لاله خليلي **
كادت الطبعة الصادرة في الولايات المتحدة الأميركية في أيار 2007 من كتاب «الجهاد في الحياة اليومية: ظهور الإسلام الجهادي بين الفلسطينيين في لبنان» (Everyday Jihad) لبرنار روجييه أن تتزامن تماماً مع اندلاع المعارك العنيفة بين متطرفي فتح الإسلام والجيش اللبناني في مخيم نهر البارد. وقد رأى مؤيّدو نظرية صراع الحضارات (سواء كانوا إسلاميين متشدّدين أو إمبرياليين أوروبيين أميركيين) في هذه المعارك نذيراً آخر بالمأساة الكبرى. أما القوى المعادية لسوريا في لبنان فقد اعتبرتها مثالاً آخر على غدر دمشق. أولئك اللبنانيون المتحالفون مع الحكومة والولايات المتحدة أيّدوا النظريّتَين، على الرغم من بُعد احتمال دعم النظام السوري منظمة إرهابية متطرفة، نظراً إلى تاريخ سوريا المعروف بالقمع الدموي لمثل هذه الجماعات. فمن يريد إلقاء نظرة أدق على الأحداث، لا بدّ من أن يأخذ بعين الاعتبار التحالفات المتبدّلة التي تعقدها المنظمات الإسلامية الصغيرة في لبنان، وينظر إلى ادعاءاتها بالعلاقة مع حركة الجهاد العالمية بشيء من التحفّظ، ويدقق في دور المحور الإمبريالي ـــــ الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين ـــــ ليس فقط في إنشاء البيئة السياسية التي تحضن المشاعر الإسلامية، بل أيضاً في صنع هذه المنظماتلا يشمل برنار روجييه فتح الإسلام في دراسته للحركات الإسلامية في المخيّمات الفلسطينية. ولكنه عندما يتناول مجموعات مشابهة لفتح الإسلام لا يقدم تفسيرات بديلة لما أُعطي من تبريرات سطحية لظهور مثل هذه المنظمات. وكذلك لا يشرح، بشكل مقنع، العلاقة بينها وبين العائلات والمؤسسات السياسية المختلفة التي تمثل السياسات الطائفية في لبنان، ولا موقعها على الخريطة المعقدة للولاءات السياسية في الشرق الأوسط، ولا كيف يمكننا فهم معارك 2007 كجزء من صراع جغرافي سياسي ينهش المنطقة.
يحاول روجييه أن يثبت أن موت الشعور الوطني الفلسطيني في مخيمات اللاجئين في لبنان قد حوّل تلك المخيمات إلى جزر ينعدم فيها الأمن على «الخريطة الجغرافية للإسلام الجهادي العالمي»، وأن المنع المزعوم للجيش اللبناني من دخول المخيمات «أصبح وسيلة ملائمة للمناضلين الدينيين الساعين إلى الإفلات من سيطرة الدولة اللبنانية ومؤسساتها «غير الجديرة بالاحترام»». ويمنح روجييه سوريا دوراً متقدماً في المأساة المفتوحة، أحياناً بصفتها منتقمة من الإسلاميين، ولكن في غالب الأحيان كأول من يغدق عليهم الخيرات. وإذ يركز على منظمة سلفية تدعى عصبة الأنصار، يتتبّع ظهور الحركات الإسلامية في المخيمات وينسبه إلى تأثيرات الثورة الإيرانية من جهة، وإلى الإسلام الجهادي العالمي ـــــ الذي نشأ في بيشاور في باكستان ـــــ من جهة ثانية. ويختم بالتوصية بإطلاق «عملية السلام» مجدداً كحل لظهور الإسلام الجهادي.
ثلاثة أخطاء مفهوميّة
«الجهاد في الحياة اليومية» كتاب مبني على مجموعة من الأخبار السردية الحساسة ذات الطابع الإثنوغرافي التي يستقل بعضها عن البعض الآخر. وتتضمن هذه القصص الموجزة مواضيع تتعلق بمسجد النور وبمكتبة الهدى في مخيم عين الحلوة جنوب لبنان، وتفسيراً لعدد من الخطب الملقاة في المسجد نفسه، وتحليلاً لدور المؤسسات التربوية الإسلامية داخل بيروت وحولها. وبما تنطوي عليه هذه المقاطع الإثنوغرافية الطابع، يمكنها أن تفيد في فهم إيديولوجيا عصبة الأنصار ومؤيديها. إلا أنها مضمنة في كتاب هدفه غير واضح، حافل بالأخطاء المفهومية والتعميمات غير المسوغة.
