سهيلة سماحة
بعد ستّة أشهر على غياب جوزف سماحة، وجّهت زوجته سهيلة رسالة إلى روحه، ننشر هنا مقتطفات منها:
ستّة أشهر مرّت ولم نقرأ لك من جديد. لقد اشتقنا إليك، أنا وأميّة وزياد، كشوق الظامئ إلى الماء، ولا يقدّر حزننا بحزن. سنفتقدك كثيراً ولن نعتاد رحيلك عن هذا العالم.
يوم السبت في 24 شباط قبل ستة أشهر، في التاسعة والنصف مساء، حين سمعت صوتك الدافئ والهادئ للمرة الأخيرة، كان هادئاً أكثر من العادة. وقد أخبرتني ما حصل للصديقة مي في لندن، فطلبت منك أن تعطيني حازم لأكلّمه. فقلت لي «إنّه بعيد عنّي الآن، غداً غداً سأدعه يكلّمك». كررت الجملة مرّتين. لم أرتح في تلك الليلة ولم أنم جيّداً، واستيقظت باكراً وجرّبت البقاء في الفراش كعادتي كل صباح أحد. لكن الفراش لم يعد يطيقني، لم أكن مرتاحة، فنهضت وصلّيت كالعادة في كلّ يوم مع الدعاء لنا ولك، وبعدها أمضيت الصباح وأنا أفكّر في ما قلته لي مساءً، وجلست أنتظر مكالمة حازم.
في الساعة 12 ظهراً فتحت التلفزيون على «الجزيرة»، وإذا بنظري يقع على أوّل جملة في آخر الشاشة: «توفي الصحافي جوزف سماحة بسكتة قلبيّة». نزل الخبر عليّ نزول الصاعقة، وصرخت: جوزف... جوزف... صرخة أفحمت قلبي وكتمت صدري وشلّت أطرافي، وقعدت على الأرض مذهولة أحدق بشاشة التلفزيون لعلّ الخبر خطأ، ولا أريد أن أصدّق. فاتصلت بابننا زياد، ولدى سماعه صوتي أجابني قبل أن أسأله وبصوت خافت مذهول: «لقد عرفت، لقد اتّصل بي حازم للتوّ». فاتصلت بحازم حالاً وردّت سيّدة فقلت لها بصوت مخنوق «سهيلة، أريد حازم». وعندما التقط حازم الهاتف قال لي مباشرة «العوض بسلامتك، إنت بدّك تعزّيني وأنا أيضاً بعزيكي، انتبهي لنفسك». فسألته ماذا حصل، فأخبرني. وعدت واتصلت بابننا زياد وقلت له: «اذهب الى لندن فوراً واتصل بي عند وصولك». وفي الوقت نفسه، كنت أفكّر في ابنتي أميّة فاتصلت بها في بيروت من دون جواب، ففهمت أن حالها مثل حالنا، مذهولة، ضائعة. وعندما اتّصل بي زياد مساءً، قال لي إنّ هناك من يساعده أيضاً من «أسرة الأخبار»، وإنّ إنجاز الإجراءات سيستغرق عدّة أيام، وطلب منّي الانتظار ليخبرني ما يحصل معه. فقلت له «سأكون في الانتظار مع أميّة ببيروت»، ولغاية اليوم أشعر بالألم يعصر قلبي لأنّني حمّلت ابننا هذه المسؤوليّة المؤلمة.
وعندما اختلينا بك في قاعة الكنيسة، ليلة وصولك المهيب من لندن، لم نستطع الصراخ والبكاء. فأحطنا بك وأردنا أن نغمرك بكل ما بقي لدينا من قوّة غير مصدّقين ما حصل لنا، فالتقطنا أنفاسنا وصلّينا لك. بعدها قال زياد ليخفف عنّا، اطمئنّوا، اطمئني يا أمّي، اطمئني يا أختي، إنّه لم يتعذّب. لقد رأيته بأمّ عيني في لندن، وكان وجهه يبدو وكأنّه نائم مرتاح وعلى فمه ابتسامة. ولكنّنا أنا وابنتنا أميّة لم نرك مثله ولم ندرك جميعنا رحيلك المفاجئ حتّى الآن... على رغم أنّ الموت حقّ...
وجودك كان ضرورة وحاجة ماسّة، لا لعائلتك فحسب، بل وللآخرين أيضاً، ولذلك لا أعجب عندما أسمع جميع من حولي يقولون: كنت خسارة للبنان والعالم العربي. ولن أبالغ بالقول، ولكن من يملك مثلك ملكة المرونة الفكريّة والعقليّة والسعة السياسيّة والموسوعة الثقافيّة يكون ظاهرةً تُدرس، لأنه يكون ظاهرة لا تُخلق إلا مرّة كلّ مدة من الزمن...
عندما ننظر الى أولادنا تقول لي ونحن فخورون بهم، فعلاً لقد فعلنا شيئاً في حياتنا. وأؤكّد لك أنّ لهم كثيراً من صفاتك. وعندما أسست جريدة «الأخبار» واعتبرتها أحد أولادنا، كم كنت فخورة بك، وقد وضعت كلّ ما في عروقك من زخم فيها حتّى تعب قلبك ولم يعد يحتمل مشاكل لبنان والمنطقة العربيّة، فرحلت بهدوء شهيداً للبنان والعروبة، تاركاً إرثاً ما بعده إرث لأجيال من الشباب الذين يعتبرونك والدهم الروحي. وأنا على ثقة بأنّهم سيتابعون مسيرتك الخالدة.
أودّ أن أوجّه شكري واحترامي لأسرة «الأخبار» وأسرة «السفير»، وأيضاً الى جميع من شاركونا أحزاننا وأحاطونا بمحبّتهم.
إنّني أنحني بإجلال أمام روحك الطاهرة، ولعلّ ما يعزّيني هو أنّك فقدت الروح بهدوء، وعلى ثغرك ابتسامة ملكيّة.