الشورى في مقاربته لمسألة اختصاص المجلس الدستوري لدى إعلانه عدم صلاحيته ببتِّ الطعن بمرسوم دعوة الهيئات الناخبة يكون قد خالف المبادئ القانونية التي تمنع على سلطة قضائية أن تعلن اختصاص سلطة قضائية أخرى، وبهذا المعنى نقرأ: IL convient en effet d'observer que chacune des juridictions administratives et judiciaires ne peut statuer que sur sa propre incompetence et il est certain que l'une ne peut en aucune facon etre maitresse de la competence de l'autre... ـــــ لو سلمنا جدلاً بأن قرار مجلس الشورى قد أصاب لجهة اعتبار أن المرسوم موضوع الطعن يشكل عملاً حكومياً، إلا أن مجلس الشورى قد أخطأ في إعلان عدم صلاحيته لبتِّ قانونية المرسوم، لأن المرسوم المذكور والطريقة التي صدر بها، ولا سيما خلوه من توقيع رئيس الجمهورية، يجعله عملاً مادياً مجرداً من أي مشروعية، ما يسمح لمجلس الشورى بحفظ احتصاصه وبتّ الطعن المذكور، وذلك بإبطال المرسوم. فمجلس الشورى يمكنه بحسب المبادئ القانونية المعمول بها مراقبة المشروعية الخارجية للقرار الإداري، ولا سيما إذا كان التدبير المشكوّ منه صادراً بجلاء عن سلطة غير صالحة. بهذا المعنى قرار مجلس الشورى تاريخ 3 /11/ 97 م.ق.ا 99 ص 85، اللواء الخوري/
الدولة.
والاجتهاد الإداري مستقر بالقول إن غياب التوقيع على المرسوم لا يعيب المرسوم من الناحية الشكلية فحسب، بل يجعل المرسوم صادراً عن سلطة غير ذي
صلاحية.
بهذا المعنى نقرأ: «إن التوقيع على المرسوم من قبل من كان صاحب الصلاحية للتوقيع عليه بموجب الدستور أو القوانين ليس أمراً شكلياً لازماً فحسب، بل من المقومات الجوهرية لتكوين المرسوم الصادر لتعلقه بالصلاحية».
(قرار م.ش تاريخ 11/12/96 الحروق/ الدولة م.ق.ا 98 ص 136. وقرار م.ش رقم 515 تاريخ 17\ 4\ 64).
بنفس المعنى: La signature n'est donc pas une simple formalite mais
l'expression du consentement des co auteures la formalite est en l'espece indissocible de la competence.
فالتوقيع على المرسوم هو تعبير عن الإرادة في إصدار هذا المرسوم، وبعض المراسيم تتطلب توقيعاً مشتركاً من رئيس الدولة ورئيس الحكومة والوزراء فإنه لا غنى عن تلك التواقيع جميعاً ولا يغني أحدها عن الآخر ما دام إصدار المراسيم ليس شخصياً أو منفرداً بل جماعي.
لأن الصلاحيات التنفيذية مشتركة بين التوقيع LE Sein والتوقيع المشارك LE contre seing ما دام أي واحد منهما لا يستطيع فعل شيء دون الآخر:
بنفس المعنى:
l'acte attaque emane d'une autorite incompetente pour la prendre seule et doit pour ce motif etre annule
كذلك بنفس المعنى: «إن المرسوم هو العمل الذي يصدر عن رئيس الدولة، وإذا لم يقترن بتوقيع رئيس الدولة يبقى بدون أي مفعول بالرغم من اقترانه بتوقيع رئيس الوزراء والوزراء المختصين، لأن القانون لم يول الوزراء سلطة التصرف، بل أناط الأمر برئيس الدولة...». (م.ش.قرار رقم 72 تاريخ 3/11/97 فايز الحلاني/الدولة، وم.ش.قرار رقم 535 تاريخ 13/5/99 أنطون سعادة / الدولة).
كما أن المرسوم هو كيان قانوني متكامل يجب أن يصدر وفقاً للقانون والأصول الجوهرية التي حددها الدستور، وإلا عُدَّ باطلاً لصدروه عن سلطة غير صالحة... (م.ش قرار رقم 70 تاريخ 3/11/97 الخوري/ الدولة).
