نسيم ضاهر ‏*
شهدت طهران اضطرابات نتيجة بدء العمل بقسائم المحروقات، الاسم الآخر لسياسة ‏تقنين صارمة. من المبكر استخلاص مدلولات عميقة للمجريات الصاخبة والاحتقان المروري ‏الناجم من تدفّق السيارات نحو محطات الوقود، حيث نال بعض مراسلي الإعلام نصيبهم من ‏النقمة لتغطيتهم المباشرة وسط الجمهور الغاضب. وبديهيّ أن أبرز ما يلفت هو ما تعرّض له ‏مندوب قناة الجزيرة من ضرب مبرح، حسب وصف النشرة الإخبارية للمحطة ذات التوجّه ‏المناهض للإدارة الأميركية والناقد لسلة العقوبات النازلة تباعاً على الجمهورية الإسلامية. ‏
تحتل إيران المرتبة الثانية بين البلدان المنتجة للبترول والمنضوية تحت لواء منظمة ‏الأوبك. وإلى إنتاجها الحالي من النفط الخام، يتفق الخبراء على قدراتها وتمكّنها، لو شاءت، ‏من رفع سقف الكميات المستخرجة وقابلية الأسواق العالمية لامتصاصها. وتتمتع ‏طهران بأفضليات نسبية في تزويد دول شرق آسيا بالنفط الخام، وتغطي حصّة مرموقة من ‏احتياجاتها. ‏
ينطبق ذلك على الصين تحديداً السائرة نحو استهلاك متعاظم للوقود يضعها في طليعة ‏العملاء المشترين، ما يرشحها حكماً لتبوّؤ المركز الأول من حيث طاقة الاستيعاب واستيراد ‏المزيد بثبات، تبعاً لتعطّش منشآتها الصناعية واتّساع الاستخدام المنزلي ومعدّلات نموّ ‏اقتصادها ومبادلاتها. ‏
ظاهراً، وللوهلة الأولى، ثمّة مقاربة بائِنة بين هذه المقدّمات ينبغي تبديدها للوقوف ‏على حقيقة أمر التعارض، توطئة لولوج حقل الأزمة الراهنة ومسبّباتها. فمن الخطأ اعتبار ‏مشهد طهران وقد اختنقت شوارعها بالسيارات المتهافتة على الوقود، مجرد فاصلة ريثما ‏تتكفل التدابير بترشيدها واحتواء مفاعيلها الطارئة، لأنها تتّصل بخلل بُنيوي في مجال الطاقة ‏فاقمته بواكير العقوبات، لا من حيث التأثير المباشر، بل نتيجة تحوّط الحكومة ومحاولتها ‏الوقاية المسبقة وشدّ الأحزمة. ‏
تستورد الجمهورية الإسلامية سنوياً حوالى سبعين في المئة من النفط المكرّر تلبية ‏لحاجات السوق المحلية، بكلفة فاقت عشرة مليارات دولار في السنة الأخيرة. وليس من ‏مُؤشِّر إلى مصافٍِ جديدة قيد البناء تخفّف من معادلة الاعتماد على الاستيراد من الخارج، ‏فيما تتأكّد زيادة الطلب الداخلي طرداً. في المقابل، تعمل المصافي القائمة بأقصى مردود ‏ممكن، نظراً إلى تقادم المنشآت، وجلّها من طراز يعود لبدايات الطفرة البترولية منذ عقود. ولئن ‏كان التفاوت بين إنتاج النفط الخام والكميات المكرّرة الصالحة للاستهلاك سِمة عامة في ‏البلدان المُنتجة فرضتها التقنيات العالية المطلوبة والتوظيفات الاستثمارية المرافقة لها، ‏والمحتكرة الى حد كبير من جانب الشركات العالمية الكبرى المُعرَّفة بالكارتيل النفطي، ‏فإنّ إيران لم تتمكّن من جذب هذه الرساميل طوال الحقبة الثورية لعزوف الشركات عن ‏مناخها وخياراتها، المعطوف على عقيدة النظام السيادية وتعريفه المتشدّد قومياً للشراكة ‏الاقتصادية، وما يستتبعه من حذر حيال تغلغل الرأسمال الأجنبي في مفاصل الاقتصاد ‏ومرافقه الحيوية. ‏
