فؤاد المقدّم *
اللحظة اللبنانية الراهنة يمكن أن تقود إلى الانفجار، ذلك أن استمرار العجز عن إنتاج مشاريع سياسية صالحة للحوار، هي أقرب سبيل للوصول إلى دائرة الانهيار اللبناني الشامل. فتنامي التعقيدات الداخلية، واحتدام التناقضات الإقليمية والدولية يعززان التقديرات القائلة باستحالة أن يكون اللاحلّ أساساً للاستمرار إلى ما لا نهاية في سياسة تقطيع الوقت.
يمكن تقديم قراءة لواقع الأزمة الوطنية في ترابط عناصرها الداخلية والخارجية، في هذه المرحلة من تطور الوضع اللبناني، فيمكن أن يقال إن العجز عن الحسم هو علّة استمرار الأزمة، وإن غياب مشروع التسوية هو الذي يمنع التوصّل إلى حل، ويمكن الحديث عن طغيان المشاريع الطوائفية، وغياب المشروع الوطني، ويمكن الحديث عن دور العوامل الإقليمية والدولية التي أصبحت أقوى من الداخل... إلى ما هنالك من عوامل داخلية وإقليمية مؤثرة إلى هذا الحد أو ذاك، في اتجاه إقفال طريق الحل، وتعقيد الأزمة.
وليس خافياً أن هذه العناصر متوافرة وحاضرة في اللحظة اللبنانية الراهنة، على أن العامل الذي شكّل ولا يزال صاعق التفجير الأساسي والفاعل الحاضر دوماً لحقن المأزق اللبناني الراهن بعوامل الاستمرار، يكمن في منطق رفض الشراكة في السلطة، على قاعدة التوازنات القائمة راهناً، وفي الإمعان في سياسة تقطيع الوقت، وعقد الرهان على العوامل الإقليمية والدولية، لتكريس لون من ألوان الغلبة السياسية في المعادلات الداخلية.
وبصرف النظر عن حملات التراشق بين فريقي الموالاة والمعارضة، وتبادل الاتهامات حول المسؤولية عن تعطيل المبادرات المتناسلة لحل الأزمة، فإن القراءة السياسية لطبيعة المأزق الراهن والمشاريع التي يحملها فريقا الصراع، تلقي الضوء على دور كل منهما في تعطيل التسوية الممكنة.
من نافل القول أن المشروع الذي تحمله المعارضة يقوم على ركيزتين: أولاهما تتمثل في المطالبة بصيغة للشراكة في السلطة تعكس التوازنات القائمة راهناً، وثانيتهما تقوم على خيار مواجهة خطة الهيمنة الأميركية على المنطقة والتصدي للعدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان.
في حين أن مشروع الموالاة يقوم على ركيزتين: غلبة سياسية في الداخل، واستقواء بالهجمة الأميركية الإسرائيلية على المستوى الإقليمي.
ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن الصيغة التي تطرحها المعارضة للمشاركة في السلطة هي صيغة أقرب إلى واقع ميزان القوى الراهن، وواقع التعدّد اللبناني، وأن الخيار الذي تعتمده على المستوى الإقليمي يندرج في إطار التزام قضية لبنان الوطنية وموقعه بصرف النظر عن كل الملاحظات التي يمكن تسجيلها على المعارضة ـــــ بنية وسياسات ـــــ وما أكثر هذه الملاحظات.
في حين أن النهج الذي تعتمده الموالاة في بعديه الداخلي والخارجي يشكل عائقاً أساسياً أمام انعقاد التسوية الممكنة راهناً للجانب الداخلي من الأزمة المفتوحة، ويتقاطع موضوعياً مع خطة الهيمنة الأميركية للسيطرة على المنطقة.
هذا الكلام ليس من قبيل كيل الاتهامات، ذلك أن أي متتبّع للسياسات التي تعتمدها الأكثرية لا بد من أن يلاحظ التبديل الجوهري الذي طرأ على الخيارات السياسية الإقليمية لأطراف أساسيين في فريق الموالاة، وهو تبدّل اقترن بسعي هذا الفريق إلى تكريس لون من ألوان الغلبة السياسية في المعادلات الداخلية.
ويمكن أي مراجعة لتطور المأزق اللبناني الراهن أن تقود إلى اكتشاف الترابط القائم بين تنامي نزوع الموالاة إلى تكريس نهج الاستئثار بالسلطة، وتزايد وتيرة انكشاف لبنان أمام خطة الهيمنة الأميركية، وتصاعد ارتهان الموالاة لأحكام هذه الخطة، إذ بقدر ما كان هذا النزوع يستمر ويتواصل كانت الأزمة تُشحن بمزيد من عوامل التعقيد، ذلك أن الاستئثار بالسلطة لم يكن يتوقف عند حدود احتكار القرار الوطني الداخلي، بل كان يتعدى ذلك إلى الانفتاح على وجهة نقل موقع لبنان الإقليمي من ضفة إلى أخرى، ويمكن أي مراجعة لتطور المأزق اللبناني الراهن أن تقود إلى اكتشاف الصلة القائمة بين سياسة تقطيع الوقت التي تعتمدها الموالاة وسعيها الدائم لتعطيل التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة، ما لم تكن هذه التسوية قائمة على تأكيد لون من ألوان الغلبة السياسية.
