صباح علي الشاهر *
العراق، السودان، فلسطين، لبنان، ساحات لتطبيق النهج الذي يُوكل مهمة تدميرنا لنا. سمّها التدمير الذاتي، أو ما شئت، المهم أن التخطيط الذي كان إلى أمد قريب محض افتراض لا يلامس الواقع أضحى كما يبدو واقعاً ملموساً ومعاشاً، بكل هوله ولاعقلانيته، وسخفه وعبثيّته. في البدء حسب الأميركيون أنهم بالاعتماد على تفوّقهم العسكري الساحق، وقدراتهم التكنولوجية الخارقة، وعلى جماعات من العملاء مدربين بشكل جيد، سيتمكنون من تطبيق المخطط الذي رسموه بدقة، وسعوا إليه منذ عقود. ما كان ثمة ما هو مخفيّ، إذ لم تعد السرية ضرورية بعد استفراد الأميركيين بالعالم، بل حسب الإمبرياليون الجدد أن الجهر بالخطط وإشهار المخططات والإمعان بالصلف هي تعبير عن الهيمنة المطلقة على العالم. هذا الاستهزاء واستصغار الآخرين كان نهجاً بوشياً بامتياز، وتدشين لهمجية كاوبوية، حسب البعض أنها زالت منذ انتهاء الاستعمار القديم. ولكن بوش ورهطه يحيون كاوبوية معاصرة، لا تتوانى عن اجتزاز فروة الرأس بحدّ السكين. كاوبوية ترى أن ما هو أخلاقي شأن خاص بالمتمدّنين أمثالهم، أما أولئك المتوحّشون، المتعصّبون، المتخلّفون، المعادون للديموقراطية والثقافة الأميركية، فهم صنو الهنود الحمر، ينبغي إبادتهم، وتدجين من يبقى منهم، ولا بأس في أن يصبح هذا الباقي مجرد فولكلور ليس إلا، وفي أحسن الأحوال فرجة.
البشاعة كانت جوهر سياسة الرعب والصدمة التي طبّقوها في العراق، وعلى بغداد ومحيطها تحديداً، ثم كانت المرحلة الثانية حرق بغداد، وإنهاء الدولة، وكل ما حدث بعد هذا تحصيل حاصل. هل كان في تصوّر الأميركيين أن سياسة الرعب والصدمة سوف لن تفعل فعلها مع شعب منهوك ومُتعب، ومُبتلى؟ أغلب الظن أنه لم يكن في واردهم هذا، والدليل أن كبيرهم أعلن متبجّحاً أن المهمة نُفّذت، واحتفل بالانتصار مزهوّاً. وحق له أن يزهو ويتبجّح، لو أنه لم يسئ التقدير. فالعراق هو الجائزة الكبرى حقاً، وهو المنطلق لبسط هيمنة الوحدانية الأميركية في قلب العالم الذي سموه مبكراً الشرق الأوسط الجديد.
هل جرت الأمور وفق مشيئة اليانكي؟ المستنقع الأميركي في العراق يجيب عن هذا السؤال. لقد تحوّل الرعب والصدمة من رعب وصدمة للعراقيين المنهوكين المُتعبين، المُبتلين بكل شأن، طوال سنوات عجاف سابقة من الحصار والذلّ والإرهاب، إلى رعب وصدمة للجنود الأميركيين المُترفين، المُتنعّمين، المُزوّدين بأحدث ما أنتجته إنجازات الآلة الصناعية الحربية الأميركية. لقد ضاعت هيبة أميركا على تخوم بغداد، وفي براري العراق وبساتينه، وضياع الهيبة أول علامات الانهيار الكوني، ومع ضياع هيبة أميركا ستتدحرج أميركا كصخرة حُطّت من عل.
شيء آخر حدث، في مكان آخر من شرق أوسطهم المُرتجى، لا يقـــــــل أهمـــــــية وتأثيراً عما حدث على أديم وادي الرافدين. يدهم الضاربة القابعة على ضفاف المتوسط، الدويلة التي خاضت حروبها مع الأنظمة من دون أن تخسر حرباً واحدةً، حتى ما سموه «العبور» عادت فيه إسرائيل لتعبر هي وتصبح في الكيلومتر 101، على بعد مرمى قذيفــــــــة مدفع من ضواحي قاهرة المعز. كان لا بد من ضربة تفقد قوى رفض الإذعان توازنها، وليس ثمة ضربة قاصمة كضرب المقاومة اللبنانية التي أرّخت لزمن الانكسارات والهزائم الصهيونية. حرب جنوب لبنان كانت ضرورة أميركية وإسرائيلية، تتضمن من جملة ما تتضمنه رد الاعتبار لأميركا المهزومة والمأزومة في العراق، ولإسرائيل المهزومة والمجلوّة عن جنوب لبنان كرهاً وقسراً تحت ثقل ضربات المقاومة اللبنانية الباسلة. وهنا أيضاً أساءوا التقدير، لقد حسبوا أن جيش إسرائيل الذي لا يُقهر، مع الدعم الأميركي، وأستطيع القول دونما تردد، والدعم العربي، والآخر المحلي داخل لبنان، سيوفر لإسرائيل نصراً سهلاً يوقف انهيارات المشروع برمته، ويكون نقطة تحوّل تاريخية لترتيب الأوضاع في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق دفعة واحدة، لذا ليس بإمكان أحد لوم سيدة الدبلوماسية الأميركية السمراء وهي تصرّح متبجّحة وواثقة تمام الثقة بنصر حسبت أنه في متناول اليد، بعدما خُطّط له بشكل جيد، وحُشّد له بشكل جيد، على أن الوقت قد حان لبناء الشرق الأوسط الجديد. في لحظة غرور استباقية، بدت وزيرة الخارجية الأميركية كمايسترو يوزّع المهمات على العازفين، لكن أرض الجنوب اللبناني وصمود المقاتلين المُعجز، كان يرسم نهاية أخرى، تشير إلى ولادة أخرى، تؤكد أن خيار الصمود والمقاومة هو الخيار الوحيد الذي يحقق النصر، وأن النصر معقود للمقاومة، هنا في جنوب لبنان، أو هناك في العراق، أو في الجوار في فلسطين التحدي والصمود. وإذ أرادت أميركا نصراً يغيّر المعادلات، وإذ أرادت إسرائيل نصراً يُنسي ذلّ انسحابها المُهين، كان الحصاد تأكيد الهزيمة. أميركا تستطيع تحطيم أي جيش، عربياً كان أو غير عربي، وإسرائيل هزمت جيوشنا العربية، لا لكونها الأشجع، بل للاختلال الفاحش في موازين القوى. ولكن أميركا والجيش الإسرائيلي يقفان عاجزين أمام المقاومة، ليس هذا فحسب، بل ــ كما رأى ويرى العالم ــ هما مذعوران ومدحوران ومنهزمان.
لذا فالمطلوب أميركياً أن يتولى بعضنا قتل بعضنا الآخر، وصولاً إلى هزيمتنا جميعاً، ودونما استثناء، هزيمتنا الأكثر ذلاً وعاراً، وهل ثمة ذلّ أكثر من هزيمتنا بأيدينا.
* كاتب وصحافي من العراق