strong>عصام نعمة إسماعيل *
إن هذا التقرير الصادر عن «هيومن رايتس ووتش» بعنوان «مدنيون تحت الهجوم»، هو جهد فردي ورأي شخصي للسيّد إيريك غولدستين، ساعدته فيه الباحثة في قسم الأسلحة بوني دوهرتي. لذا التصويب الأول هو أن هذا التقرير عبارة عن رأي خاص، تبنّته المنظمة التي ليس لرأيها أي قيمة قانونية، وإنما تعبّر عن وجهة نظرها في قضيةٍ من القضايا من دون أن تملك إلزام أي طرفٍ دولي أو محلي بآرائها. وأقل ما يُقال في هذا التقرير عن حرب تموز 2006، أنه تقرير منحاز بالمطلق في الدفاع عن إسرائيل والتجنّي في إدانة المقاومة من دون أن نلتمس أدلة مقنعة على هذه الإدانة.
بدأ التحيُّز في اختيار التسمية في التقرير المتعلق بالقتلى المدنيين في إسرائيل. فقد استخدم التقرير عنوان «مدنيون تحت الهجوم». أما التقرير المتعلق بالقتلى المدنيين في لبنان بنتيجة العدوان الإسرائيلي، فكان عنوانه «لماذا قتلوا؟». وتوحي هذه العناوين بأن المقاومة اللبنانية هي المسؤولة عن القتلى في البلدين، فالمدنيون في إسرائيل هم عرضة لهجوم المقاومة، والمدنيون في لبنان ماتوا لأنهم مؤيدون أو يقطنون بالقرب من مراكز المقاومة، أما إسرائيل فلا لوم عليها ولا مسؤولية.
ثمَّ ظهر التحيُّز الشكلي الثاني في إطلاق اسم «جيش الدفاع الإسرائيلي» والشرطة الوطنية الإسرائيلية على القوات العسكرية الإسرائيلية، وإذا أجبتم بأن إسرائيل هي التي تسمي قواتها بهذه الأسماء، فنجيبكم بأن لبنان يطلق على حزب الله تسمية المقاومة. فأوجب الإنصاف بأن يكون هناك مساواة بين طرفي التقرير، فإما تسمية حزب الله بالمقاومة، وإما عدم تسمية القوات العسكرية الإسرائيلية بجيش الدفاع والشرطة الوطنية، لأن هذه المسميات تثير الاستفزاز لدى العرب جميعاً لأن الجيش الإسرائيلي ليس جيشاً دفاعياً وإنما هو جيش هجومي ومعتدٍ منذ نشأته. أما الشرطة الإسرائيلية فهي ليست وطنية، لأن فلسطين ليست وطناً لليهود، وإنما هي وطن للفلسطينيين فقط.
ومن حيث مضمون التقرير، فقد تبيَّن وبشكلٍ مباشر تجاوز المنظمة حدود اختصاصها كما رسمته، فهي لم تكتفِ باستعراض الإصابات المدنية في إسرائيل، بل أفردت قسماً خاصاً وكبيراً للحديث عن مصدر وصول الأسلحة للمقاومة، وأخذت بنسج التحليلات حول كيفية منع وصول هذه الأسلحة وكيفية تطبيق القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي وكيف نطبِّق القرار 1701 في ما خصَّ أسلحة المقاومة حصراً. مع أن قضية الأسلحة شأن لا علاقة للتقرير به، بل إن القانون الدولي الإنساني يرعى تنظيم استخدام السلاح، ولا شأن له بمنع اقتناء السلاح أو إنشاء تشكيلات قتالية لمقاومة احتلال خارجي.
أما الحجة الأساسية لإدانة المقاومة فهي بسبب نوعية الأسلحة التي استخدمتها، وهي حسب ما ورد في التقرير صواريخ لا تتمتع بالقدرة على إصابة الأهداف العسكرية، ومع ذلك ظهر التناقض الواضح في هذا التقرير لجهة إشارته في أكثر من مناسبة إلى أن صواريخ المقاومة أصابت المواقع العسكرية الإسرائيلية، وأن الرقابة العسكرية الإسرائيلية تمنع زيارة هذه المواقع المستهدفة. وهذا عيب جوهري في التقرير، ذلك أن تقدير حجم الخسائر المدنية وحجب حجم الخسائر العسكرية فيه تجنٍّ على المقاومة، وخاصةً لجهة الأماكن المستهدفة التي زعم التقرير أن 23% منها هي أماكن مدنية. ثمَّ يرد في التقرير نفسه أنها أماكن عسكرية ضمن مناطق مدنية.
