strong>أرنست خوري *
لقد تزامن توسّع الإمبراطوريات الاستعمارية في القرن التاسع عشر، مع التقدم العلمي الكبير في الطب. وطرحت حينها الإدارات الاستعمارية نظرية أنه ينبغي، لأسباب إنسانية، فرض الطب الغربي المتقدّم على شعوب المستعمرات المتخلّفة التي يرى الغرب أن فقرها وجهلها هما السببان الوحيدان اللذان جعلاها مرتعاً للأمراض، وليس استغلالها ونهب ثرواتها.
وكانت الدوائر الطبية البريطانية، أولى المراكز الاستعمارية التي كانت ترى أنّ دور المملكة المتحدة الأول في الهند، هو «جلب حضارة أرقى إلى هذه البلاد المتخلّفة»، لا بل حتى «خلق الهند خلقاً جديداً». أمّا بالنسبة إلى المبشّر الديني البريطاني، دايفيد ليفنغستون، فإنّ الطب يقدّم طريقاً لإنقاذ إفريقيا من معاناتها، تمهيداً «لجعلها متحضّرة»، ولإعدادها لتقبّل «نعم المسيحية».
وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ المرض كان في العصر الاستعماري، أحد العوامل الرئيسية للتفرقة العنصرية. فكان «طب المناطق الحارّة» يُدَرَّس في الجامعات الغربية، وهو أسبغ شرعية علمية على فكرة أنّ المناطق الحارة هي عالم بدائي في بيئة خطيرة، وشعوبها هي بدائية أيضاً، بينما المناطق ذات المناخ المعتدل، هي آمنة وصحية بيئياً وبشرياً! ولاحقاً، اشتهر اسم الدكتور والتر باسون الذي عمل في ظلّ نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، على تطوير أسلحة كيميائية وبيولوجية بغرض الإعدامات خارج إطار القضاء، وبهذا عُرف اسم هذا العنصري بوصفه أوّل مبتكر لأسلحة «التطهير العرقي».
وبهذه النظريات العنصرية، ذات الصبغة العلمية، مثّل الطب في مرحلة تاريخية معيَّنة، ولا يزال في العديد من الحالات، رمزاً «للكبرياء العرقية» التي لا يمكن إلا اعتبارها من مكوّنات «الإمبريالية الجديدة».
وأصبح الطب في السنوات الختامية للقرن التاسع عشر، برهاناً على قوة الغرب المتفوّق سياسياً وتقنياً وعسكرياً. وعبّر عن إيمان أوروبا بتفوّقها الفطري وسيادتها على الطبيعة. ويقول المؤرّخ دايفيد أرنولد في كتابه «الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية» (ترجمه إلى العربية ووزّعته سلسلة عالم المعرفة)، إنّ الطبّ سجّل تصميم الإمبريالية «على إعادة تنظيم البيئة وإعادة صياغة المجتمعات والاقتصادات المحلية في ضوء أهدافها التوسعية ونظرتها الثقافية للعالم». بالتالي، كان الطب سياسة قائمة بذاتها، لا علاقة لها بالأشعار التي تُكتب اليوم عن رسالة الطب الإنسانية...
ويمكن فهم دور الطب وعلاج الأمراض من وجهة نظر نقدية، عندما نسلّم بحقيقة أنّ الإمبريالية لا تقتصر على مجموعة من الظواهر الاقتصادية والسياسية والعسكرية، فهي تتخطّى ذلك لتكون إيديولوجيا تتجلّى في الفكر والاقتصاد والثقافة والتقنية والعلم والتعليم والأدب والفن والهندسة... وكلّها أبعاد لا يمكن فهمها على الوجه الأكمل إلا في سياقها الثقافي الأوسع، على أن لها تأثيرات عميقة في المجتمعات المسيطَر عليها وكذلك المسيطرة.
