رامي أبو حمدي *
آن الأوان لنا، نحن العرب عامة، أن نقرأ مجتمعنا وثقافتنا ونشخص مشاكلنا بجرأة. نحن نعيش أزمة من صنعنا إلى حد كبير، بصرف النظر عن الاحتلال أو تدخل القوى الخارجية. الجسد المريض يستجيب بسرعة للداء، أما الجسد المعافى فيقاوم ويشفى. الانقسام في العراق ولبنان وفلسطين ما كان ليتخذ هذا الشكل العنيف والدموي، لأن الاستخبارات الأميركية قررت ذلك فقط ورصدت ملايين الدولارت لتحقيقه! التكفير في العراق والعنف المرتبط به ليس شططاً عابراً، بل هو اتجاه له أصوله الفقهية و«علماؤه»، لا صلة لأميركا فيه. وثمة صراع طائفي «بارد»، ما دام ما كان يحدث في لبنان لا صلة لإسرائيل فيه. وفي فلسطين، كما في معظم الأقطار العربية، علينا أن نعترف: العصبية القبلية والعشائرية لا تزال تشكل القاعدة التحتية لبنائنا الاجتماعي وسلوكنا. والعقل الإمبريالي لم يخترعها، بل هو يبني عليها استراتيجيته الخاصة بنا وحسب!
قرأت مقالة للكاتب الفلسطيني رشاد أبو شاور بعنوان «العقيد الركن الفنّان (أبو علي)» على موقع عرب 48، يحكي فيها كيف أعدمت حماس قريبه وابن عمـــــــــــه في غزة، وهو عسكري يملك موهبة فنيـــــــــــــة. رشاد أبو شاور هو مثقف معروف، ومن مناهضي أوسلو وسياسة فتح الــــــــــــرسمية منذ الخروج من بيروت عام 82. لذلك يكتسي نقده لحماس صدقية أكبر. في الوقائع الــــــــــــــواردة في هــــــــــذه المقالة، يحسم الكاتب، من وجهة نظري، كل تــــــردد: حماس وفتح تقومان راهناً على العصبية الجاهــــــــــــلية والأمية السياسية، وأي نصر أو تحرير تصنعانه هو محكوم بالضرورة بالأزمة. وهذا يفتح من جديد باب النقاش في معنى المقاومة وأي تحرير نريد؟
المقاومة
المقاومة التي تتوسل العنف والتعبئة العقائدية دون برنامج سياسي واضح، ودون أن توازن بين أشكال الكفاح المسلح والمدني، تحمل بداخلها طاقة عنف هائلة تنطوي على خطر التحول إلى حالة قمع داخلي، حين تنتهي قضيتها مع الاحتلال الخارجي، بل ربما قبل! هذا ما تدلنا عليه تجربة الجزائر بالمعنى السلبي، وتجربة جنوب أفريقيا بالمعنى الإيجابي. بات من الضروري مطالبة حماس، بوصفها فصيلاً فلسطينياً رئيسياً في هذه المرحلة، بشفافية أكبر، وبلورة برنامج سياسي واضح، تقره داخلياً وتنشره للجمهور كوثيقة. وهذا ليس حاجة حزبية وحسب، بل هو حاجة وطنية أيضاً.
وبات من الضروري إعادة الاعتبار للنضال المدني جنباً إلى جنب مع النضال المسلح. فهو يفتح المجال لمشاركة المرأة والصحافي والفنان والأستاذ لتحمُّل مسؤولية المشاركة في القرار والعمل والنتائج. إن اقتصار المقاومة على الكتائب العسكرية هو إقصاء وتعسف بمعنى ما، يهدد العقل والوعي الجماعي للخاضعين للاحتلال، وقدرتهم على الحوار وبلورة إرادتهم وتطلعاتهم السياسية المشتركة. تقع على عاتق حماس مسؤولية كبرى في إنقاذ الكفاح الفلسطيني من عماء العنف وغطرسة القوة. كان من الواجب عليها احترام الرأي العام الفلسطيني والعربي ومده بالمعلومات اللازمة والحقائق عما تصفه «باللحديين في غزة». كان عليها تشكيل جبهة جدية عريضة، وخوض النضال السياسي والجماهيري والإعلامي ضده بدل توقيع اتفاق مكة معه! لكن هل بات عنف حماس أكبر من عقلها، أم هو صورة عنه؟ هذا سؤال متروك للزمن للإجابة عنه.
بكل الأحوال، العنف الذي يفقد القدرة على التمييز، يفقد تلقائياً الأهلية والشرعية للمقاومة ولا بد من إعادة تقويم دوره وتصويبه.
