فاطمة مزيحم *
لا يمكن النظر إلى خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بكلّ ما حمله من رسائل ودلالات بمعزل عن مغزى الزمان والمكان. أي إن هذا المغزى يجب أن يشكّل المدخل السليم والصحيح لقراءة وفهم الخطاب ومعانيه ورسائله باتجاهاتها المختلفة.
من حيث الزمان، أطلّ السيّد خطيباً ومتحدّثاً وراسماً للرؤى والمواقف في الذكرى السنوية للعدوان الإسرائيلي على لبنان الذي كان هدفه السياسة الداخلية والإقليمية، فاذا بالسيّد يطلّ بعد سنة من العدوان مكرساً في الشكل والمضمون محورية ومركزية الحزب داخلياً وإقليمياً على حدّ سواء.
أما من حيث المكان، فقد أطلّ السيد نصر الله على جمهوره في الضاحية الجنوبية تحديداً وفي أماكن أخرى من لبنان، مكرساً الالتحام والتوحد بين المقاومة وجمهورها العريض. هذا الأمر يمكن تلمّس أهميته عندما تذكر أن أحد أهم أهداف العدوان الإسرائيلي تمثل في خلق شرخ بين الحاضنة البشرية للمقاومة وتعبيراتها وتجلّياتها السياسية والحزبية. وفي السياق أيضاً لا يمكن إغفال أن الذكرى السنوية للعدوان كرست التصاق وتوحّد جمهور المقاومة مع حزب الله وقائده لا في لبنان فقط، بل أيضاً في الشارع العربي والإسلامي الذي رسخت أحداث العام الماضي قناعته بحزب الله كرمز للمقاومة وثقافتها وعنوان للصمود في وجه الخطط والمشاريع المعادية.
السرد السابق لا يشكل أكثر من مدخل لقراءة الرسائل والمواقف التي حملها وتضمّنها خطاب سيد المقاومة والتي يمكن تصنيفها وإدراجها ضمن سياقين رئيسيين: السياق الداخلي المتعلق بالساحة السياسية اللبنانية وخلافاتها وتعقيداتها، والسياق الخارجي الموجّه مباشرة بصراحة ولكن بصلابة لإسرائيل مجتمعاً وقيادة.
في السياق اللبناني، كان سيد المقاومة كعادته صادقاً، مسالماً، متسامحاً، واثقاً، داعياً ومحرضاً على التوافق ومصرّاً ومؤكداً على أن تسوية الحقيقة التي يؤمن بها الحزب والتنازلات التي هو مستعدّ لتقديمها لا تتم إلا مع الأشقاء والإخوة في الوطن والمصير. خلال خطابه الأخير كما كل الخطابات السابقة كان السيد مهجوساً بتوصيل الرسالة الواضحة والقاطعة: المقاومة والصمود والممانعة والصلابة هي باتجاه الخارج فقط، أما باتجاه الداخل فالمقاومة حاضرة وجاهزة للحفاظ على الوحدة الوطنية وتكريس ثقافة التسامح والعيش المشترك.
تختلف نبرة السيد عندما ينتقل إلى مخاطبة العدو الإسرائيلي. تزداد وتيرة الصوت صلابة وتحدّياً وتزداد العبارات وضوحاً وتتمركز كما دائماً الرسالة الأهم: «المقاومة في أتمّ جهوزيّتها وهي حاضرة للتصدي لأي حماقات أو مغامرات إسرائيلية جديدة، مع العلم أن الخطاب الأخير تحديداً رسم ملامح مرحلة جديدة من الردع تجاه إسرائيل، بمعنى أن حرب تموز لم تكرس فقط انهيار قدرة الردع الإسرائيلية، وإنما خلقت في المقابل قدرة ردع المقاومة التي أثبتت نفسها في مواجهة الآلة الحربية الإسرائيلية وأظهرت جيش الاحتلال قابلاً للكسر والردع رغم الترسانة الهائلة التي يمتلكها.
غير أن أهم ما قاله السيد نصر الله في السياق الإسرائيلي يتمثل بإشاراته إلى مفاجأة كبرى ومدوّية كفيلة بحسم أي حرب مقبلة قد تفكر إسرائيل في شنها ضد لبنان. وهذه النقطة تحديداً أسالت حبراً كثيراً في الصحف الإسرائيلية والعربية على حدّ سواء، حيث اجتهد كثيرون لاستشراف وتوقّع المفاجأة التي تحدث عنها السيد. وتراوحت الاجتهادات بين توقّع نوع جديد من الصواريخ وتحييد السلاح النووي الإسرائيلي عبر توجيه ضربة قاصمة لمفاعل ديمونا النووي، غير أن ثمة سيناريو آخر يبدو خيالياً ويتضمن تنفيذ عمليات كوماندوس واسعة ونوعية في أماكن حساسة من العمق الأمني الإسرائيلي تعقب موجة من القصف الشديد والكثيف والمركّز للمساحة الممتدة من تل أبيب جنوباً حتى الحدود اللبنانية شمالاً، وهي التي تتضمن العصب المركزي للاقتصاد الإسرائيلي في أبعاده وتفرعاته المختلفة الصناعية والزراعية والسياحية. وهذا السيناريو كفيل بضعضعة وانهيار الأسس التي استندت عليها وما زالت العقيدة العسكرية الإسرائيلية التقليدية والمتمثلة بحرب خاطفة وسريعة على أرض العدو بعيداً عن العمق الأمني أو الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
وفي المحصّلة وبنظرة شاملة وعامة، يمكن القول إن خطاب السيد كرّس مدى فشل العدوان الإسرائيلي في خلق ما يسمى محور المعتدلين في المنطقة عبر إضعاف وتدمير محور الممانعة والمقاومة، وفي المركز منه حزب الله. خطاب السيد، كما أحداث العام المنصرم، أكدت تقدم هذا المحور المستمر والتواصل مقابل تراجع وانكفاء المحور المضاد.
* إعلاميّة لبنانيّة