من هنا سادت نظرية محورية في الفكر الاستعماري الأوروبي في أواخر القرن التاسع عشر، مفادها أنّ التغلّب على الأمراض في العالم الثالث هو الطريق للسيطرة على هذه المناطق، لجعلها آمنة أمام الأوروبيين. ويُعَدُّ دانيال هيدريك، أحد أبرز المتخصّصين الذين درسوا هذا الموضوع، أنّ الطبّ كان من ضمن رزمة «الأدوات الإمبراطورية» التي مكّنت أو سهّلت اختراق القوى الاستعمارية للعالم غير الأوروبي. ويستشهد على ذلك باستخدام دواء «الكينين» للوقاية من المالاريا في إفريقيا.
وفي السياق نفسه، يقول أوليفر رانسفورد إنّ «الكينين» كان العامل الأساسي الذي أتاح للرجل الأبيض فتح القارة السوداء واستعبادها.
وفيما انتقل المشروع الإمبريالي في نظرته إلى الأدوية، كأداة يجب أن تؤمّن لها مكاناً خالياً من الناس «غير المرغوب فيهم».
وبهذا كان الطب، منذ بداية الاكتشافات العلمية الطبية الكبرى، إيديولوجيا تمثّل رؤية معينة للعلاقات بين البشر، بين الطرف المهيمن فيهم والآخر الخاضع. وبهذا المعنى، يمكن الكلام على المواجهة بين منظومات الطب الغربي والطب المحلي، بالإضافة إلى دور الطب في المقاومة والحروب.
وينقسم العلماء المعاصرون إلى طائفتين، إحداهما ينظر أتباعها إلى الطب الغربي في المستعمرات، لكونه مثّل قمّة العقلانية الإنسانية، ولكونه كان من فوائد الإمبريالية التي لا يمكن إنكارها. وفئة ثانية نظرت إليه كسلاح من بين ترسانة الأسلحة الإيديولوجية للحكم الأجنبي لإطباق هيمنته، حاله كحال الدين، حيث شكّل الاثنان الموقعين البارزين للاتصال بين الغرب من جهة، والشعوب المحلية من جهة أخرى.
وبحسب هذه النظرة الثانية، يصبح الكلام على أن المؤسسات الطبية الغربية، عملت ولا تزال تعمل في فراغ ثقافي، تسخيفاً لحقيقة الأمور.
«الطب العسكري»
كان الطب يُعَدُّ بالنسبة إلى الفكر الاستعماري، إحدى الدعاوى التي تبرّر شرعيته، وأقل هذه الدعاوى إثارة للخلاف. وكان الطبيب الفرنسي هوبير ليوتي، يرى أن الطب العسكري الفرنسي أداة للمساعدة في إرساء السلطان الفرنسي في أفريقيا، لا بل رأى أنّ «العذر الوحيد للاستعمار، هو الطب».
وعكس تدخّل العسكر في الطب، ملمحاً لزيادة أهمية الجيوش في ترسيخ الأنظمة الإمبريالية ودعمها، كما أنه عكس المدى الذي كانت فيه صحّة الجنود أهم بكثير من صحّة المدنيين. وكان الجيش «يحتكر» وحده توفير الرعاية الطبية في الدول المُستَعمَرة، حتى في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى.
وكانت عمليات الجيش الطبية تبدو في أعين المدنيين أمراً لا يختلف إلا قليلاً عن دوره العسكري المألوف. ويعيد أرنولد هذا القرار بإسناد العمليات الطبية في المستعمرات، إلى الجيوش، إلى رغبة سياسية بتذكير السكان المحليين بقوة الإمبريالية وجبروتها.
عولمة المرض
أدخل الأوروبيون مع فتوحاتهم الاستعمارية في القرن التاسع عشر أمراضاً معدية كالجدري والحصبة، وخصوصاً إلى أميركا اللاتينية، التي كانت حتى تلك الفترة، «أراضي عذراء». ويتّفق جميع المؤرّخين على أنّ هذه الأمراض التي لم تكن موجودة عند شعوب المنطقة قبل الاحتلالات الأوروبية، كان لها الدور الرئيسي في إسقاط إمبراطورية الأزتيك والإنكا. وهكذا شكّل الأوروبيون «صلات وبائية» جديدة، إمّا من خلال توصيل أمراض كانت موجودة في أوروبا منذ زمن قديم، أو بربط أجزاء من العالم لم يكن يوجد قبلها روابط، من خلال سكك الحديد والطرق الدولية وتسريع التجارة والهجرة العمالية، والتجنيد العسكري والحروب العالمية... وبهذه الطريقة، تحقّق أوّل مظهر للعولمة، مما يمكن تسميته بـ«عولمة المرض».
