إسكندر منصور *
لا شكّ في أنّ كثرة المقالات والتحاليل والقراءات ووجهات النظر حول انتخابات المتن جعلت من هذا الحدث «نصاً مفتوحاً» على كل احتمالات التفسير والتأويل في السياسة والثقافة. نحن إذاً أمام «نص متني» أو «خطاب متني» مميّز في صيغته وأسلوبه، وفيه المسكوت عنه يفوق المنطوق به من حيث عمقه ودلالته وتأثيره ورسائله الموجّهة تارة إلى الخصم وتارة أخرى إلى الحليف. لم يبقَ بعدٌ من أبعاد الأزمة اللبنانيّة بماضيها وحاضرها ومستقبلها إلا كان حاضراً. الجميع كانوا في حالة استنفار في معركة «مصيريّة». تعابير ومفاهيم حسبناها أنها في كتب التاريخ، استُعيدت بكلّ حيويّتها ودلالاتها. هل هي معركة المسيحيّين ضدّ التهميش الذي عرف بفترة من الفترات بالإحباط، والانطلاق نحو استعادة ملك مفقود، أم هي صرخة الاحتضار الأخيرة؟
بعد اتّفاق الطائف مباشرةً، دخل المسيحيّون، أو للدقّة مسيحيّو المعارضة للسوريين، عهد ما عرف بالإحباط الذي ترجم إلى عزوف عن المشاركة السياسيّة، وخصوصاً في الانتخابات الأولى التي جرت بعد الطائف. في أثناء هذه المرحلة، شاع تعبير الإحباط لوصف الحالة المسيحيّة وعلاقتها بما كان يجري من أحداث سياسيّة بما فيها الترجمة الجديدة لاتفاق الطائف حسب القاموس الحريري. فبالإضافة إلى ما جاء في اتفاق الطائف في ما يخص صلاحيات رئيس الجمهوريّة، حيث أصبحت السلطة الإجرائيّة في يد مجلس الوزراء، كان لشخصيّة رفيق الحريري، وخاصة ببعدها الاقتصادي وعلاقاته العربيّة والدوليّة، دور فاعل ومؤثّر في إبراز (غير مقصود) اتفاق الطائف على أنه ضربة موجعة للمسيحيين ودورهم الراهن والمستقبلي في لبنان. فبوجود الرئيس رفيق الحريري، كان دور رئيس الجمهوريّة وحضوره، وخاصة الرئيس الياس الهراوي، على الصعيدين الداخلي والخارجي في الصفّ الثاني.
طبعاً لم تكن مفردة «التهميش» شائعة قبلاً، وخاصة في ما يسمّى «الخطاب المسيحي». الوطن كان وطنهم، أُنشئ من أجلهم، ومجده أعطي لبطريركهم. ليس هناك شريك ولا شراكة، بل ملحقون وتابعون. أليست الأقضية الأربعة ملحقة بلبنان الصغير «الأساس»؟ ومن يمثّل الأقضية الملحقة لا يكون إلا ملحقاً، وليس شريكاً. التهميش لم يكن من مفردات «الخطاب المسيحيّ» قبل الحرب الأهليّة وخلالها، حتى اتفاق الطائف. كان الخطاب يدور آنذاك حول الفرادة، الصيغة والكيان والعلاقة الحميمة بينهما. كان يقال إنّ مريم العذراء تحمي لبنان، وإنّ المسيحي اللبناني هو اللبناني القحّ، وإنّ جميع المطربين والفنانين هم مسيحيّون (فيروز وصباح ووديع، وحتى نصري شمس الدين كنت أظن أنه مسيحي لكونه كان يلبس لبّادة وشروالاً في مسرحيّات الأخوين رحباني). كان المسيحيّون فخورين بموقعهم ودورهم وريادتهم ولبنانيتهم. كانوا مطمئنّين.
جاء «الخطاب المتني» ليعبّر عن غضب دفين في الاتجاه الخطأ. كان خطاباً يساوره قلق ما وأعطاه تعبير «أسلمة لبنان»، على لسان أحد قدّيسي المستقبل، دفعاً وتهويشاً في كل اتّجاه، وضم الذين يعتبرون أن دوراً فاعلاً لمسيحيّي لبنان قد أصبح ضرورة، لا فقط من أجل المساهمة في استقرار البلاد ونهضتها ومستقبلها، ومن دون تضخيم للأدوار، بل من أجل المساهمة في إنقاذ عروبة حضاريّة أخلصوا لها في بداية عصر النهضة، وتحتضر من كثرة الفتاوى.
