نظام مارديني *
لم يكن مفاجئاً رفض الرئيس التركي أحمد نجدت سيزار التعديلات الدستورية البرلمانية الخاصة بانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، وإحالتها على الاستفتاء الشعبي. وتبعاً للمادة 175 من الدستور، فإن الرئيس ملزم إما بالموافقة على التعديلات أو عرضها على الاستفتاء الشعبي. وعلى هذا، يتوجب إجراء استفتاء خلال 120 يوماً، أي أنه يفترض أن يجري في أواخر تشرين الأول المقبل. وسيبقى سيزار في منصبه على الأقل حتى ذلك التاريخ، لأنه إذا جاءت نتيجة الاستفتاء مؤيدة لانتخاب الرئيس من الشعب، فهذا يتطلب الوقت للإعداد للآليات الانتخابات الرئاسية ومن ثم إجرائها.
وكان هدف حزب «العدالة والتنمية» الحاكم من هذا التعديل إجراء الاستفتاء يوم الانتخابات البرلمانية في 22 تموز للتأثير في نفسية الناخب الذي يعتقد أنّ عبد الله غول قد ظُلم في موضوع انتخابات رئاسة الجمهورية، وذلك في إشارة الى قرار المحكمة الدستورية الذي ألغى الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي جرت في الأول من أيار المنصرم، باعتبارها «غير شرعية» لعدم اكتمال نصاب الثلثين من النواب خلال التصويت على مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم وزير الخارجية التركي عبد الله غول، بعدما صوّت 361 من النواب الذين حضروا، وكان من الضروري حضور ثلثي أعضاء البرلمان أي 367 من أصل 550 نائباً هم عدد نواب البرلمان التركي، وكان البرلمان قد فشل في توفير حضور الثلثين في الدورتين الانتخابيتين اللتين أُجريتا في السادس من أيار الماضي لانتخاب غول لرئاسة الجمهورية، إذ حضر الجلسة الأولى 356 نائباً والثانية 358، وقاطع الجلسة معظم النواب المستقلين والمعارضين المدعومين من الجيش، وهو ما دفع غول لسحب ترشّحه وفتح الباب من جديد للانتخابات البرلمانية المبكرة التي ستقود الى مواجهة ساخنة بين رواد العلمنة من جهة والإسلام السياسي المتمثل بحزب العدالة والتنمية من جهة ثانية.
خطوات تكتيكية
أزمة تركيا الأزلية بين العلمنة والإسلام السياسي، ستعاود انفجارها من جديد بعد ترشّح غول للرئاسة في تموز المقبل، بعدما انفجرت منذ حسم حزب العدالة والتنمية موقفه من أمر ترشيح ممثله في الانتخابات الرئاسية باختيار غول لمنصب الرئيس الحادي عشر لتركيا. وبهذه الخطوة التكتيكية اعتقد حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أنهما نجحا في سحب البساط من تحت أقدام المعارضة التركية التي كانت تستجمع قواها وتحشد أنصارها للحيلولة دون ترشيح أردوغان نفسه لمنصب رئيس تركيا، حتى إن أستاذ القانون العام والعلاقات الدولية في جامعة «كوجالي» التركية، سمير صالحة، رأى «أن اختيار غول أقل إثارة للحساسية لدى العلمانيين، من اختيار أردوغان لمنصب الرئاسة». غير أن بيان الجيش التركي في 27 نيسان، وتظاهرة العلمانيين في 29 منه بعد التظاهرة الأولى في 14 من الشهر نفسه، أشار إلى حجم المأزق الذي تعيشه تركيا في اللحظة الراهنة، ولم يخفف قول غول «إن اختلافنا هو ثراء لتركيا» من الرعب الذي يعيشه هؤلاء خشية وصول محجّبة إلى قصر «جانكايا» الرئاسي. إذ يميل العلمانيون إلى اعتبار الحجاب تهديداً لإصلاحات التحديث التي أدخلها أتاتورك الذي فصل بين الدين والدولة عندما أعاد بناء تركيا على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، معتبرين أن أي تخفيف لحظره قد يحوّل تركيا سريعاً إلى إيران أخرى. وقد بلغ الجدل حول الحجاب ومدلوله السياسي درجة منعت الجانبين (العلماني والإسلامي) حتى من الاتفاق على اسمه. إذ يميل العلمانيون إلى تسميته «يتوربون» أو «عمامة نسائية» عندما يتحدثون عنه كمدلول سياسي، بينما يسمونه «غطاء الرأس» للإشارة إلى ما ارتدته الريفيات حسب العرف الاجتماعي أو الديني.