هكذا انتقلت الأمراض بسرعة قياسية، فوصل الطاعون مثلاً من هونغ كونغ الصينية عام 1894، إلى بومباي الهندية بعد عامين فقط، وإلى كيب تاون في أفريقيا الجنوبية عام 1900، وكينيا في أفريقيا عام 1902. وانتقلت في ما بعد عدوى العديد من الأمراض انتقالاً مباشراً بواسطة الأوروبيين مباشرة. وكان مرض الزهري (مرض تناسلي) على سبيل المثال، يُعرف في الهند حتى مطلع القرن الماضي، باسم «فرانجي روجا»، أي المرض الأوروبي باللغة الهندية، وكان سبب انتشاره مرتبطاً حصراً بالمخالطة الجنسية مع الأوروبيين.
وكان لآليات النظام الاقتصادي الجديد، الدور الأكبر في انتشار أمراض جديدة في أراضي المستعمرات. فعلى سبيل المثال، إن ما حدث من توسّع في قنوات الري وإنشاء جسور السكك الحديدية، أدّى إلى خلق المأوى النموذجي للبعوض، حامل مرض المالاريا في الهند. ولا حاجة للإشارة إلى دور الظروف الصحية المأساوية التي فرضها رأس المال الأجنبي على العمالة المحلية «الرخيصة» في المصانع، في تطوّر الأمراض المعدية، وظهور الجديد منها.
وكثيراً ما كان الموقف من الطب الغربي أثناء النضالات الآسيوية والإفريقية في سبيل الاستقلال، موقفاً ملتبساً. فنجد من ناحية، أنّ بعض أصحاب النزعة القومية كانوا يتطلّعون إلى إحياء الطب المحلي، لكونه جزءاً من إعادة اكتشاف جذورهم الثقافية الخاصة بهم، ويرفضون وسائل العلاج الغربية الأجنبية. ومن ناحية ثانية، نجد أنّ الأطبّاء المحليين من خرّيجي الجامعات الغربية، كثيراً ما تمكّنوا من الحلول في قيادات حركات الطبقات القومية الوسطى، ممّن يدينون الاستعمار بسبب شحّه في منح العطايا من فوائد الطب الغربي.
وحتّى اليوم، يبقى هذا الانقسام موجوداً بين الذين يطرحون نقداً للرأسمالية من مختلف المدارس الفكرية. فالاقتصادي البنغالي، صاحب جائزة نوبل للاقتصاد عام 1998، أمارتيا سن، لا يخصّص في مؤلّفه الأشهر «التنمية حرية» فصلاً عن الإرهاب الذي تمارسه شركات الصيدلة العالمية، ويقتصر كلامه على «تضبيط عملها» بغية توفير الرعاية الصحية الكاملة لشعوب العالم الثالث، لمساعدتها على تحقيق تنميتها من ضمن النظام الرأسمالي، ومن ضمن آليات السوق، بما أنّ «الوقوف بشكل عام ومطلق ضدّ السوق (آليات السوق الرأسمالي)، لن يقل شذوذاً وغرابة عن الوقوف ضدّ المحادثات بين الناس». (التنمية حرية، ترجمته إلى العربية سلسلة عالم المعرفة عام 2000ـــــ ص13)
بينما يرى المفكّر النيو ـــــ ماركسي، سمير أمين (ما بعد الرأسمالية المتهالكة ـــــ ص 156)، أنّ أكبر تجليات العنصرية العالمية الجديدة تظهر في عمل شركات الصيدلة العالمية والمتعدّدة الجنسيات «التي تريد التمتع بالدخول الحر والحصري إلى السوق العالمية، مانعة إنتاج أدوية أرخص على بلدان الجنوب». ويصبح الحق في الحصول على علاج فعّال محصوراً بشعوب البلدان الغنية، «في حين يُمنع حق الحياة عن شعوب الجنوب».
