أدونيس العكره *
في مساء 17 كانون الأول من عام 2000، عقد لقاء في منزل مسؤول لبناني كبير، حضره أحد وزراء الحكومة التي كانت قائمة آنذاك، بالإضافة إلى موظف كبير برتبة أمين عام وبعض المقرّبين البارزين. وفي معرض تقويم الأوضاع العامة، أوضح المسؤول الكبير أنّه لا يرى إمكانية الهروب من التوطين، وأن مصلحة البلاد هي في مزيد من الاستدانة لأنّ جميع الديون ستمحى عندما سيفرض واقع التوطين الفلسطيني على لبنان.
وعلى هذا الإيقاع نفسه، لم يكفّ المسؤولون الإسرائيليون عن إعلان امتناعهم عن تطبيق القرار الدولي رقم 194 الصادر عن مجلس الأمن، وعن رفضهم حق العودة للّاجئين الفلسطينيين، بالوضوح الذي طالب به أرييل شارون الفلسطينيين بتنازلهم عن هذا الحق شرطاً لتطبيق خريطة الطريق الصادرة في 30 نيسان 2003، وكذلك في مقال الرئيس شيمون بيريز الصادر في جريدة الفيغارو الفرنسية بتاريخ 14 حزيران 2007، والذي يقول فيه بأن حق العودة يعني زوال دولة إسرائيل.
في 6 شباط 2006، صدرت وثيقة التفاهم بين التيار الوطني الحرّ وحزب الله كمسوّدة لمشروع اتفاق بين اللبنانيين كافة من شأنه أن يزيل غيوماً دكناء كانت قد بدأت تباشيرها توحي بنزاعات طائفية تفكّك البلد، وأن يرسم آلية سلمية تضع سلاح حزب الله بتصرّف الدولة اللبنانية وتحت إمرة مؤسّساتها الدستورية وأجهزتها والعسكرية، وأن يضع أسساً راسخة للوفاق الداخلي يمكّن الأطراف السياسية اللبنانية كافة من العمل معاً على بناء الدولة القوية والعادلة. غير أن قوى الأكثرية النيابية بقيادة النائب سعد الحريري رفضت وثيقة التفاهم جملة وتفصيلاً وامتنعت عن الخوض في مناقشتها. وهنا نطرح الـ«لماذا؟» الأولى.
في أواسط آذار 2006، تمّ التوافق على طاولة الحوار على عدد مهمّ من القضايا الأساسية، ومنها مزارع شبعا، والحدود مع سوريا، والتبادل الدبلوماسي معها. وكُلّف الرئيس فؤاد السنيورة بالتفاوض مع دمشق حول السبل الآيلة الى تنفيذ تلك البنود. ولكن المهمة بدت مستحيلة بعد مرور الأسابيع العديدة على التكليف. فبادر العماد ميشال عون إلى تقديم اقتراح لفت إليه المراجع الدبلوماسية العربية والأجنبية كافة، ومفاده أن يذهب جميع أطراف الحوار، بمن فيهم العماد عون والسيد حسن نصر الله شخصياً، وبرئاسة دولة الرئيس السنيورة، إلى سوريا لمفاوضتها في الموضوع. فإذا نجح اللقاء وأثمر، كان النجاح للجميع وللدولة اللبنانية أولاً. وإذا فشل، فلن يعود هناك من سبب لأن يقف أحد ضدّ الحكومة ورئيسها. وفي كلتا الحالتين ستكون النتيجة انتصاراً للرئيس السنيورة ولخطه السياسي. ولكن رئيس الحكومة وتياره السياسي رفضا تلك المبادرة. نطرح هنا الـ«لماذا؟» الثانية.
وبعد حرب تموز 2006 واستقالة عدد من الوزراء في الحكومة، وبعدما بدأ اعتصام المعارضة في بيروت وتعرّض مناصروها لأعمال العنف المتكررة ما بدا كأنه خطة للدفع الى شفير الفتنة الداخلية، ولا سيما بعد سقوط عدد من الضحايا بين صفوف المعتصمين، وما تبع ذلك من اعتداءات سافرة في 23 و24 كانون الثاني 2007 بحيث أدت الى شيوع جوّ من التوتر والاضطراب وتهديد للسلام الأهلي... بعد كل ذلك، طرحت المعارضة بلسان العماد عون مشروع قيام حكومة إنقاذ وطني، يشارك فيها الجميع في تحمّل مسؤولية ما سيواجه البلد من مخاطر داخلية وخارجية، ويكون من مهماتها الحفاظ على أمن المجتمع والدولة، وقيادة الحياة العامة بمسؤولية جماعية متضامنة الى الاستحقاقات الدستورية والاقتصادية والاجتماعية الأساسية بما يحول دون الانقسامات الحادة والمؤدية الى تفكيك المجتمع والدولة. ولكن الرفض جاء قاطعاً. «لماذا؟» ثالثة.