شكوك علمانية
في منطقة الشرق الأوسط ألحقت عملية الخلط بين الدين والدولة أضراراً بعملية التحديث التي تتوق إليها المجتمعات وبحق النموذج التركي المتميّز بتوليفته المتناسقة بين الدين والحكم مشكلاً بذلك حالة نادرة، بل وفريدة من نوعها في المنطقة بعد وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة عام 2002. وفي هذا السياق يقول «يوست لاكندريش»، عضو البرلمان الأوروبي الذي يرأس لجنة القضايا التركية، «لقد استطاع هذا الحزب تحديث تركيا أكثر مما قامت به الأحزاب العلمانية في السنوات الماضية، فقد أظهروا استعدادهم لفتح النظام، ورفع التحديث أمام النخبة القائمة». لا شك في أن وصول غول لمنصب الرئاسة الأولى من عدمه لن يغيّر حقيقة أن أوسع أبواب الجدل قد انفتح عن الأزمة الأزلية للهوية التركية بين العلمانية والإسلام. وقد أدت التظاهرات الحاشدة لأنصار العلمانية الى التشكيك في إمكانية ضياع إرث أتاتورك العلماني مع وجود إسلامي في قصر «جانكايا». وللمشككين أسبابهم:
أولاً، عدم تصورهم تقلد سياسي صاحب مرجعية إسلامية لرئاسة ظلت ـــ على رغم صوريّتها ـــ رمزاً للثوابت التركية ولم يقربها سوى العلمانيين وآخرهم أحمد نجدت سيزار الذي حذّر من تهديد غير مسبوق للجمهورية التركية، في إشارة إلى طموحات حزب العدالة والتنمية.
ثانياً: الانتخابات التشريعية في تشرين الثاني المقبل وتوقّع تكرار الفوز الساحق للحزب الحاكم (فاز في انتخابات 2002) لتتحقق له السيطرة على الرئاسات، الأولى: رئاسة الجمهورية، والثانية: رئاسة الحكومة، والثالثة: رئاسة البرلمان، ما يشير إلى بداية أسلمة تركيا كما يعتقدون.
ثالثاً: على رغم مرور خمس سنوات على تولّي حزب العدالة والتنمية رئاسة الحكومة، ما زالت النخبة التركية تحمّله مسؤولية تراجع التأييد الشعبي للغرب ولانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وقد تناسى العلمانيون أن هذه الحكومة أدخلت العديد من الإصلاحات لنيل الرضا الأوروبي، وأن تراجع الميل يعود إلى سياسات الغرب نفسه، مثل تقاعس أميركا عن حل مشكلة حزب العمال الكردستاني وأنصاره في شمال العراق، ويعود إلى مواصلة وضع الاتحاد الأوروبي المسألة القبرصية كشوكة في حلق تركيا.
تحرّك الجيش
في ضوء اختيار غول للرئاسة الأولى، أُعطيت لأردوغان فرص كبيرة لاستمراره متماسكاً قوياً في مواجهة أية تحديات تواجهه في المستقبل. إضافة الى ذلك فقد نجح أردوغان في تحقيق خطة الفارس الذي استخدم نفسه درعاً واقية لدكّ الجدل وصدّ الانتقادات عن عبد الله غول عبر جذب كل الأنظار والانتقادات إليه حتى لا يسمح بالتعرض لاسم غول وإدخاله في متاهات ونقاشات مع المتنافسين. ويبقى سؤال أخير يتعلق بموقف المؤسسة العسكرية من هذا الترشيح ومدى تأثيره في موقف العلمانية في البلاد... ولا سيما أنها تعتبر نفسها الحارس الأمين لها... وهو ما يثير شهية أنصار العلمانيين لمعرفة ماذا هي فاعلة خلال المرحلة المقبلة؟
ولعل أقرب وصف لوضع الجيش التركي هو ما قاله «مارك مارديل»، المحلل في BBC، في تقرير له، بأن الجيش التركي يصف نفسه بأنه حامي دستور الجمهورية العلمانية وبأن عين الجيش لا تغمض عن الساسة الأتراك، ولا يجانب هذا التوصيف الصواب إذ إن ثلاثة انقلابات كبرى وقعت خلال نصف قرن، واحتكاكات عنيفة بالإسلاميين وصلت إلى أزمة حادة بينهم بسبب ارتداء زوجة مسؤول تركي الحجاب، كل هذا كفيل بتوضيح مدى نفوذ هذه المؤسسة في تركيا.