وهنا يدخل عند أمين موضوع «فكّ الارتباط» مع الشركات العالمية للأدوية من ضمن أسس التنمية الذاتية التي لا يمكن أن تُسمّى «تنمية» (بمفهومها الشامل) إلا حين تقطع نهائياً مع الرأسمالية.
***

مع الثورات العلمية المتلاحقة في النصف الثاني من القرن العشرين، وأبرزها الثورات الطبية والمعلوماتية والرقمية التي جيِّرَتْ واستُغِلَّت في معظم أشكال النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، كان للاكتشافات الطبية، نصيب الأسد. فإلى جانب الاكتشافات الثورية التي وجدت الترياق لأمراض لطالما كانت مستعصية، برزت إشكالية تثمير العلم عموماً، والطب على وجه التحديد، في قلب المشروع الرأسمالي الذي وصل إلى مرحلته الأعلى مع العولمة الشاملة وتسليع مختلف أشكال الحياة الإنسانية.
ولأنّ الرأسمالية قائمة على منطق إلغائي للآخر غير المرغوب فيه، أكان في الاقتصاد أم الحروب أم المشروع السياسي، باتت الأسلحة الدوائية أحد أبرز الأسلحة البيولوجية (من دون الحديث عن الأسلحة النووية التي لا يمكن اقتصار الإشارة اليها عرضاً) التي تستعمل ساحات الحروب مختبراتٍ طبيعية لها. وأمام عجز القانون الدولي عن منع هذا النوع من الأسلحة الحربية التي تفوق فاعليتها قدرات الأسلحة التقليدية بسنوات ضوئية، تبقى شركات الأدوية المتعدّدة الجنسيات، تعمل على اختراعات جديدة، تبقى شعوب العالم الثالث أهدافها المفضّلة في الحرب العالمية الثالثة بين أغنياء شمال الكرة الأرضية وفقراء جنوبها.
بدأت الدراسات عن إمكان تحويل الأدوية، من علاج للأمراض إلى سلاح فتّاك لقتل العدو في الحروب منذ نحو 40 عاماً. وطُبِّقت الاختبارات الأولى على البشر، وكانت حرب فيتنام (1959ـــــ 1975) أكبر «مختبر» طبيعي عرفته البشرية للاختراعات الكيميائية والطبية المُعَدّة للاستعمال في الحروب. وعُرف حينها، نوع فتّاك من الغازات السامة من عائلة الكلور (cs)، أباد الآلاف وشوّه أعداداً من الفيتناميين، ولم يسلم العديد من الجنود الأميركيين من مفاعيلها السامة كذلك.
من جهة ثانية، طوّر الاتحاد السوفياتي برنامجاً متكاملاً من العلاج، أُطلق عليه اسم «بونفاير»، وهو علاج يستهدف تعطيل بعض الوظائف التي تقوم بها هورمونات بشرية للحصول على المعلومات المطلوبة خلال التحقيقات بشكل خاص.
وعرف هذا النوع من «العلاج القاتل» وثبة نوعية على أيدي العلماء الأميركيين الذين وجدوا أنفسهم أمام تحدّي التخلّض من أكبر ممكن من الأعداء الحقيقيين أو المحتملين بشكل «نظيف»، أي من دون ترك آثار لجريمتهم.
وفي تقريرها السنوي لعام 2007، بعنوان «استعمال الأدوية سلاحاً في الحروب»، خلصت الجمعية الطبية البريطانية (ب م أ) إلى أنّ «علم الطب الحربي» واقع لا مفر منه.
وظهرت «العلوم العصبية» لتشكّل ثورة في عالم الطب ولتفتح احتمالات لم تكن منذ عقود سوى خيالية من ناحية تحقيق نتائج سياسية. فأصبح اليوم بفضل هذا النوع من الطب الجديد، إعادة هيكلة الموليكولات القادرة على تعطيل النظام العصبي أو انتظام دقات القلب واقعاً من شأنه تغيير طبيعة العلاقات البشرية الاجتماعية والسياسية منها.
