strong>يسار أيوب *
بعيد اغتيال بيار أمين الجميل، نشرت إحدى الصحف العربية الصادرة في أميركا خبراً عن إجراءات أمنية في محيط المخيمات الفلسطينية بحثاً عن سيارة مشتبه بدور محوري لها في عملية الاغتيال. في الوقت نفسه، تناول التصريح الأول للوزير أحمد فتفت وزير الداخلية بالوكالة حينها، عبر إذاعة الشرق بعد الاغتيال بيوم واحد، موضوع «الجزر الأمنية» التي تمثلها القواعد والمخيمات الفلسطينية والتي لا تستطيع السلطة اللبنانية ممثلة بجيشها وأجهزتها الأمنية دخولها.
وكان التقرير الأول للجنة التحقيق الدولية في اغتيال رفيق الحريري، أيام ميليس، قد تحدث عن علاقة تجمع «جميل السيد» بعناصر من الجبهة الشعبية ـــــ القيادة العامة (أحمد جبريل). وما صدر قبل اغتيال الجميل من وصف وليد جنبلاط لسلاح المقاومة بأنه سلاح الغدر والخيانة ومن ثم تصحيح هذا التصريح بأنه لا يقصد سلاح حزب الله بل سلاح الفلسطينيين وتحديداً تنظيم القيادة العامة. وقبله أُدرج موضوع السلاح الفلسطيني على جدول أعمال مؤتمر الحوار اللبناني.
كلّ ذلك وسواه مما يشير إلى إمكانية الزجّ دوماً بالموضوع الفلسطيني في أي توتر في الساحة اللبنانية، وما الموضوع المتكرر والمتردد دوماً في جنبات قصر بعبدا وفي تصريحات ساكنه عن مخاوف من مخطط توطين الفلسطينيين سوى إدراج آخر للموضوع الفلسطيني وإن بطريقة «الخطف خلفاً».
إن العامل الفلسطيني في لبنان هو عامل موضوعي بامتياز، وإن حاول الفلسطينيون أنفسهم الابتعاد عن تعقيدات المشهد الداخلي اللبناني بما فيه من خيوط متشابكة ومعقدة، ذلك أن الفلسطيني أولاً موجود في مخيمات ومواقع عسكرية «عصية» على السلطة اللبنانية. وثانياً ضعف المركزة في الشارع الفلسطيني في لبنان يجعل منه مكملاً للشارع اللبناني نفسه. وثالثاً إن القضية الفلسطينية والموقف منها يمثل عاملاً مهماً في الفرز السياسي الحاصل في لبنان (وهو ما دعا جنبلاط للتوضيح أن حزبه لا يدعو لتدمير اسرائيل بل لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية). ورابعاً إن اعتبار الفلسطينيين هم الميليشيا المسلحة غير اللبنانية على أرض لبنان يجعل منهم موضوعاً يسعى البعض إلى الانقضاض عليه، والبعض إلى تحييده، والآخرون إلى دعمه. وأخيراً، تتوزّع العلاقات الفلسطينية على المحاور الإقليمية والدولية المختلفة عينها التي ترتبط بها القوى اللبنانية. كل ذلك يجعل من المشهد الفلسطيني على الساحة اللبنانية مجرد مشهد موازٍ ومشابه للمشهد اللبناني الأصلي، ومتقاطعاً معه في نقاط كثيرة.
من جهة الحزب
تميّز حزب الله بمقاربة الموضوع الفلسطيني مقاربة خاصة ومختلفة، حيث تمتع بخصائص ميّزته عن بقية القوى اللبنانية سواء الموالية أو المعارضة في هذا الموضوع. فحزب الله ينظر إلى القوى الفلسطينية بشكل عام، وتلك الموجودة على الساحة اللبنانية بشكل خاص، انطلاقاً من مفهوم هذه القوى لمسألة الكفاح المسلح والجهاد ببعديه الديني والدنيوي (وبالتالي فهو يرتبط بعلاقات وثيقة مع قوى فلسطينية إسلامية وعلمانية). وتؤدي علاقات هذه القوى الفلسطينية نفسها مع كل من إيران وسوريا دوراً أساسياً محدداً لعلاقاتها بالحزب. وأيضاً يقف الحزب متميزاً لكونه الوحيد بين القوى اللبنانية الكبرى الذي لم يدخل في معارك ضد الفلسطينيين أو معهم ضد لبنانيين آخرين، وبالتالي فهو يعتقد بامتلاكه الحق بمقاربة الموضوع الفلسطيني بنظرة حيادية على أساس ثوابته الوطنية والإسلامية. أضف إلى ذلك الشراكة الحقيقية التي جمعته مع بعض القوى الفلسطينية خلال سنوات تحرير الجنوب (1983ـ 2000)، والتي سمحت، ضمن توافق سوري فلسطيني لبناني تبلور بعد اتفاق الطائف، للقوى الفلسطينية بالتحرك العسكري في الجنوب تحت راية المقاومة الإسلامية في لبنان، والقيام بعمليات تحت علم حزب الله، وسمحت للحزب نفسه بالاستفادة من الخبرة والمجهود الفلسطيني في الجنوب، وبالتالي نشأت شراكة قتالية ضد العدو المشترك بنظر الجهتين.