وبعد عرض مفصَّل لنوعية الصواريخ التي استخدمتها المقاومة اللبنانية، استنتج التقرير وبسذاجة غير بريئة أنه كان على المقاومة ألا تستخدم أسلحة غير قادرة على توجيهها بدقة إلى الأهداف العسكرية. واقترح التقرير الاكتفاء باستخدام بندقية القنص فقط، وأنه كان على المقاومة إمّا اقتناء أسلحة ذات قدرة تكنولوجية عالية ودقة تصويبية قبل خوض الحرب، وإما عليها أن لا ترد على كل الهجمة الصاروخية البرية والبحرية والجوية الإسرائيلية إلا ببنادق القناصة. هذا هو منطق التقرير الذي أفرد صفحات لإثباته بحجة أن حماية المدنيين تمنع استخدام أسلحة غير متطورة.
وليت منظمة «هيومن رايتس ووتش» انتبهت إلى حجم الدمار الذي خلفته التكنولوجيا الأميركية في العراق وأفغانستان، بدلاً من إلقائها اللوم على صواريخ المقاومة التي لم يثبت التقرير أنها مسَّت المدنيين بصورة غير متناسبة مع حجم العملية العسكرية.
ثمَّ ورد في التقرير أنه خلال 34 يوماً من المعارك استخدمت المقاومة اللبنانية 8000 صاروخ (حسب قولها) و4000 صاروخ حسب قول الشرطة الإسرائيلية يُضاف إليها ـــــ كما ورد في التقرير ـــــ الصواريخ التي أحصاها الجيش الإسرائيلي وأبقى عددها ومكان سقوطها سراً.
وبهذا الكمّ من الصواريخ التي أصابت إسرائيل سقط، بحسب التقرير، 43 قتيلاً مدنياً ونحو 100 جريح إصاباتهم بليغة ومتوسطة. أما حجم القتلى العسكريين فأُبقي عمداً مجهَّلاً، فأين الخطأ في دقة رمي الصواريخ إذا سقط هذا العدد البسيط من المدنيين في ظل حرب استخدم فيها 8000 صاروخ على مدة 34 يوماً، أي أن كل مئتيْ صاروخ يسقط على إسرائيل يؤدي إلى مقتل مدني واحد. فأين هي جريمة الحرب إذا كانت القوات الإسرائيلية متمركزة بين المدنيين، كما ورد في التقرير.
وحتى إذا أخذنا نسبة القتلى المدنيين إلى العسكريين، وعلى رغم بقاء عدد قتلى الجيش والشرطة الإسرائيلية من الأسرار، إلا أن التقارير غير الرسمية تشير إلى سقوط ما بين خمسمئة إلى ألف قتيل عسكري، والرقم الحقيقي مذكور في القسم السري من تقرير فينوغراد، فتكون بحسب هذه التقارير نسبة القتلى المدنيين إلى العسكريين هي ما بين 5 إلى 7%.
إن هذه النسبة المتدنية من القتلى المدنيين هي عامل إيجابي لمصلحة المقاومة التي ـــــ كما أورد التقرير ـــــ تملك إحداثيات دقيقة عن كل المواقع المدنية والعسكرية والصناعية والصحية في شمال إسرائيل، وهي لو قصدت استهداف المدنيين كما استخلص التقرير زوراً، لكان بإمكانها إيقاع مجازر في المدنيين الإسرائيليين. لكن هذه النسبة القليلة من عدد المدنيين القتلى لهي دليل قاطع على أنهم سقطوا بطريق الخطأ إما لوجودهم بالقرب من مراكز عسكرية أو بسبب انحراف الصواريخ عن المرمى الموجهة إليه. وفي الحالتين، فإن نية إصابة المدنيين غير ثابتة. وفي علم القانون تؤخذ الأدلة من الوقائع لا من أقوال الصحف أو التصريحات المنسوبة. (وللمفارقة أودّ التذكير بما تقدم عليه الأسلحة الذكية في العراق وأفغانستان حيث يحصدون عشرات المدنيين في سبيل استهداف أو الاشتباه باستهداف مقاتل).