آجلاً أو عاجلاً، قُدِّرَ على إيران مواجهة معضلة المزاوجة بين سياساتها والطلب ‏النابع من تنمية اقتصادها والازدياد السكاني. في هذا الصدد، تنتصب الطاقة مصدر قلق ‏وعنواناً للكباش القائم مع أغلب الأسرة الدولية. ربّ قائل إنّ روســـــــــيا والصين لا تتفاعلان مع ‏الطوق المضروب، لكن هذا الاستثناء، على أهميته، لا يُغيِّر كثيراً في واقع المسألة، أو ‏يُبشِّر ببدائل محتملة. فروسيا منتج أساسي للبترول والغاز، تبحث بدورها عن أسواق للمواد ‏الخام، وتعاني في الوقت نفسه شيخوخة منشآتها النفطية. لذا تتطلع الى نادي ‏الشركات العالمية، الغربية عموماً، لتطوير قاعدتها الإنتاجية وتوسيعها وتحديثها. أما الصين، ‏الحاضرة في ميدان الطلب على النفط والغاز ومشــــــــــتـــــقاتهما، فما زالت عاجزة عن الإيفاء بحجم ‏حصتها من النفط الصافي المكرّر، ولا عهد لها في بناء مصاف حديثة واستثمار في هذا ‏المجال خارج حدودها، إضافة الى حرصها الشديد على عدم مصادفة الولايات المتحدة ‏وإغضاب شركاء كثر انفتحت عليهم منذ زمن غير بعيد. ‏
‏تلك ممهّدات لأزمة هيكلية تستوي في أصولها وملامحها، حصيـــــــلة للكولونيالية القديمة ‏والهيمنة الاقتصادية الراهنــــــة في صيغتها الإمبريالية. بيد أن السؤال يتعدى المُسببات البعيدة ‏الى نجاعة العلاج وكيفية نهوض نظام مُناوئ بمهمة التصدِّي والحؤول دون وقوعـــــــــــه فــــــــــي عنق ‏الزجاجة، على رغم إمساكه بالقرار سيادياً وافتخاره بالنموذج الاجتماعي/الاقتصادي الذي سارت ‏عليه الثورة الإســـــــلامية واقتنعت بقابلية اتباع حذوه وتصديره. قد يأتي الجواب من امتلاك ‏النووي وتفعيله سلمياً، وهذا ما درج عليه الباحثون والعلماء ذوو المهارة، غير أن صعوبات ما ‏زالت تعترض هذا السعي الذي لن يردم الهوة في المدى المنظور، على أحسن افتراض، ‏وسيكتفي بتلبية جزئيات من قضية متشعبة، قياساً على المحقَّق في دول نووية رائدة. ‏
على جاري الأحوال والتجارب، لا مناص من الاعتراف بأن السياسة قد أضافت وزراً ‏على هيكلية تعوزها المتانة، وألقت بعبئِها على اللوحة الاجتماعية والصعوبات اللاحقة ‏بشرائح شعبية واسعة جرّاء لجوئها «القسري» الى بطاقات التموين وترشيق الاستهلاك. للمرة الأولى ربما، تناقلت وكالات الأنباء أخبار الفورة الغاضبة على مسلك ‏الحكومة، من الجموع المُحتجّة عفوياً في شوارع طهران. وإذ تدعو الرصانة الى عدم ‏الاستعجال في سوق الاستنتاجات، يبقى أن أحداث ليلة صيف صاخبة تبدو حبلى بالإشارات ‏والتوقعات، وفق كل المعايير. استوعبت العاصمة الإيرانية الصدمة وستعمل حُكماً على ‏إزالة آثارها