إن الإصرار على رفض تلك المبادرات يندرج تلقائياً في باب اللاعقل. ولكن متابعة الأحداث وربط حلقاتها يدلان على موقف مدروس ومخطط، يقوده ويوجّهه فاعل مشبوه نحو مشروع مدمّر. فلو ربطنا اللقاء في منزل المسؤول اللبناني الكبير، والموقف الإسرائيلي الرافض لحق العودة، مع رفض المبادرات الثلاث المشار إليها، لاستطعنا رسم خريطة الطريق المطروحة اليوم على لبنان، وتمكّنّا من تحديد الأدوار في تنفيذها. أما الحادثة التي تحتوي على المفتاح السرّي لفكّ رموز هذه الخريطة فهي الحادثة التي حصلت عند تشكيل الحكومة الحالية في أواخر صيف 2005. في ذلك الوقت، كان مشروع الحكومة يلحظ أربعة وزراء لكتلة التغيير والإصلاح التي يرأسها العماد عون. وفيما كانت هذه الكتلة تتدارس الحقائب المطروحة وأسماء الذين سيتولّونها، جاء اتصال من الرئيس السنيورة مفاده أن عدد الحقائب العائدة الى كتلة التغيير والإصلاح هو حقيبتان لا أربع.
هذه الحادثة لم تنته برفض العماد عون هذا العرض الجديد وعزوفه عن المشاركة في الحكومة، بل طرحت سؤالاً كبيراً كان يحتاج الى معلومة وثيقة مفادها أن الحسابات التي كان يعتمد عليها النائب سعد الدين الحريري أفضت الى أن من غير الممكن إعطاء العماد عون أربعة وزراء لأن عدد الوزراء الشيعة خمسة، وبالتالي فإن أربعة زائد خمسة تساوي تسعة. والعدد تسعة بالنسبة إلى الحكومة المؤلفة من أربعة وعشرين وزيراً يشكّل الثلث الضامن أو المعطّل. لقد كان من شأن هذا الأمر أن يزيد الأحجية صعوبة، ويطرح على العماد عون سؤالاً أشدّ تعقيداً من مجريات الحادثة بحدّ ذاتها: لماذا هذا الجمع بين عدد وزرائنا والوزراء الشيعة، ولا سيما أن حزب الله وحركة أمل كانا في ذلك الوقت جزءاً من التحالف الرباعي الذي خاض الانتخابات ضدنا. فهل هذا يعني أن كتلة الحريري ستتخلى عن حليفيها أمل وحزب الله؟ ولكن، لم يكن هناك شيء من هذا القبيل في الجو السياسي السائد آنذاك، وبالتالي فليس لهذه الفرضية أي مبرر معقول. غير أن التمعّن في تحليل المكائد التي اعتاد التيار الوطني الحرّ على مواجهتها، منذ ما قبل عودة العماد عون الى لبنان ولغاية اليوم، يدلّ دلالة لا لبس فيها على أن الحكومة التي يتمّ تشكيلها سوف يكون عليها تسديد فاتورة سياسية باهظة، من شأنها أن تضع في صفّ واحد، لممانعتها، مجموع وزراء حركة أمل وحزب الله وكتلة التغيير والإصلاح. فما هو هذا الثمن الباهظ الذي سيفكّك التحالف الرباعي ويعيد خلط الأوراق السياسية بصورة تتعطل من جرائها عملية التسديد فيما لو توافر في الحكومة ثلث معطّل؟
إذا استعرضنا القضايا السياسية الظاهرة التي كانت مطروحة آنذاك على الحكومة العتيدة لمعالجتها وتقديم الحلول لها بصورة تحفظ الوحدة الوطنية وتعيد اللحمة بين ساحتي 8 و14 آذار، يمكننا تحديدها بأربع قضايا أساسية كانت لغاية ذلك الوقت موضوع خلاف بين اللبنانيين: تطبيق القرار 1559، ومشروع المحكمة الدولية التي ستنظر في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتحديد العلاقات مع الدولة السورية، وأخيراً قضية سلاح المقاومة وتسليمه الى الدولة اللبنانية. فبالنسبة الى القضيتين الأوليين، كان الاتفاق الرباعي قد حسم أمرهما وذلك من خلال العقد الرضائي الذي تعهّد بموجبه تيار المستقبل بألا يطالب نوابه ووزراؤه بتطبيقه عن طريق القوة، في مقابل عدم ممانعة حزب الله وحركة أمل إقرار المحكمة الدولية بالطرق الدستورية. وبالنسبة إلى القضية الثالثة، أي تحديد العلاقات مع الدولة السورية، فإن جميع الأطراف، بمن فيهم التيار