الكل نال نصيبه من خلال الخطاب المتني. الأرمني أصبح «طارئاً» وغير لبناني. مسيحيو التيار الوطني الحر أصبحوا أقرب إلى قمّ والضاحية، ومَن يقرب من الضاحية ليس بلبناني حقيقي. مسيحيّو 14 آذار أصبحوا مسؤولين عن تهميش مركز رئاسة الجمهورية، وبالطبع شهداء مسيرة الاستقلال الثاني اقتُصروا على المسيحيين من دون المسلمين. ولم نسمع فرضيّة متماسكة عن تهميش المسيحيين وانحسار دورهم الفاعل في الحياة الاقتصادية والثقافيّة والسياسيّة والنقابيّة والاجتماعيّة. سمير جعجع يحدد التهميش بتغيير قائد الحرس الجمهوري من قائد كان ينتمي إلى الطائفة المارونيّة إلى قائد ينتمي إلى طائفة إسلاميّة. أما الجنرال ميشال عون، فالتهميش بالنسبة إليه كان قد ترجم بالاستغناء عن توقيع رئيس الجمهوريّة لبعض المراسيم.
الحضور المؤثّر والدور الفاعل لا يتحدّدان بصلاحيّات فرد أو مركز سياسي، مهما علا شأنه. أن يقتصر الدور المسيحي على صلاحيّات رئيس الجمهوريّة لهو انتقاص صارخ من فاعليّة وحضور وتضحيات الآلاف من المثقّفين والفنانين والكتّاب وجميع المنتجين والمنتجات في جميع الحقول. هل في غياب الزعيم الأوحد عند المسيحيين علامة ضعف وتهميش ودور في طريقه إلى الأفول؟ إذا كان بعد الطائف لا يحق لرئيس الجمهوريّة تعيين رئيس الوزراء من دون استشارات ملزمة، فهل يعني ذلك أن المسيحيين مهمشون؟ إذا انتقلت بعض صلاحيّات رئيس الجمهوريّة إلى مجلس الوزراء المكوّن بالمناصفة، فهل هذا تهميش للمسيحيين؟ هل إبقاء وظائف الفئة الأولى مناصفة بين المسيحيين والمسلمين تهميش للمسيحيين؟
هناك شعور عند المسيحيين بالخوف من المستقبل، باللاطمأنينة، بعدم الارتياح، بالقلق من الجديد والمتغيّرات الجديدة. حال المسيحي تقول: انظر ما حل بنا في بلاد الشام، فبعدما كان المسيحيون الأكثريّة أصبحوا أقليّة. وفي لبنان، بعدما كنّا الأكثريّة المهيمنة أصبحنا الأقليّة المساوية للأكثرية. والمساواة تعتبر تهميشاً بالنسبة إلى من كان في الموقع المهيمن.
هل نحن حقاً أمام ظاهرة «تهميش» أم «تهويش»؟ لست من عشاق السجع، ولكن نحن أمام كلمتين لكل منهما دلالة مختلفة. فإن كان النص العوني والنص الكتائبي بصيغته الجميّليّة من مكونات «النص المتني»، وهذا صحيح، فنحن أمام ظاهرة تهويش أكثر منها ظاهرة تهميش. هذا ما بدا واضحاً للقارئ والمشاهد والمتابع لانتخابات المتن الأخيرة.
فاللبنانيّون كلّهم مهمّشون. هل اللبنانيّون مستشارون في كل ما يجري في وطنهم؟ هل حقاً أن المسيحيين وحدهم مهمّشون؟ أم اللبنانيين، كل اللبنانيين، مهمّشون. عندما كنت أتابع أخبار التظاهرات في لبنان، اعترتني مسحة تساؤل عن طبيعة ما يجري. هل تظاهرة المليون أو المليونين في بلد لا يتجاوز سكانه الأربعة ملايين دليل انخراط فاعل وواعٍ في النشاط السياسي أم له دلالة أخرى؟ إنّها دلالة تهميش للّبنانيّين، للفرد اللبناني، لدوره في أن يكون مواطناً حراً، ناقداً، معانداً، موافقاً أحياناً ورافضاً أكثر الأحيان. إنّها صورة وعلامة اختزال دور المواطن في الطائفة والزعيم والرئيس والأمين العام وقائد العشيرة والعائلة
والحزب.
من أراد الانتصار على التهميش، فما عليه إلا الانخراط والتفاعل والإقدام والمبادرة والمشاركة. وقبل ذلك كلّه، عليه أن يكون مواطناً، أي أن يخلع ثوب الطائفيّة المهمِّش الأوّل.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتّحدة الأميركيّة