يقول روجييه إن الكتاب يتمحور حول الحركات الإسلامية الفلسطينية، إلا أنه يشمل مجموعات لبنانية إسلامية مختلفة، من دون تبرير واضح لأسباب علاقتها مع الحركات الفلسطينية ولا كيفية قيام هذه العلاقة. فقد كُرس فصل بكامله لمجموعة الضنية اللبنانية التي كانت مسؤولة عن أكبر اعتداء شنته مجموعة لبنانية ضد الجيش ما بين نهاية الحرب الأهلية عام 1991 ومعارك سنة 2007. ويعترف روجييه بأنه، باستثناء عدد من الاتصالات وتبادل البرامج، لم تقم أي صلة حقيقية كبيرة بين عصبة الأنصار ومجموعة الضنية. وهو يقول، في الواقع، إنه على الرغم من خطابَيهما المتشابهَين، كان «تعاونهما» المزعوم عبارة عن مجموعة من المشاريع المشتركة المقترحة التي لم تنطلق أبداً. فلماذا يشملها إذاً إذا كان هذا الكتاب يتمحور حول الحركات الإسلامية الفلسطينيةفي كتاب تركز فيه الدراسة الإثنوغرافية الأكثر إقناعاً على مجموعة إسلامية في مخيم عين الحلوة (وقد بدا تناول نهر البارد في صفحات قليلة في النهاية كفكرة خطرت للمؤلف بشكل متأخر)، لا يكف المؤلف عن ذكر «الفلسطينيين» أو «الشعب اللاجئ» أو «الشباب الفلسطيني»، كما لو كانوا يشكلون مجموعات متراصة ومتناغمة كلياً، وكلها ملتزمة بجهاد متشدد. إلى هذا، لا يعطي روجييه القارئ أي فكرة عن عدد الأشخاص المعنيين بالتعبئة الإسلامية. أما المسح الذي أجري عام 2000 حول دور المرأة في عين الحلوة، فيشكل المعلومة الوحيدة المذكورة كبرهان على أن المراهقين الفلسطينيين قد تحولوا الآن إلى الحركات الإسلامية. من جهة ثانية، لا يذكر المؤلف عدد الناس الذين يؤمّون المساجد التي يؤمها المنتمون إلى الحركات الإسلامية في عين الحلوة، ولا من أي فئة هم. فهل هم مسلمون ورعون من المخيم يؤمون المساجد ولكنهم لا يتعاطفون مع الخطباء؟ وإلّا، فإلى أين يذهب معظم المسلمين الأتقياء غير المتعاطفين مع الحركات الجهادية لتأدية صلاة الجمعة؟ ولا يكشف روجييه عن نسبة عدد اللبنانيين إلى الفلسطينيين ضمن عصبة الأنصار (حتى ولو أنه يقول في مقطع لاحق إن اثنين من كل ثلاثة أعضاء من عصبة الأنصار الذين أعدموا لارتكابهم جرائم كانا من اللبنانيين في الواقع).
وتكمن المشكلة المفهومية الثانية في غياب تحديدات واضحة للحركات الإسلامية والجهادية والسلفية ـــــ وكل هذه المصطلحات مقبولة بالنسبة إليه. فروجييه يتنقل بين المصطلحات الثلاثة كما لو كانت مترادفة. يقول إن الفرق بين حماس وعصبة الأنصار هو التزام الأولى بمشاعر وطنية وانضمام الثانية إلى شبكة تتخطى الحدود القومية. ولكن دراسته الإثنوغرافية تشير إلى أوهن الروابط بين عصبة الأنصار والمؤامرة الجهادية العالمية المزعومة. من المسلم به أنه يصعب التحقق من مثل هذه الروابط، ولكن الادعاء بأن عصبة الأنصار تنتمي إلى الحركة الجهادية العالمية يجب أن يتصف بشيء من التواضع.
وقد تكون المشكلة المفهومية الثالثة هي الأخطر: فروجييه يغفل باستمرار التمييز بين الإسلام كهوية طائفية ومعتقد ديني وإيديولوجيا سياسية، والإسلام كأداة تُستخدم بخبث للتعبئة. وهو يستعمل كلمتَي «سنّي» أو «مسلم» كمختصر لأي من هذه الفئات. فهل تحوّل «مذهب أهل السنة» من هوية طائفية إلى إيديولوجيا إسلامية؟ وأي مكان يترك هذا الكلام للعديد من أهل السنة الأتقياء أو غير المتدينين؟ لا يجيب روجييه عن هذه الأسئلة. بالطريقة التي تعرض فيها الأمور، سيفترض القارئ الذي يجهل تعقيدات سياسات الهوية اللبنانية أن كل أهل السنة يدعمون إما الأحباش شبه الصوفيين وإما الإسلاميين السلفيين الذين يقابلهم روجييه. وحتى عندما تظهر الدراسة الإثنوغرافية التي يجريها روجييه تعقيداً ما، تأتي الخلاصات العامة التي يستنتجها منها مختزلة للواقع يسودها اللبس.