هذا الكلام لا يعفي فريق المعارضة من شُبهة المراهنة على عوامل إقليمية مقابلة، وهي مراهنة لا تنفيها المعارضة على أي حال، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، في خدمة أي سياسة تندرج هذه المراهنة، وفي خدمة أي نوع من التسوية الداخلية تصبّ؟
وإلى جانب هذا السؤال يطرح سؤال آخر، في خدمة أي سياسة تندرج مراهنات الموالاة، وفي أي نوع من المعادلات الداخلية تصبّ؟
ربما يستطيع أي مراقب أن يلاحظ أن المعارضة منفتحة على انعقاد تسوية تستدرك احتمالات انزلاق الوضع اللبناني نحو تجدد الحرب الأهلية، فيما يستطيع أن يلاحظ في المقابل أن الموالاة تمعن في السير في منطق الغلبة السياسية إلى نهاية الشوط، بصرف النظر عن النتائج الكارثية المتوقعة لهذا المنطق، وانسداد آفاقه، وبصرف النظر عما ينطوي عليه ذلك من تحوير لطبيعة الصراع الدائر في المنطقة.
أوليس ما تعتمده الموالاة من نهج سياسي يقوم على تحويل المواجهة مع خطة الهيمنة الأميركية والعدوان الإسرائيلي إلى مواجهة مع قوى داخلية لبنانية وإقليمية (حزب الله، سوريا، إيران) يتم تصنيفها بأنها مصدر الخطر حالياً على لبنان؟ ألا يشكل هذا النهج عاملاً مساعداً ومرتكزاً للتحرك السياسي الأميركي على الساحة اللبنانية، ما يجعل هذ التحرك أكثر قدرة على تعطيل مشاريع الحلول، وتخريب التوازنات، واستخدام الساحة اللبنانية كورقة إقليمية؟ ثم ألا يؤدي ذلك كله إلى تعزيز النفوذ الأميركي في الحركة السياسية العربية، ويصبّ في مجرى الأهداف الأميركية الساعية إلى تغيير طبيعة الصراع في المنطقة، وتحويله من صراع عربي ـــــ إسرائيلي إلى صراع عربي ـــــ عربي، بين معتدلين ومتطرفين؟
ويبدو أن الذين استفاقوا فجأة على هول حجم الدعم الأميركي لإسرائيل قد سها عن بالهم أن ما يهم أميركا في لبنان ليس حل أزمته، بل ما ينطوي عليه أي مشروع للحل من تحديد فعلي لموقع لبنان في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، ولموقفه من الخطة الأميركية العامة في المنطقة.
وماذا يقال عن رفض الشراكة في السلطة، وعدم الاعتراف بالوزن السياسي للمعارضة؟ وإذا افترضنا أن فريق الموالاة يرغب فعلاً في تحجيم مفاعيل الصراع الإقليمي والدولي على الساحة اللبنانية، وأنه يسعى فعلاً إلى تغليب عناصر اللبننة في بنية المقاومة وفي توجهات المعارضة، فهل يصبّ منطق رفض الشراكة في السلطة ـــــ إلاّ على قاعدة الغلبة ـــــ في هذا الاتجاه؟ وإذا كان من المؤكد أن المعادلات السياسية الراهنة لا تسمح بنفاذ أحكام مشروع الهيمنة الداخلية، ألا يستوجب ذلك التحوّل للبحث عن تسوية تستدرك إمكان الوقوع في دائرة الانفجار؟
وإذا افترضنا أن الاعتراف بالوزن السياسي للمعارضة يشكل اختراقاً للمحور السوري ـــــ الإيراني على الساحة اللبنانية، هل يبرّر ذلك اعتماد سياسة مقابلة تنزل تحت أحكام مشروع الهيمنة الأميركية، أم يستدعي اعتماد سياسة وطنية تقوم على تحصين الساحة اللبنانية، وهي سياسة لا تقوم لها قائمة، ما لم تنهض على قاعدة مواجهة العدوان الإسرائيلي من ناحية، والتصدي للهيمنة الأميركية من ناحية ثانية؟
ومن نافل القول أن المأزق اللبناني الراهن هو حلقة من أزمة مزمنة متمادية في استعصائها، وأن القوى الطائفية على ضفتي الموالاة والمعارضة لا تملك موضوعياً مشاريع توحيدية للبنان، ومن الثابت أن أي تسوية طائفية تبقى قاصرة عن افتتاح مسار سياسي هادف إلى توليد الشروط الضرورية لإرساء حل متوازن للأزمة اللبنانية، لكن الصحيح أيضاً أن معطيات الواقع اللبناني الراهن تفرض البحث عن حلول سريعة ومؤقتة منعاً للنزف المجاني ودرءاً لانزلاق الوضع نحو الحروب العبثية.
وإذا كانت أهمية هذه التسوية تبدو مضاعفة الآن، في هذا المنعطف الخطير الذي يمر فيه لبنان، فلأن البلاد تقف بالفعل على حافة انهيار شامل، وعلى شفير جولة جديدة من الانتحار الجماعي.
أما أن تتحول مسألة تشكيل الحكومة إلى مناسبة لتكريس الهيمنة وممر لسياسات تمسّ لبنان أمناً واقتصاداً وهوية قومية، ويتحول معها استحقاق انتخاب الرئيس الجديد إلى مناسبة جديدة لاستكمال دائرة احتكار السلطة، فذلك هو أقرب الطرق إلى إشعال الساحة اللبنانية، وخصوصاً في ظل اشتداد الرياح الإقليمية والدولية الساخنة.
* كاتب لبناني