جوزيف مسعد *
اتفقت الدول الكبرى بقيادة الولايات المتحدة في تشرين الثاني عام 1947 على تقسيم أرض فلسطين بين المستعمرين اليهود والفلسطينيين، على الرغم من رفض الفلسطينيين لهذا التقسيم. ومنذ تلك اللحظة، تصر إسرائيل ومعها، في السنوات الأخيرة، الليبراليون العرب الجدد، على أن أكبر خطأ ارتكبه الفلسطينيون كان رفضهم التقسيم الذي أدى إلى خسارة وطنهم بأكمله. في خطابه أمام مجلس العموم في الأمم المتحدة عام 1974، شبّه ياسر عرفات رفض الفلسطينيين قرار التقسيم بأمّ الطفل الحقيقية التي رفضت تقسيم ولدها عندما حكم بذلك الملك سليمان نتيجة ادعاء أخرى بأنها هي أمه الحقيقية، مما بيّن للملك الحكيم أن الأم الحقيقية تفضّل التفريط بولدها على تقسيمه إلى قسمين ميتين فأرجعه لها.
على الرغم من عقود لا ترحم من الاحتلال والاستيطان ونضج المشروع الاستعماري الصهيوني بتكتيكاته وتقنياته المتقدمة لسرقة الأرض وتقسيم الفلسطينيين أنفسهم إلى ثلاثة أجزاء، بقي الفلسطينيون متّحدين في مواجهة المدّ الصهيوني. فإن خسر الفلسطينيون فلسطين التي لم تعد موجودة واختفت من خرائط العالم وكتب الجغرافيا، فقد حافظوا على وحدتها في جغرافيا متخيَّلة وعلى وحدتهم كشعب سُلِب وتُسلبُ أرضه ويُقسَّم عنوة ويحرمه حقوقه عدوٌّ موحَّدٌ يستخدم تقنياته الاستعمارية داخل إسرائيل تارةً وداخل الضفة وغزة تارةً أخرى، ويشرّع القوانين التي تُبقي على شتات فلسطينيّي المهجر وتمنع عودتهم إلى وطنهم في الوقت نفسه الذي تحوِّل فلسطينيي إسرائيل إلى أجانب داخل بلدهم. استمر هذا الوضع حتى عام 1988 حين بدت لأول مرة بوادر الحل الدبلوماسي الذي ارتكز في أسسه على طرح قيادة منظمة التحرير فلسطينيّي الضفة وغزة (وأراضيهم) على أنهم الأولوية الأولى للقضية الفلسطينية، قابلة بذلك تراتبية تقسيمية للشعب الفلسطيني ولأرض فلسطين والتي نتجت من الاستراتيجية الاستعمارية التي قاومها الفلسطينيون لعقود.
رُسِّخ قبول القيادة الفلسطينية لهذا التقسيم للشعب والأرض في معاهدة أوسلو التي تمخضت عنها فكرة علنية جديدة أجمع عليها الساسة والمثقفون الأوسلويون ــــــ ألا وهي فكرة البراغماتية التي ترتكز على المساومة في الحل الدبلوماسي. فقد حولت عملية أوسلو منظمة التحرير من ممثل لكل الشعب الفلسطيني إلى «السلطة الفلسطينية»، التي إن مثّلت أحداً فتمثل بعض فلسطينيي الضفة وغزة. نتج من هذا الزلزال التمثيلي استراتيجيةٌ علنيةٌ غير خجولة كان يتداولها الكثيرون منذ السبعينيات ولكن بخجل: ألا وهي فكرة مساومة قادة الضفة وغزة (وجملة من مثقفيها) على حقوق أجزاء من الشعب الفلسطيني لاسترجاع حقوق جزءٍ آخر. تدرّج هذا الفكر في بعدين: بُعد القبول بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية بمعنى إعطائها الحق بالتمييز العنصري ضد مواطنيها الفلسطينيين، وقد توِّج هذا التنازل في معاهدة جنيف سيئة الذكر التي هندسها ياسر عبد ربه، ولكن تداول هذا الطرح امتد إلى بقية قادة السلطة الذين يطرحونه مقابل إقامة دولة مستقلة على أجزاء من الضفة وغزة. البعد الثاني، وهو مكمّل للأول، هو التخلي عن حق العودة لفلسطينيي الشتات الذي أقره عرفات في مقالته الشهيرة في النيويورك تايمز أثناء حصاره في مقاطعته إبّان الانتفاضة الثانية والذي كرّسه أيضاً ياسر عبد ربه في معاهدة جنيف.