التحرير
أما التحرير، فلعل من المفيد تقديم اقتراح بتوسيع معناه ليشمل إلى الأرض، مجمل المضاعفات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. الأرض التي تُحَرَّر، ويكون تكلفة ذلك، على سبيل المثال، تحويلها إلى حالة أفغانستان تحت حكم طالبان، يكون تحريرها تحريراً معطوباً، قد يأتي بمآسٍ لا تقل عن مآسي الاحتلال. وعليه، تصبح كمية التحرير المنجز تقاس بميزان اجتماعي واقتصادي وإنساني وثقافي، لا بميزان جغرافي وحسب! والخيار هنا ليس بين الاحتلال أو حكم طالبان، فهناك طريق ثالث أكدته تجارب بعض الشعوب، ولا سيما جنوب أفريقيا.
حماس باتت تثيـــــــــــر شكوكاً قوية فــــــــي أنها مقاومة من النوع الذي يصنع تحريراً جغرافياً بتكلفة حضارية لا تبررة. وهي مدعوة، قيادة وكوادر، إلى مراجعة توجهها وموقعها وبنائها وعلاقاتها، والبرهان على العكس.
أما فتح، فإني أظنها مصابة بحالة من الغيبوبة الفكرية والنضالية منذ عقود. فهي تنظيم كاد أن يجعل من أبي مازن عميلاً أميركياً يوم تخاصم مع ياسر عرفات، وهمشته تماماً. لكنها عادت لتجعل منه رئيساً دون أي مراجعة للموقف السابق أو أي حس بالذنب! وكذلك الأمر في ما يتصل بمحمد دحلان. ويمكن سوق الكثير من الأمثلة التي تبرز هلامية وتناقضات وترهل التشكيل الفتحاوي وعقله السياسي. لا شيء يفسر الموقف سوى أن التنظيم يتماسك بقوة الغريزة القبلية الفئوية أكثر من قوة الفكر السياسي والقيم الوطنية. فالتناقض القبلي مع حماس هو كفيل بأن يثير من الحماسة ما يكفي كي يسكت أي دعوة للنقد والمراجعة والمساءلة. أما الثراء الغريب والفاحش لبعض قيادات فتح الأولى والسلطة، فهو يطرح أسئلة كثيرة عن معنى الثورة والتحرير. والميزان نفسه ينطبق على فتح: التحرير الذي يقدم امتيازات طبقية لشريحة من السياسيين، ويدمر الاقتصاد الوطني ويحول الشعب إلى مجموعة تعتاش على الإعانات الدولية، هو تحرير معطوب. والتحرير الذي يصدر مراسيم تشكيل حكومات وحلها، وإعلان حالة طوارئ، ولا يستطيع أن يمنع سيارة احتلال من غزو رام الله واغتيال المطاردين فيها، هو كاريكاتور مأساوي لم يتخيله حتى ناجي العلي!
مسؤولية التغيير
لا جدال في أن حماس وفتح تعبِّران عن رأي أغلبية الشعب الفلسطيني، وهي حقيقة غير مريحة بطبيعة الحال. وهما تعانيان اليوم أعراض الجاهلية والأمية السياسية، وعليه فإني، كمواطن فلسطيني، لا أرى ـــــ للأسف ـــــ ما يدعو إلى التفاؤل بتغيير قريب. لكن لا بد من فعل شيء ما، فهناك دائماً فرصة للقيام بشيء لتبديل السائد. وفي هذا الصدد، تقع اليوم مسؤولية كبيرة على منتسبي حماس وفتح بالدرجة الأولى.
بالتأكيد لا يحق لأحد التدخل في الشؤون التنظيمية لكلا الحركتين، لكن المسألة صارت تمس صميم القضية الفلسطينية ويحق لكل الفلسطينيين والعرب وأصدقائهم في العالم أن يبدوا الرأي. كوادر هذين التنظيمين مدعوون لمراجعة داخلية شاملة ترسي عملاً مؤسسياً وإمكانية المساءلة والتدوال في صنع القرار والقيادة. آن الأوان لجيل جديد من القيادات، ولا سيما داخل فتح، كي يمارس الإدارة التنظيمية والجماهيرية والإعلامية بعقلية ديموقراطية وأدوات بديلة، تعيد التنظيم إلى موقعه وتخلصه من عقدة التفوق! وحماس عليها أن تعي نفسها كحالة اجتماعية وثقافية في وسط متنوع، لا مجرد حالة عسكرية.
التغيير الديموقراطي داخل الحركتين هو شرط موضوعي لإعادة بناء منظمة التحرير على أساس برنامج جديد موحد وشامل، يعيد التماسك إلى الشعب الفلطسيني. لكن للأسف، أثبتت القبلية السياسية الفلسطينية أنها قادرة في كل مرة على إعادة إنتاج نفسها: بعد الفشل في تجربة الأردن 1970ـــــ بعد الفشل في تجربة المقاومة في لبنان 1983ـــــ وبعد فشل أوسلو المدوي.
حبذا أن تحدث هذه المرة مفاجأة تاريخية ما، لم تخطر أيضاً على بال ناجي العلي!
* كاتب فلسطيني