ويبقى المحدد الأساس في رؤية حزب الله للقضية الفلسطينية هو امتلاكه مقاربة عقائدية تستلهم النظرة الخمينية للقدس وفلسطين باعتبارها أرض الرباط، وقبلة أولى للجهاد ضمن رؤية كاملة لمفهوم الجهاد في الإسلام يعتمد على أنه فرض عين حين تتهدد ديار الإسلام. ويأتي الاحتفال السنوي الضخم لحزب الله في مناسبة يوم القدس العالمي في الجمعة الأخيرة من رمضان (الذي أعلنه الخميني ولا يحتفل به سوى إيران وحزب الله والفصائل الفلسطينية التي لها علاقة، أو تطمح إلى علاقة، مع إيران) تجسيداً لهذه النظرة.
من الجهة الفلسطينيّة
ومن جهة الفلسطينيين بشكل عام، تؤدي هذه العوامل نفسها دوراً حاسماً في النظرة إلى حزب الله. فهو الحزب الذي لم يشترك بحصار المخيمات، ولم يذبح الفلسطينيين لفلسطينيّتهم، ولم ينسَ مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في مجال مساعداته ومشاريعه الاجتماعية، والأهم من ذلك أنه القوة العربية الوحيدة التي حولت تضامنها مع الشعب الفلسطيني في الداخل إلى عمل دؤوب على مدّهم بما يستطيع من سلاح ومال، بل وقام مرتين بعمليات أسر لجنود صهاينة (في واحد من أهداف هاتين العمليتين) تخفيفاً للضغط الاسرائيلي على الداخل الفلسطيني، ما أعطى الفلسطينيين انطباعاً أن حزب الله هو الوحيد الذي يمارس عسكرياً تضامنه مع الشعب الفلسطيني. وبذلك كان لهم حظهم الأكيد من ارتفاع شعبية حزب الله وأمينه العام السيد حسن نصر الله في العالمين العربي والإسلامي، وخصوصاً بعد حرب تموز الأخيرة في العام الماضي. وشاهدنا تزايداً في أعلام الحزب المرفوعة في تظاهرات الداخل الفلسطيني، حتى وصل الأمر بأمٍّ فلسطينية إلى اعتبار «أبو الهادي زعيم الأمة العربية والإسلامية». وفي السياق نفسه جاء تصريح السيد هاني الحسن، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، من رام الله في أيام الحرب، بأن «كل ما يطلبه منا نصر الله سننفذه».
أما على صعيد القوى السياسية الفلسطينية في لبنان، فنلاحظ اختلافاً في الموقف من حزب الله ومشروعه. تقف القيادة العامة وفتح الانتفاضة والقوى الأخرى المرتبطة بسوريا (والمتحالفة معها) موقفاً مؤيداً لحزب الله، وهو ما كان قائماً من تنسيق حقيقي قبل الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب، وخصوصاً بين القيادة العامة والحزب، وتحديداً قبل اغتيال جهاد جبريل المسؤول العسكري في القيادة العامة. وارتفع مستوى التنسيق كثيراً بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي من جهة وحزب الله من جهة أخرى على الساحة اللبنانية وعلى ساحة الأرض المحتلة.
غير أن فصائل أخرى كفتح تقف موقفاً حذراً من حزب الله ومشروعه ذي الصبغة الإسلامية المتجاوز لحدود لبنان نحو جنوبه، أي نحو فلسطين التي تشهد تنافساً بين التيارين الإسلامي (الممثل بحماس) والوطني (الممثل بفتح). فترى «فتح» في حزب الله «حماساً» أخرى. وعلى هذا، نجد أن لقاءات الفريق الفلسطيني الأول تتوقف عند حزب الله والمعارضة بشكل عام، فيما الفريق الثاني يحاول الالتقاء بكل الأطراف (تقريباً) على قدم المساواة، بالطبع مع وجود استثناءات نابعة من الخريطة السياسية اللبنانية المعقدة (خرق عباس زكي ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان هذه الاستثناءات بلقائه سمير جعجع قائد القوات اللبنانية). وفتح، مثلاً، التي ترتبط بعلاقات مميزة مع تيارات في المعارضة اللبنانية، تحاول في الوقت نفسه الابتعاد عن حزب الله، وتحاول فرض نظرتها هذه على فصائل منظمة التحرير باعتبار أن الفلسطينيين ضيوف في لبنان يقفون في منتصف المسافات بين الأطراف اللبنانية المختلفة.