الوطني الحرّ، كانوا متفقين على قيام علاقات جيدة وندّية بين الدولتين على أساس احترام مبادئ السيادة والاستقلال لدى كلّ منهما. أما بالنسبة إلى القضية الرابعة، أي سلاح المقاومة وتسليمه للدولة اللبنانية، فينبغي منطقياً أن تكون مندرجة في سياق التحالف الرباعي بما يناسب جميع أطرافه. ولكن إذا افترضنا أن لدى تيار المستقبل، مع حلفائه في ساحة 14 آذار 2005 ، النية لطرح هذه القضية على طاولة مجلس الوزراء بغية حشر حزب الله في منطق الأكثرية والتصويت عليها بالثلثين، فهل يعقل أن تخشى الغالبية الحكومية من اصطفاف العماد عون مع حزب الله في هذه القضية طالما أنه كان أول الداعين الى تسليم السلاح وأشدهم عملاً من أجل بلوغ هذه الغاية؟
لذلك نعيد هنا طرح السؤال الأحجية: ما هي إذاً تلك الفاتورة الباهظة التي يتوجّب على هذه الحكومة تسديدها تحت طائلة معارضة حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحرّ؟ لا بدّ إذاً أن تكون هذه الفاتورة في خدمة قضية مستورة من وزن القبول بتوطين الفلسطينيين في لبنان، وبالتالي تقسيم البلد وتفتيته. منطقياً، إنها القضية الوحيدة التي تفسّر مخاوف تيار المستقبل من الثلث المعطّل الذي كان يمكنه أن يتشكّل فقط من وزراء التيار الوطني الحرّ وحركة أمل وحزب الله، دون غيرهم من الأحزاب الأخرى المشاركة في الحكومة. إذ بالإضافة الى كون المتحالفين مع تيار المستقبل مدينين لهذا الأخير بمقاعدهم النيابية وبحجمهم العددي، فإن الماضي السياسي للنائب وليد جنبلاط لم ينجح في إخفاء توجهاته التقسيمية، وإن ماضي القوات اللبنانية وحزب الكتائب لم يكن فيه ما يعبّر عن أي خجل من سياستهما التقسيمية السافرة.
في هذا السياق، ينبغي التذكير بأن هذه الفاتورة هي دَين يستحق تسديده ثمناً لفوز تيار المستقبل والتقدمي الاشتراكي في الانتخابات النيابية بالأكثرية النيابية الساحقة، وذلك بموجب قانون انتخابي جائر اخترعته سوريا لترسيخ احتلالها لبنان بوساطة القوتين السياسيتين الأساسيتين في بنية المجتمع اللبناني، اللتين لم يكن بإمكانهما تنفيذ المخطط السوري طوال خمسة عشر عاماً من الاحتلال لولا اختراع هذا القانون. أما بعد الانسحاب السوري، فإن الدول الغربية استغلت فاعليته وفرضته على اللبنانيين فرضاً لكي تصل به الى النتيجة الآتية: أكثرية نيابية وحكومية قادرة على تحقيق مشروع خريطة الطريق التي اقترحها الرئيس جورج بوش لحل قضية الشرق الأوسط وإنشاء الدولة الفلسطينية، هذا المشروع الذي اشترطت إسرائيل للقبول به أن يتنازل الفلسطينيون عن حق العودة، وأن يُوطّن فلسطينيّو الشتات في الدول التي يقيمون فيها حالياً.
بالنتيجة، لا شيء يستطيع تحقيق مشروع التوطين الفلسطيني في لبنان سوى تفكيك البلد من خلال نشوب حرب أهلية بين اللبنانيين، أو من خلال افتعال أزمات سياسية حادة تباعد بينهم وتقطع سبل الحوار والتفاهم. ولا شيء يستطيع منع مشروع التوطين سوى الوحدة بين اللبنانيين وتعاضد جميع القوى السياسية من أجل ذلك، في جوّ يستتبّ فيه الأمن والاستقرار. ولكن توفير الأمن والاستقرار وضمانهما يمكنهما أن يشكّلا الشرط الضروري لتعطيل مشاريع التوطين والتفتيت والعرقنة، في غياب الوفاق السياسي بين اللبنانيين. وهذا يعني أن على قيادة الجيش والقوى الداعمة لهذه المؤسسة الباقية حتى الآن على وحدتها وتماسكها في ولائها للوطن ولخدمته، اتخاذ الحيطة والحذر مما سوف تتعرض له المؤسسة العسكرية بعد الانتهاء من مشكلة نهر البارد.
* مسؤول لجنة الدراسات في التيار الوطني الحرّ