أما الدليل الثاني ـــــ بعد الدليل الواهي الأول (الصواريخ غير الذكية) ـــــ فهو في استخلاص نية قتل المدنيين من تصريحاتٍ لقيادات المقاومة يتبنّون فيها إطلاق الصواريخ. ولكن في كلّ ما أورد التقرير من تصريحات لم يأتِ أحد من هذه القيادات على القول بأنّهم يرغبون في استهداف المدنيين، حيث أورد التقرير تصريحات وأحاديث عن استهداف المواقع العسكرية في صفد وحيفا ومدن وبلدات... وحتى التقرير نفسه انتقد وجود الثكنات العسكرية الإسرائيلية بين المدنيين، وانتقد إقدام المدفعية الإسرائيلية على القصف من مناطق سكنية. ثمَّ بعد ذلك استخلص التقرير من دون دليل أن المقاومة اللبنانية استهدفت المدنيين، واستعمل عبارة «على رغم أنه ــــ أي حزب الله ــــ ادعى خلاف ذلك».
وأخفى أو تجاهل التقرير الإشارة إلى بيانات المقاومة التي تحذِّر فيها المدنيين الإسرائيليين وتطالبهم بالضغط على حكومتهم لوقف الحرب أو عدم استهداف المدنيين اللبنانيين، ثمَّ كانت المقاومة تحذر كل مدينة وكل قرية قبل قصف المواقع العسكرية الموجودة فيها، وكانت تطالب بوقف الحرب ووقف الاعتداءات الإسرائيلية، وكان الرد الإسرائيلي يأتي دائماً بمواصلة الحرب؟
وحتى البيانات التي كانت تصدر عن قيادات المقاومة حول قصف المدن الإسرائيلية، لم تحتوِ على تصريح مباشر بقصف المدنيين، بل على العكس، وخاصةً في مدينة حيفا، كانت خطابات المقاومة دافعاً للمدنيين نحو اتخاذ الحيطة والحذر أو الخروج من المدينة أو الاستجابة للتواصل الكلامي مع المقاومة والضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف الحرب. هذا عدا عن أن استهداف المدن ــــ كما أشار التقرير ــــ ليس من المحرمات في القانون الدولي الإنساني، وكذا استهداف المراكز الحيوية في المدينة إذا كانت هذه المراكز تستخدم للأغراض العسكرية. فالمدينة بعموميتها تتضمن مراكز عسكرية ومدنية تستخدم لأغراض عسكرية، وكان على المدنيين بعد التحذير بقصف المدن أن يبتعدوا عن المراكز العسكرية في المدن التي ستستهدفها المقاومة.
فكان من المنطق اعتبار هذه التحذيرات لمصلحة المقاومة التي تجنبت استهداف المدنيين بدليل العدد القليل من القتلى في صفوفهم، لكن خلافاً للمنطق كانت هذه التصريحات بزعم التقرير دليلاً على أن لدى المقاومة رغبة وقصداً جرمياً لقتل المدنيين! وكان المرجع الثاني لتقرير القصد الجرمي هو في تحليلات صحافية غير دقيقة، حاول التقرير التعويل عليها على رغم أنها صادرة عن جهات معروفة بعدائيتها للمقاومة، بل ولو كانت صادرة عن جهات صديقة فإن التحليل الصحافي لا يقوم بعرف القانون دليلاً على الإدانة، وإنما يستخلص الدليل من الوقائع الميدانية التي هي بالتقرير نفسه لمصلحة المقاومة لجهة الحجم القليل للقتلى والجرحى من المدنيين الإسرائيليين.
هذا هو واقع التقرير الذي لم يثبت بالدليل استهداف المقاومة للمدنيين الإسرائيليين، ولكن بيّن نيات مبيّتة وقصداً سابقاً لدى معدّيه أن يكون مساره نحو الإدانة كيفما كان.
* كاتب لبناني