يتفق الفلسطينيون، نظرياً، على ضرورة ابتعادهم عن تفاصيل المشهد اللبناني، ويختلفون حول مقاربة المشهد بشكل كامل. يستتبع ذلك اختلافاً يجسّده اختلاف المرجعية الفلسطينية في لبنان. ففي حين أنّه، وحتى هذا اليوم، لا تعترف قوى فلسطينية قريبة من حزب الله بتمثيل عباس زكي للفلسطينيين جميعاً في لبنان، نجد تشديدات من فصائل منظمة التحرير على هذا الاعتراف، وإن اختلفت المواقف في ما بينها من ضرورة المشاركة في وضع أسس العمل الفلسطيني في لبنان بين مطالب بتوسيعه ليشمل فصائل العمل الوطني كافة، ومن يحصره نظرياً في فصائل منظمة التحرير وعملياً بقيادة فتح على الساحة اللبنانية. ويبدو هذا نابعاً من نظرة الفصائل الفلسطينية المختلفة إلى منظمة التحرير واختلافهم عليها.
اختلافات على الساحة اللبنانية
إن اختلاف الفلسطينيين حول المشهد اللبناني نابع بالأساس من عاملين: اختلافهم في الشأن الفلسطيني نفسه، واختلافهم في الشأن العربي، حيث إن اختلاف مواقفهم من وسائل المقاومة، والعملية السلمية، والعلاقات الداخلية الفلسطينية، والبنى الفلسطينية نفسها، استدرجت إيجاد حلفاء لبنانيين يتمتعون بالنظرة نفسها في اتجاه جنوب الجنوب. فحزب الله الذي لا يقيم وزناً لأية مفاوضات واتفاقات بين الفلسطينيين واسرائيل، يجد نفسه أقرب إلى الفصائل الفلسطينية التي تتمتع بالنظرة عينها منه إلى الفصائل الأخرى، ويشكل حليفاً موضوعياً للفصائل التي لا تؤمن بالعملية السلمية مثله، وإن كان ينظر بتقدير أكبر إلى الفصائل التي تشاركه الأيديولوجيا الإسلامية الثورية وتمارس المقاومة المسلحة لوحدها (باستثناءات قليلة). وبذلك يجد الفلسطينيون المتحالفون مع «المحور السوري الإيراني» أنفسهم أقرب إلى حزب الله من القوى الأخرى على الساحة اللبنانية. أما الفصائل الأخرى التي تأخذ مسافة من هذا المحور، أو تتمتع بعلاقات مع محاور أخرى، ليست بهذا القرب من الحزب وفكره (وهنا يمكن استحضار تصريح لسلطان أبو العينين يدعو فيه الفلسطينيين الى الاعتماد على الذات لأنه لن يفيدهم «لا حزب الله ولا حزب الشيطان»)، كل هذا جعل من الفلسطينيين بعداً محتملاً في الصراع الدائر لبنانياً، شاؤوا أو أبوا. وقد وجد هذا الاحتمال ترجمته في تصريحات أركان الغالبية اللبنانية بارتباط مجموعات «فتح الإسلام» المتمركزة في مخيم نهر البارد بالاستخبارات السورية، وتورطهم بتفجيري عين علق واغتيال الجميل، مع العلم بأن السوريين أنفسهم كانوا قد أخضعوا أبا خالد العملة (نائب قائد فتح الانتفاضة) مع معاونه يوسف شديد للتحقيق، ومن ثم اعتقلوه لفترة بسيطة نتيجة علاقته بهذه المجموعة نفسها، وبعد ذلك فرضوا عليه شبه إقامة جبرية في منزله ومنعوه من ممارسة العمل السياسي والإعلامي من دمشق. غير أن مجموعات المعارضة وقيادة الجيش اللبناني اختلفت مع الغالبية في ذلك حين تناولت هذا الموضوع من زاوية أخرى. فقد تطرّقت الى «عصابة فتح الإسلام» ذات الأيديولوجيا «القاعدية» من دون الحديث عن جزر أمنية ومخيمات وتوطين فلسطيني وارتباط مع الاستخبارات السورية وإلى ما هنالك.
العامل الفلسطيني في لبنان هو عامل محقق، بمعنى أن تجاهله تماماً لا يفيد العلاقات اللبنانية الفلسطينية، وبالمقابل، فإنّ تحميله أكثر ممّا يحتمل يصبّ هو الآخر في خانة الإضرار بهذه العلاقات. ويبقى السؤال كيف يمكن إدارة هذه العلاقات من الطرفين اللذين يشهدان، كل بدوره، انقساماً حاداً؟ إلى الآن يمكن القول إنّ السلطة اللبنانية تتمتع بعلاقات جيدة مع مؤسسة الرئاسة الفلسطينية، ومع الفصائل الأخرى التي توالي مؤسسة الرئاسة، في حين تتمتع المعارضة اللبنانية، وحزب الله خصوصاً، بعلاقات مع القوى الفلسطينية المعارضة للرئاسة. وهو ما يجعل من المشهدين الفلسطيني واللبناني مشهدين متكاملين تماماً يمكن اختصارهما بـ«معارضة مع معارضة وسلطة مع سلطة».
* باحث فلسطيني