نظرياً، ينتهي الكتاب إلى خلاصة أساسية مفادها أن العقيدة الإسلامية قد حلّت محل الشعور الوطني الفلسطيني كإيديولوجيا محركة. ولكننا لا نعرف لماذا ولا كيف. فؤاد عجمي قال الكلام نفسه عن القومية العربية منذ حوالى 30 سنة مضت، وهو مثل روجييه، لم يدقق في الحاجة إلى إثبات الذات وإلى درجة من الاستقلالية عن السيطرة الإمبريالية أو الاستعمارية الجديدة، وهي حاجة كامنة في صميم الإيديولوجيتَين. وإغفال هذا الجانب يجعل من الخلاصة القائلة بحلول الواحد مكان الآخر سطحية وغير مقنعة.
انتقائية
عبر صفحات الكتاب، ينسب روجييه إلى النظام السوري دوراً كبيراً في التأثير على اللاعبين الأساسيين وعلى تطور الأحداث. ولكنه لا يثبت تحمّل سوريا كامل المسؤولية بشكل مقنع، لا بل يبدو مناقضاً لنفسه. ففيما تطغى في الكتاب خلاصة مفادها «في النهاية، لا يمكن تحقيق أي أمر من دون موافقة السوريين»، يقول لنا، عندما يحاول شرح ظاهرة المخبرين الإسلاميين في أحد المقاطع، إن سوريا «لا تشكل بتاتاً الآلية التي تتحكم بكل مصادر السلطة في المجتمع اللبناني».
إحدى نقاط الضعف المهمة التي تشكل أساس كل هذه المشاكل هي استخدام روجييه الانتقائي للاستشهادات. فكل ما يؤكد نظريته بأن الحركات الوطنية الفلسطينية ماتت في لبنان وانبعثت من أنقاضها حركات إسلامية جهادية تخترق القوميات يُبرز ويُعتبر مهماً (بما فيها تصريحات المجاهدين)، في حين أن موادّ تناقضها (تتعلق بفلسطين وسوريا أو بالعقيدة الجهادية طبعاً) تخضع لقراءات غير بناءة بتاتاً، ما يعني أن الوقائع والأحداث تفسر بطرائق غريبة. لدى الكتابة عن التأثير الإيراني على ظهور الحركات الإسلامية، يبرز روجييه روحاً طائفية استثنائية تسود لدى رجال الدين السنّة كجزء من الولاء لإيران. وعندما يتناول تنامي الشعور الإسلامي، يتكلم على جمال عبد الناصر ـــــ الذي احتفل الإخوان المسلمون بموته ـــــ كمعبود من الشارع الإسلامي. ويذكر أن حركة فتح هي مؤسسة حركة أمل الشيعية، في حين أنها وفّرت التدريب العسكري لمقاتلي حركة أمل لا أكثر.
ويكتب روجييه بلهجة محذرة أن «عدداً مهماً من الفلسطينيين الشبان اختاروا الدراسة في مؤسسات إسلامية في بيروت أو طرابلس أو صيدا»، وأن «المؤسسات الإسلامية... قد سيطر عليها فلسطينيون شبان». ومع ذلك تظهر معلوماته أنه في كل المراحل، بلغ مجموع طلاب هذه الفئة حوالى 400 طالب في مؤسستَين أو ثلاث من أكبر المؤسسات الإسلامية في بيروت ـــــ أقل من 50 في المئة من الجسم الطالبي حتى في المؤسسات حيث هم الأكثر عدداً. ولا تترك كتاباته المثيرة المجال لتفسير ارتفاع عدد الشباب الفلسطيني الذي يتلقى دروساً دينية بأنه واحد من الخيارات القليلة المتاحة للفلسطينيين لبدء حياة مهنية في لبنان.
