هيفاء زنكنة *
أصدر مجلس الأمن الدولي منذ أسابيع قليلة، وبالإجماع، القرار رقم 1770 لتمديد وجود الأمم المتحدة في العراق وتعزيزه، لتؤدي دوراً سياسياً أكبر. وكانت بعثة المساعدة في العراق (يونامي)، قد شكلت بموجب القرار رقم 1500 الصادر عن مجلس الأمن في 14 آب 2003، وهي البعثة اليتيمة الباقية التي أريد عبرها إنقاذ سمعة الأمم المتحدة في العراق من خلال توثيقها لانتهاكات حقوق الإنسان في تقاريرها الدورية التي لم تكن ملزمة أساساً. والآن يجيّر الرصيد الذي كسبته، مهما كان ضئيلاً، في شرعنة خطط التقسيم بعد قرارات مجلس الأمن التي شرعنت الاحتلال ومن قبله الحصار.
ولفهم مضمون القرار ونقاطه الأساسية، علينا أولاً الإجابة عن بعض الأسئلة، مثل: من الذي خطط للقرار، وما هي أسبابه، قبل الانتقال إلى قراءة بنود القرار نفسه وفرز ما هو مكرر مما هو جديد.
لقد ولدت فكرة القرار في حضن أميركا، صاحبة أكبر قوة عسكرية محتلة للعراق، ورعتها بريطانيا صاحبة ثاني أكبر قوة عسكرية محتلة، ما يجعل الوليد منذ لحظة ولادته مشوّهاً. ثم اشتغلت الدولتان على تغذية الوليد في المحافل الدولية وبدبلوماسية مكثفة لإقناع الأمم المتحدة بتبنّيه للخلاص من الكارثة التي أوقعهم فيها فشل مخطط الاحتلال، وبحثاً عن مخرج يخلّصهم من ورطة التعامل المباشر مع عملاء لا يكفّون عن التقاتل في ما بينهم لاقتسام الثروات ونهب العباد، فلم يكذب الأمين العام للأمم المتحدة خبراً، بل بارك الوليد أثناء لقائه الأخير بالرئيس بوش. هكذا قُدّم القرار الى مجلس الأمن للموافقة عليه، إلا أن الموافقة تأجلت يوماً واحداً لكي، وهنا المفارقة، يطلع ويوافق عليه وفد ما يسمى الحكومة العراقية في الأمم المتحدة، الذي سرعان ما أتاه الجواب من بغداد بأن «رئيس الوزراء راض»، ثم بارك مندوبو «الحكومة العراقية» القرار في جلسة دامت 45 دقيقة بالتمام والكمال وضمنها خطابات مندوبي أميركا، بريطانيا، العراق، روسيا الاتحادية، الصين، فرنسا، قطر، إيطاليا، أندونيسيا وممثل الأمم المتحدة. وكان ختامها مسكاً حين صرّح حامد البياتي، سفير العراق لدى الأمم المتحدة، موضحاً في مؤتمر صحافي أن لا تناقض بين الوجود الأميركي ودور الأمم المتحدة لأن «الولايات المتحدة تقوم بالدور العسكري والأمني، والأمم المتحدة ستقوم بدور مختلف هو سياسي وإنساني»، وجاء تصريحه متناقضاً حتى مع الجملة الأولى من القرار التي تنص على أن القرار يؤكد «استقلال أراضي العراق وسيادتها ووحدتها».
واتسعت حملة الترحيب بولادة القرار حتى صار تدريجاً كأنه الحل السحري لجريمة الإبادة المستمرة منذ أربعة أعوام ونيف. فرحّب الرئيس الأميركي بالقرار لتتناثر من بعده كلمات الترحيب مثل الحلوى على رأس العروس. وجاءت كلمات الترحيب لتعزز الحل الأميركي المطلوب في تبرئة الاحتلال من جرائمه عن طريق عدم ذكر مفردة الاحتلال من قريب ولا من بعيد، وتدويل مسؤولية ما يجري في العراق مع شرعنة كل نصوص القرار وإجراءات «الحكومة العراقية». وكذلك رحّب الأمين العام للأمم المتحدة بنتيجة التصويت قائلاً إن «الأمم المتحدة تتطلع إلى العمل بشكل وثيق مع قادة العراق وشعبه لإيجاد سبل تعزيز مساعداتنا». وقال زلماي خليل زاد، السفير الأميركي في الأمم المتحدة، إن بوسع المنظمة الدولية تأدية دور إيجابي في تسهيل عملية الحوار بين الفصائل المتناحرة في العراق، وخصوصاً تلك التي ترفض خوض محادثات مباشرة مع أميركا.