ويرى البعض أنّ مطلع الألفية الثالثة افتتح العصر الذهبي لهذه العلوم الصيدلانية التي تلقّفها السياسي الذي يبقى حتى إشعار أخر، في خدمة الاقتصادي، وبالتالي في خدمة مصالح رأس المال.
غير أنّ هذه الأدوية العصبية، التي يُضاف إليها بشكل منتظم، أنواع جديدة من الاختراعات، لا يقتصر استعمالها الأمني على الأعداء والمعارضين السياسيين فحسب، بل يُستفاد منها أيضاً لتحسين الأداء لدى أفراد الجيوش، كما هو حاصل بالنسبة إلى الجيوش المحتلة للعراق وأفغانستان على سبيل المثال.
وفي هذا السياق، يرى الأستاذ الجامعي البريطاني ستيف رايت، أنّه سيأتي قريباً جداً، اليوم الذي سيكون فيه ممكناً رؤية الجيوش متوجّهة إلى أرض المعركة محمّلة بأدوية ـــــ اختُرعت منذ سنوات قليلة ـــــ تزيد من عدائية الجندي، كما تزيد من قدرته على مقاومة الخوف والتعب، بشكل يفقد معه جزءاً كبيراً من مقوّماته الإنسانية، ليصبح كما يرغب العقل الأميركي الجديد، حيواناً ناطقاً لا يعترض، لا يشعر، لا يخاف ولا يتوجّع، ينفّذ المهمة الموكلة إليه فحسب.
أمّا أحدث الاختراعات الصيدلانية الجاري العمل على تطويرها للاستفادة منها على الجنود تحديداً، فهي تستهدف محواً جزئياً وانتقائياً من الذاكرة، للتخلّص من «الشعور بالذنب».
وهنا يطلق تقرير الجمعية البريطانية إنذاراً بقوله: «رغم أنّ المعاهدات الدولية تحظّر استعمال الأسلحة البيولوجية والكيميائية، فإن بعض الحكومات تزيد باطّراد جنوحها لاستعمال الأدوية أسلحةَ حرب أشد فتكاً بأشواط من الأسلحة التقليدية».
وعلى هذا الصعيد، يُذكَر أنّ لجان الشؤون الخارجية، والدفاع والأمن والسياسات في البرلمان الأوروبي، وضعت عام 1999، مسوّدة لاتفاقية دولية «لمنع كل مشروع بحث علمي أكان عسكرياً أم مدنياً لتطبيق المعارف في آليات عمل الدماغ البشري في الميادين الكيميائية للاستفادة من تلك المعارف في ميادين الأسلحة...».
لكن على الصعيد القانوني، يبقى هناك إشكالية في القانون الدولي العام، لأن معاهدة «الأسلحة الكيميائية» التي دخلت حيّز التنفيذ منذ عام 1997، لا تزال تتضمّن بنوداً (البند 2ـــــ الفقرة د) تسمح باستعمال الأسلحة الكيميائية «في بعض الحالات». وتحدّد هذه الفقرة حالتين على سبيل المثال لا الحصر، هما استعمال هذا السلاح للحفاظ على عقوبة الإعدام بالحقن المميت (وهو منتشر بكثرة في العديد من الولايات المتحدة الأميركية)، والسماح باستعمال الغاز المسيّل للدموع من الشرطة والقوى الأمنية لتفريق التظاهرات.
وينتظر المعارضون لاستعمال هذا السلاح الكيميائي، عقد اجتماعات العام المقبل، ستُخصَّص للتفاوض في تعديل هذه البنود، لأنها إذا لم تُعَدَّل، ستجد المختبرات العالمية الطريق مفتوحاًَ أمامها لتصنيع واختراع المزيد من الأسلحة الطبية.
وجاءت اعتداءات الحادي عشر من أيلول عام 2001، لتضع حدّاً لهذه الإرادة الدولية في السيطرة الديموقراطية على التكنولوجيات الحديثة، وخصوصاً في ميادين الطب والأبحاث العلمية، التي إن أُسيء التصرّف بها، تتحوّل من عامل مساعد لحل مشاكل الإنسان، إلى أداة للقضاء على حريته، أو حتى لقتله.