انتفاء الاستشهادات في عدد من الوقائع التي يوردها الكاتب يجعل من الصعب التحقق منها. فروجييه يدعي، من دون ذكر أي مصدر، أنه في «عين الحلوة، سفاح القربى من الحوادث المألوفة إلى حد ما». فما أدراه بذلك؟ يخبرنا أنه «في المدارس الدينية، يتعلم الشاب... أن يعتبر نفسه أفضل من الآخرين» (ويشدد على ذلك في النص الأصلي). فهل أخبره ذلك من أجرى معهم المقابلات؟ وهل هذا مدوّن في مناهج المدارس الدينية؟ يتحدث عن مقاتلين إسلاميين في السبعينات، وعن «مخيم الشيخ» في الأردن الذي أنشئ لخدمتهم. فمن أين حصل على الأخبار المثيرة المذهلة هذه؟
وكذلك أيضاً عندما يؤكد روجييه أنه «يمكن الإحساس بالضغط الإسلامي في كل مجالات الحياة» في عين الحلوة، أي برهان يقدم على ذلك؟ لا بل تُنسف صدقية كلامه هذا عندما يذكر مثالاً عليه صاحب شبكة اشتراك بمحطات فضائية في المخيم نفسه «لا يُسمح له» بتوفير اشتراكات في محطات أجنبية. فما يُسقطه من هذا الخبر هو أن المخيمات الأخرى عينها نادراً ما تشاهد محطات أوروبية، لأنها في غالب الأحيان مستثناة من مجموعة المحطات التي يبرمج عليها جهاز التقاط المحطات الفضائية. أكثر من ذلك، ألم يرَ الإسلاميون الذين يتحدث عنهم أبداً بعض المحطات الفضائية الناطقة بالعربية؟ ولا سيما محطات أفلام الأغنيات والموسيقى، حيث يظهر نجوم الأغنية العرب شبه عراة حتى لتخجل منهم أي محطة أجنبية.
والكتاب مشوب أيضاً بالأخطاء والإغفالات التاريخية. فعلى امتداد صفحاته، تُقدم الحرب الأهلية اللبنانية على أنها صراع بين المسلمين والمسيحيين، فيما اعتبر أن الفلسطينيين كانوا «الجناح المسلح» لأهل السنّة اللبنانيين. ويزعم روجييه أن «المسيحيين المتعصبين لبنانياً» كانوا من مؤيدي وحدة الأراضي اللبنانية في السبعينيات، على الرغم من الخطة الكتائبية (بالتنسيق مع إسرائيل) لتقسيم البلاد. يذكر أن منظمات إسلامية في عين الحلوة شكلت رأس الحربة في الدفاع عن المخيم سنة 1982 (لم تفعل ذلك)، فيما أغفل ذكر أي معلومات مؤكدة عن التحالف التكتيكي ضد سوريا الذي نشأ سنة 1983 بين فتح ومجموعة التوحيد الإسلامية، إلا في حاشية غير متصلة بالموضوع. ولم يذكر أي معلومات عن التورط المباشر لعائلة رفيق الحريري في ظهور الحركات الإسلامية، وإن كان يمكن أن يُعذر المرء لعدم التنقيب عن المعلومات في هذا الحقل الضبابي، فقد كان باستطاعة روجييه على الأقل ذكر أن أكثر من 24 سجيناً من مجموعة الضنية نالوا العفو عام 2005 عبر تدخل سعد الحريري، ابن رئيس الوزراء الأسبق المغتال. أخطاء أخرى تتعلق بالوقائع: حزب الدعوة عراقي لا إيراني. وحزب الله لا يشجع جلد النفس في الاحتفالات بذكرى عاشوراء، لا بل يحاول ثني الناس عنه. وإسرائيل احتلت الجولان، لا لبنان، عام 1967. وعندما يذكر روجييه جمهورية عربية متحدة كانت قائمة في التسعينيات، هل يعني بها مصر؟
استشراق
وأخيراً، أسلوب الكتاب مشوق. أما صورة الغلاف فتُعتبر مثالاً فاضحاً على ما انتقده الراحل إدوارد سعيد في كتابه «تغطية الإسلام»: إسلامي غاضب يحمل سلاحاً أوتوماتيكياً، وآخر يصرخ وثالث يحمل قرآناً صغير الحجم. وفي حين ظهرت الصورة بالأبيض والأسود، طبع القرآن بالألوان، ما يشير ضمنياً إلى مركزه المحوري في موضوع الكتاب. وإن تصوير القرآن جنباً إلى جنب مع السلاح والإسلامي الغاضب يعود بالذاكرة مباشرة إلى حقبة بعيدة، إلى «جماهير» الثوار الإيرانيين الخطرين الذين نقلت صورهم مراراً وسائل الإعلام الأميركية في أوائل الثمانينيات.