ورحّب حامد البياتي بالقرار لأنه سوف يساعد في جهود المصالحة الوطنية في العراق وحل الخلافات بين الأطراف العراقية. وقرعت طبول السرور والإشادة والتفاؤل عند أبواب جامعة الدول العربية، فأوضح عمرو موسى، الأمين العام للجامعة، في تصريح صحافي قائلاً إن هناك تنسيقاً قائماً بين الجامعة العربية والأمم المتحدة في ما يخص العراق، وإن الجامعة العربية ستطرح هذا الموضوع برمته على أجندة وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم المقبل بالقاهرة بداية أيلول المقبل، لوضع خطة عمل عربية لمساعدة العراق على الخروج من أزمته الحالية، ما يذكّرني بقصة السكرتيرة التي طلب منها رئيسها الدعوة الى عقد اجتماع لمديري الترويج الإعلاني فاقترحت عليه السكرتيرة عقد اجتماع للجنة تبحث كيفية دعوة مديري الترويج الإعلاني!
ماذا عن نص القرار 1770 نفسه؟ إن ما ذكر فيه من بنود لا يختلف كثيراً عما كانت تحاول أن تقوم به منظمات الأمم المتحدة على اختلاف أنواعها في السنوات الماضية، من إقامة مؤتمرات وورشات عمل خارج العراق وكل ما له علاقة بتزييت عجلات العملية السياسية مع بعض الإضافات، مثل منح مبعوث المنظمة دوراً في تقديم النصح والدعم والمساعدة للحكومة العراقية في مختلف الأمور.
إلا أن هناك بنداً معيناً ستترتب عليه نتائج كارثية حقاً بالنسبة الى مستقبل العراق ووحدته الوطنية وقد مُرّر عرضاً ضمن كشكول البنود المرصعة بحقوق الإنسان والديموقراطية. ينص هذا البند الخطير على أن لمبعوث الأمم المتحدة في العراق إبداء النصح والدعم والمساعدة في حل الخلافات الحدودية الداخلية، ما يدفعنا الى التساؤل عن ماهية الخلافات الحدودية الداخلية؟ إن النظر إلى واقع العراق الملتهب حالياً وصراعات عصابات وميليشيات الحكم الطائفية والعرقية يبين لنا أن الخلافات تتركز على مدينة كركوك التي يستكمل الحزبان القوميان الكرديان تغيير طبيعة المدينة البشرية وتصفية كل من يجرؤ على معارضة إلحاقها بإقليم كردستان، وأن الصراعات في الجنوب تهدف الى تصفية كل من يعارض فكرة تقسيم العراق إلى فيدراليات: الجنوب الشيعي والغرب السني وربما تدويل بغداد وما يحيط بها. وما الذي يمنع موظفي أية محافظة من اختلاق مشكلة أراض مع المحافظات المجاورة حسب الاستثمارات والمصالح الخارجية والداخلية، لتظهر هناك فجأة أعراض «خلاف حدودي داخلي» يجري تدويله أوتوماتيكياً؟
بهذا المعنى يصبح قرار مجلس الأمن جريمة جديدة تقترفها المنظمة الدولية بحق الشعب العراقي تماثل جريمة شرعنة الاحتلال وغسل يديه من قتل ما يقارب مليون مواطن عراقي، وتماثل في دمارها وتخريبها جريمة فرض الحصار الجائر لمدة 12 عاماًً، ما سبّب قتل نصف مليون عراقي. إنه قرار لن يغفره الشعب العراقي للمنظمة التي منحت الاحتلال الشرعية وتجديد البقاء في العراق تحت راية «بدعوة من الحكومة العراقية»، كما تفعل الآن إذ تغلف قرار التقسيم الذي سيكلفنا ما لا تحمد عقباه بغلاف قانوني يعفيها من أية مسؤولية بذريعة «دعوة الحكومة العراقية»، والمنظمة أدرى من غيرها أية مهزلة هي دعوة الحكومة
العراقية!
إن الطريق الوحيد لبناء السلام في العراق هو إحلال العدل في عراق موحد ومستقل حقاً، لا تتمتع فيه قوات الاحتلال ومرتزقتها بالحصانة القانونية عندما تقتل المواطن العراقي وتنتهك عرضه. وإن البدء بأي إصلاح دستوري لن يصح إلا في ظل السيادة الوطنية التامة، وبعد طرد الغزاة وقواعدهم وعملائهم وقوانينهم التي لم تشرع إلا على أسس المشروع الأميركي الصهيوني المتهاوية، الذي يراد إنقاذه بقرارات دولية زائفة وصفقات إقليمية
مشينة.
* كاتبة عراقية