ومجلس الشورى أبطل العمل الإداري الذي خلا من توقيع فرض القانون وجوده إلى جانب توقيع السطة التي أصدرته، وذلك لعلة عدم الاختصاص تحديداً لا لإغفاله صيغة جوهرية فقط. (م.ش. قرار رقم 73/ 82 تاريخ 19/ 1/ 77).
وطبقاً للاجتهاد يعتبر غير موجود العمل الإداري الذي تشوبه مخالفة فاضحة وساطعة وتتعلق سواء بمصدره أو بمضمونه...
كما اعتبر أن العمل الإداري (المرسوم) الخالي من التوقيع اللازم يعتبر عملاً منعدم الوجود وغير ذي مفعول nul et de nul effet
فبحسب ديغرانغ il n'y a pas de decret s'il n'y a pas de signature
كما أن الفقيه hostiou يعتبر أن غياب بعض الشكليات، ولا سيما التوقيع على العمل الإداري يجعل من هذا الأخير أيضاً منعدم الوجود.
وبما المرسوم موضوع الطعن قد خلا من توقيع رئيس الجمهورية، الأمر الذي يخالف المواد 54 و 56 و 64 من الدستور والمادة 7 من قانون انتخاب أعضاء المجلس النيابي ويجعله صادراً عن سلطة غير مختصة، لذلك كان يمكن مجلس الشورى أن يؤسس على هذه المبادئ القانونية ويحفظ اختصاصه لبتِّ الطعن المذكور من دون أي مأخذ عليه قياساً على ما كان طبقه مجلس الشورى في موضوع المعاهدات الدولية، حيث إنه حفظ اختصاصه للنظر بالطعون المتعلقة بها والتي تعتبر من ضمن لائحة الأعمال الحكومية، وذلك في معرض مراقبته لاحترام السلطات العامة لأصول المصادقة على المعاهدة
ونشرها...
وما تدوين مخالفة لأحد أعضاء مجلس الشورى في الحكم المذكور إلا تأكيد إضافي على أن حكم مجلس الشورى لم يكن رأياً حاسماً ومبدئياً بل كان رأياً مرناً، وكان يمكن أن يكون على خلاف ما صدر، أي أن يتجه نحو حفظ اختصاصه لبتِّ الطعن المذكور، ولا سيما أن التوجه الحالي والغالب لدى القضاء الإداري في مختلف الدول هو نحو حصر لائحة الأعمال الحكومية إلى الحد الأدنى. كما يميل إلى استبعاد مرسوم دعوة الهيئات الناخبة من لائحة الأعمال الحكومية، حتى إن بعض الفقهاء الإداريين أمثال WALLINE يرون أنه لا وجود لما يسمى الأعمال الحكومية، وهي غير موجودة على الإطلاق. كذلك إن مجلس الشورى الفرنسي الذي يقتبس عنه مجلس الشورى اللبناني وبعد تردد عاد ليعلن اختصاصه ببتِّ مرسوم دعوة الهيئات الناخبة وأحياناً يتقاسم الصلاحية فيه مع المجلس الدستوري من دون أي إشكالية، متخذاً منحى يؤكد فيه أن العبرة هي فقط لتشديد الرقابة على أعمال الإدارة بغض النظر عمن يتولى هذه المهمة لدى السلطات القضائية.
فالموضوع ليس تنازع صلاحيات بين سلطتين قضائيتين حول موضوع واحد، بل تأكيد لرقابة قضائية فعالة على أعمال الإدارة لتأمين مبدأ الشرعية...
إن ما تقدم بيانه كفيل بإظهار الهامش الواسع الذي كان يتمتع به مجلس الشورى لحفظ اختصاصه لبتِّ الطعن بمرسوم دعوة الهيئات الناخبة لانتخابات المتن وبيروت الفرعيتين، ولا سيما في ظل غياب أو تغييب المجلس الدستوري، وذلك بهدف التأكيد على حقيقة مفادها أن أعمال الحاكم لا يمكن أن تكون محصنة من الرقابة القضائية مهما علا شأنها أو مهما تعددت المبررات. لكن حقيقة أخرى تأكدت بعد صدور حكم مجلس الشورى هو أن الرابح الوحيد كان ذلك الحاكم، في حين أن الخاسر الأكبر كان مصدر الحكم ومن بعده... القضاء.
* محامٍ لبناني