وهكذا وجد المجمّع الصناعي ـــــ العسكري في الولايات المتحدة خصوصاً، حرّاً من كل القيود، على وقع المعزوفة لعالمية عن «محاربة الإرهاب» واستعمال كل الوسائل للقضاء على «الإسلام الفاشي»...
وراح مسؤولو تلك الشركات الصناعية والطبية يروّجون من خلال بعض وسائل الإعلام الأميركية والغربية عموماً، لأدوية عصبية شرط أن تكون غير قاتلة، ويقتصر مفعولها فقط على إحداث صدمة مؤقّتة عند الهدف البشري. غير أنّ الـ(ب م أ) تؤكّد في تقريرها الأخير، أنّ استعمال الأسلحة الصيدلانية الكيميائية غير القاتلة، هو مستحيل من دون الكلام على قتل معنوي أو رمزي للأهداف البشرية المستهدَفة. كما أنّ هذه التقنيات تقود إلى تزايد الآثار القاتلة للأسلحة التقليدية، بحيث يصبح الأشخاص الذين تعرّضوا لصدمة من الأسلحة الكيميائية غير القاتلة، أكثر ضعفاً تجاه النوع الثاني.
ويستشهد رايت بتقرير هيئة الأبحاث والتكنولوجيا التابعة لمنظّمة حلف شمالي الأطلسي، في اجتماعه الأخير حول نشر الأسلحة غير القاتلة، بممثّل دولة تشيكيا الذي أشاد بـ«الأبحاث والتطوير في تركيبة العقاقير التي يمكن استخدامها بهدف التخدير أو التخفيف من الألم أو لتحسين الحالة النفسية للأهداف خلال الحروب»!
أمّا الاسم الأكثر أرثوذكسية في تبنّي هذه الأنواع من الأدوية غير القاتلة أو حتّى القاتلة منها وتطويرها، فهي الطبيبة التشيكية جيتكا شرايبيروفا، التي تعرض نتائج أبحاثها واختباراتها في ميدان الأسلحة البيولوجية خلال الندوات العلمية منذ عام 2005. وبات لمختبرها الذي يعمل على تحويل طائفة كبيرة من الأدوية المخدّرة المركّبة مع سلسلة من الترياقات الفائقة السرعة إلى أسلحة، شهرة عالمية. ويشير رايت إلى أنّ شرايبيروفا قدّمت، في أيار الماضي في ندوة عالمية في مدينة إتلينغن الألمانية، نتائج تجاربها على قرود، في استخدام مزيج بيطري تقليدي بين الميديتوميدين والكيتامين الذي يؤدّي إلى فقدان العدوانية. وهنّأت نفسها بالقول: «يمكن هذه النتائج أن تُستَخدَم في تهدئة أشخاص عدوانيين خلال هجوم إرهابي، بانتظار إنتاج أسلحة دوائية جديدة غير قاتلة»!
أمّا أحدث الاختراعات الطبية وأخطرها على الإطلاق، فيرى معظم المهتمّين بهذا الشأن، أنها البرنامج المتكامل الذي بدأت وزارة الدفاع الأميركية العمل عليه منذ عام 1994 تحت اسم «سانشاين». ويرى العديد من العلماء أن التجارب على فعالية هذا البرنامج انتهت بنجاح، منذ فترة، وأصبح جاهزاً للاستعمال.
ويقوم هذا الاختراع ـــــ السلاح البيولوجي الذي طُوِّر على نفقة سلاح الجو الأميركي ولحسابه، على مادة كيميائية غير قاتلة، ترميها الطائرات على مناطق يكون فيها جيش العدو متمركزاً، وتثير هذه المادة الكيميائية الهورمونات الجنسية لدى الجنود ـــــ الأعداء، بشكل يجعلهم غير قادرين على القتال.
قد يبدو هذا السيناريو من صنع الخيال الهوليوودي الصرف، لكنّه بات حقيقة لم يتورّع الكشف عنها والاعتراف بها العديد من العلماء وجنرالات الجيش الأميركي. لا بل نجد العشرات من الأطبّاء الأكثر شهرة، يدافعون بشراسة عن هذه الاختراعات الطبية، القاتلة منها وغير القاتلة.
* من أسرة «الأخبار»