ويتصف الكتاب بحد ذاته بلهجة فوقية منفرة تصور الفلسطينيين على أنهم يشكلون الواجهة الخلفية للنظام السوري وعلى أنهم خدامه غير المتعلمين. وتوصف المخيمات بفوقية بأنها «مناطق يتعذر حكمها، يسيطر عليها الفقر والإهمال». والفلسطينيون أنفسهم الذين يملكون اشتراكاً في المحطات التلفزيونية الفضائية ويصادفون كل يوم زواراً أجانب، يُقال إنهم يعيشون «في عزلة عن العالم الخارجي». الكتابات المعظمة لعبد الله عزام، وهو إسلامي يعتبر من أسلاف القاعدة، «موجهة إلى قراء لم ينالوا تحصيلاً علمياً عالياً»، بينما الواقع يقول إن العديد من المتعلمين المنتمين إلى الطبقة الوسطى يجلّون أيضاً عزام. ويوصَف الإسلاميون بأنهم أصحاب أدوار فاعلة متهورون وذوو «مخيلات جامحة» يلتزمون «قضية/قضايا عاطفية». يكتب روجييه أن ممثل الاستخبارات السورية المكروه الذي يخشاه العديدون، رستم غزالي، كان لديه «العديد من الاتصالات الفلسطينية»، من دون أن يشير إلى أن بعض أهم الشخصيات على جدول رواتبه هي اليوم من قادة حركة 14 آذار المعادية لسوريا. ولم يقتصر ازدراؤه على الفلسطينيين فقط، فعندما يكتب عن الشيعة، بكلام ساخر، يُبرز التعبير الاستشراقي المبتذل والمنهك «الطاقية». ولكنه في الصفحة عينها، يستخدم مزدوجين إشارة إلى تحفظه عندما يتكلم على «تحرير جنوب لبنان» عام 2000، في حين أنه كان يستطيع بكل بساطة أن يكتب عن «الانسحاب الإسرائيلي». وفي الصفحة نفسها، لا يستخدم المزدوجَين نفسَيهما في كلامه على «عملية السلام» التي فقدت ثقة الكثيرين بها...
في النهاية، أكثر ما يزعج أصحاب الدراسات الإثنوغرافية الذين عاشوا في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان هو الزعم بأن حياة قلة من المناضلين المتطرفين تمثل، بشكل من الأشكال، النضالات اليومية لحوالى 200000 فلسطيني يعيشون داخل المخيمات وخارجها. والانطباع الذي يعطيه روجييه بأن الفلسطينيين يجلسون «فارغي الأعمال، وهم في كل الأحوال محرومون من معظم الأعمال المحترمة بموجب القانون اللبناني، في أكواخ من التنك في أرخبيل من أرخبيلات البلاد يشبه غزة مصغرة، يحلمون بالجهاد» (كما كتب ناقد أدبي آخر في نشرة «نيويورك ريفيو أوف بوكس»)، هو انطباع لا يكاد يمتّ إلى الحقيقة بصلة. فمما لا شك فيه أن الفلسطينيين الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين في لبنان محرومون من العمل، والسلطات اللبنانية حتماً لا تحسن معاملتهم، ولكنهم لا يجلسون جميعاً مفكرين في الكفاح المسلح (وقد قدم في هذا الكتاب على أنه الجهاد، وفقاً لأفضل التقاليد الاستشراقية). فهم يفكرون بقلق في توفير تحصيل علمي أعلى، والحصول على عمل، أو العثور على شريك حياة لهم أو لأولادهم. نعم يفكرون في السياسة، والسياسة تحدد شكل أوجه عدة من حياتهم. ولكن حياتهم اليومية تشبه حياة معظم الناس اليومية، تملؤها أيضاً هموم اليوم وأفراحه. نحن الذين عشنا في المخيمات فاجأنا ما يتمتع به اللاجئون الفلسطينيون الذين قابلناهم من روح دعابة ومرونة وقوة. بيد أن اختزال تعقيدات أفراحهم وأتراحهم وكفاحاتهم بأحلام الجهاد الغاضبة يسيء إليهم كل الإساءة.
* جزء من مقالة أطول ستُنشر في عدد الخريف
من «الميدل إيست ريبورت» ـــ ترجمة جورجيت فرنجيّة
** أستاذة محاضرة في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن، ومؤلّفة كتاب «أبطال فلسطين وشهداؤها: سياسات الاحتفال بالذكرى السنوية الوطنية» (مطبوعات جامعة كامبريدج، 2007)