المعنوية، السلبية بامتياز. إلا أن اقتلاع الأزمة من جذورها صعب الرجاء، ‏يستلزم كفاية تموينية مفقودة، إذ تقتصر المسكِّنات على احتواء النقمة، ولا تفي بأساس حاجة ‏ماسة، كيفما نجحت السلطات في لجم ردود الفعل الآنيّة وتدبَّرت لعدم تكرار الشغب بمؤازرة ‏الأجهزة الأمنية التي شُلَّت حركتها إبّان الاحتجاج لصعوبة التنقّل وسط غابة السيارات ‏المتوقفة في الطرق. الأرجح أن يرفدها الباسيج بعناصره، لكن يتحتم تدارك معاملة مظاهر ‏الهبّات الفورية بخشونة، خشية التسبب بطفرة عارمة. ‏
انصبّت صرخات الإدانة على نهج الرئيس أحمدي نجاد، وألقت باللائمة على مقاربته ‏الخاطئة للشأن الاجتماعي. وعليه، انحصر النقد بالإدارة المتعثّرة، وجانب صانعي ‏السياسة ومؤسسات النظام. بتعبير أوضح، ما زال هناك متسع لإعادة نظر وهامش أمان، في ‏ضوء البراغماتية المعهودة من قبل عقلاء الجمهورية الإسلامية، وحرصهم الدؤوب على ‏صيانة أمن المجتمع وهيبة السلطة. وبالقدر نفسه، لا يمكن تجاهل تداعيات العقوبات المقترحة ‏والآيلة الى مزيد من الضغوط ذات المؤثرات والانعكاسات السلبية على صعيد المستورد ‏من سلع ومواد. إن المعطيات الرقمية، الرسمية والموثقة دولياً، تنبئ بمخاطر تدافع الطلب ‏والنقص في العرض، وبلوغه مجالات حيوية عدة، وبالتالي اضطراب نصاب التوزيع ‏والأسعار، مقدمة لتضخم مُؤذٍ وانكماش في الإنتاج. ‏
قلَّما تجدي المكابرة (وإخفاء المعوِّقات) حين يدلف المرء إلى عالم الاقتصاد. المجابهة ‏في هذه الساحة رهنٌ بمراكمة عناصر القوة وتكاملها المادي، بخلاف ثقوب السياسة وتقلباتها ‏وموقع العامل الإرادي في الصناعة والأداء. طوّرت الجمهورية الإسلامية مجموعة مهارات ‏علمية واعدة وقطعت شوطاً على جادة التحديث، يحاكي العِزّة القومية ويفتقر الى القاعدة ‏الصلبة من وسائل إنتاج ومعارف تطبيقية مواكبة. أي أنها تقف على عتبة امتلاك سلسلة ‏تكنولوجية متكاملة، شرط دخول نادي النخبة دولياً على رغم مكانــــــتها الإقليمية وتفوّقها النسبي في ‏المحيط القريب. ‏
بناءً على هذه الوقائع، يستخلص أن جهود طهران لسدّ الثغرات، وربما الالتفاف على ‏طوق العقوبات، سوف تؤدي الى مخارج بعيدة عن الكارثيّة في المدى المتوسط، من دون الإيفاء ‏بكل المتطلبات وتغطية مختلف الحاجات الخدمية والسلعية. على هذا النحو، ونتيجة علاقات ‏مأزومة أصلاً مع فريق معتبر من المجتمع الدولي، تدخل الثورة الإسلامية منطقة مطبَّات ‏قد تطيح بعض العوازل وخيوطاً من شبكة الأمان التي نسجت طوال الحقبة الماضية، وما ‏الانفعال الذي عاشته طهران ليلاً إلا علامة تؤذن بتشنّجات لاحقة من منبت اجتماعي، ‏وتحثّ على ضرورة المسارعة الى إجراء تعديلات في السلوكية والنهج الشعبوي عساها تعفي من تقديم ‏القرابين على مذبح استعادة الثقة والهدوء واستتباب السلم الاجتماعي. ‏
* كاتب لبناني