لم يقتصر طرح المساومة على حقوق فلسطينيي إسرائيل والشتات مقابل إعطاء فلسطينيي الضفة وغزة حقهم بالاستقلال على السلطة الفلسطينية فحسب، بل توغّل في طبقة تكنوقراط ومثقفي الضفة وغزة حيث سوّق أيضاً في السبعينيات. الغريب في الأمر أن مثقفي الشتات لم يساوموا إسرائيل يوماً على إعطائهم حق العودة إلى وطنهم مقابل تنازلهم عن حق فلسطينيي الضفة وغزة في تقرير مصيرهم، وأن تُبقي إسرائيل على احتلالها لهم إلى الأبد، وأيضاً لم نسمع يوماً أن مثقفي فلسطينيي إسرائيل وساستهم قد عرضوا على إسرائيل التنازل عن حق العودة لفلسطينيي الشتات أو حق فلسطينيي الضفة وغزة بتقرير المصير مقابل تحويل إسرائيل إلى دولة مواطنيها وإنهاء تمييزها العرقي والديني ضدهم. عندما طُرحت في الشهور القليلة الماضية مطالب فلسطينيي إسرائيل السياسية في عدَّة مبادرات طالبت بحقهم في المساواة باليهود، لم يُساوم على حقوق أجزاءٍ أخرى من الشعب الفلسطيني.
ما هو إذاً الأساس الذي يرتكز عليه مثقفو الضفة وغزة وقادتهما الذين يساومون على حقوق فلسطينيي الشتات وإسرائيل لاسترجاع حقوقهم (وهنا يجب الإشارة إلى أن هذا الطرح المساوم لا ينطبق على كل مثقفي الداخل وقادته، ناهيك بأغلبية الشعب، مع أنه توغّل في المجتمع كمساومة شرعية)؟ يبدو أن قبول التقسيم والتراتبية للأرض والشعب هو ذلك الأساس. ولكنا إذا سلّمنا بهذا الطرح، فإننا عندها نقبل أن تساوم قيادة 1967 على حقوقها لا غير ــــــ أي أن تساوم على حقوق دولتها المنشودة في الاقتصاد والأمن والمياه والحدود وحتى الأرض، أما أن تساوم على حقوق فلسطينيين لا تمثلهم في الشتات ولا في إسرائيل فهذا ما يثبت استدخال المشروع الصهيوني كمشروع شرعي، لأنه براغماتي، والحكم على كل من يرفضه بأنه يرفض الواقع ويعيش في الخيال. ولكن ما أثبتته عملية أوسلو وتداعياتها المستمرة في الحاضر هو الفانتازيا التي يعيش فيها قادة السلطة ومثقفوها الذين بعد تنازلهم عن أغلبية حقوق الشعب الفلسطيني بأكمله ما زالوا مطالَبين بتنازلات أكثر مقابل بقائهم في سلطة سياسية عقيمة تدرُّ عليهم أموالاً طائلة.
وإن كانت قيادة فلسطين والعرب قد رفضت تقسيم فلسطين عام 1947 فقد قبلوا عام 1993 بتقسيم الشعب والأرض، وها هم يقسّمون الشعب إلى أجزاء أصغر نتيجة إقصاء السلطة الفتحاوية لفلسطينيي غزة بعد فشل انقلابها على الديموقراطية. فهنيئاً لإسرائيل وللّيبراليين العرب الجدد! لقد آن أوان احتفالهم: فقد قبل الفلسطينيون أخيراً بقرار التقسيم.
* أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث
في جامعة كولومبيا في نيويورك