ولكن يكمن مأزق الجيش التركي في أن فكرة تدخّله بالقوة، كما كان يحدث في الماضي، تعدّ فكرة عقيمة لأن حزب العدالة والتنمية استطاع بسياسته البراغماتية المعتدلة أن يكسب القوتين الخارجيتين الأقوى في صفّه، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهذا ما يفسر ردود فعلهما على تدخلات الجيش التركي في العملية الانتخابية القائمة. إذ حذرت واشنطن من مغبة تدخّل الجيش بنفوذه لاستصدار أمر قضائي بمنع حزب العدالة والتنمية من المشاركة في الانتخابات. فيما أشاد الاتحاد الأوروبي بالتحول الذي أظهره الحزب من احترام العلمانية، مشيراً إلى أن السرعة التي ستنفذ بها تركيا عملية الإصلاح المنشودة هي التي ستحدد وقت الموافقة على انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ولا سيما أن حزب العدالة والتنمية يلعب بهذه الورقة جيداً لتجنّب انتقاد الجيش أو تحرّكه في أسوأ الظروف. ومن شأن إعلان غول أن «تركيا ملتزمة إجراء عملية التحول لاستيفاء شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي»، أن يضع المؤسسة العسكرية في موقف ومأزق حقيقيين من مغبة التحرك ضد الحكومة.
وإن الرأي العام التركي يعارض «عسكرة» الدولة بقدر ما يعارض «أسلمتها»، وكذلك المجتمع الدولي الذي لن يقبل قيام حكومة انقلاب عسكري في ثاني أهم دول الناتو. لكن ما يخشاه أردوغان، هو لجوء الجيش لأدواته الجديدة في توجيه الأحداث كما جرى عام 1997، عندما تحرك شريك نجم الدين أربكان في التحالف الحاكم لتضييق الخناق عليه وإجباره على الاستقالة، وكل ذلك كان بتشجيع من الجيش. وفي التظاهرات الأخيرة وتهديدات المعارضة إشارات الى إمكان تكرار ما مضى.
والمفارقة أن حزب العدالة والتنمية سبق غيره في نزع فتيل الأزمة، وأسبابه ليست الحفاظ على علمانية الدولة أو إبعاد تهمة الأسلمة عن نفسه، ولكن لحماية مكاسبه الانتخابية. فحكماء الحزب واجهوا أردوغان بتفضيلهم الحفاظ على رصيد سياسي متميز بعد انفرادهم بحكم تركيا وسيطرتهم على برلمانها مع توقعات بمواصلة نجاحاتهم في الانتخابات البرلمانية في 22 تموز المقبل، على أن يخرج من بينهم رئيس تركيا الشرفي أو ـــ وهو الأدهى ـــ يخسرون القصر والبرلمان. الأغلب أن ذكاء أردوغان ألهمه التراجع عن حلم الرئاسة من أجل إنقاذ حزبه وتاريخه، ولكن الأكيد أن انسحابه لم يلغِ الجدل القائم حول أزمة تركيا الأزلية.
الرافد الاقتصادي في المواجهة
يضاف إلى ذلك، أن الصراع بين العلمانيين والإسلاميين اعتمد بالأساس على قوة سياسية ترفدها قوة اقتصادية في ظل محافظة حزب العدالة والتنمية على كل ما من شأنه منح العلمانيين والجيش الفرصة للنيل من تجربتهم العقلانية التي أدمجت بين الواقع السياسي وأفكارهم وأهدافهم السياسية. وقد استفادوا من تجربة نجم الدين أربكان خلال رئاسته للحكومة 1996-1997، التي لم تنجح طويلاً أمام الهجمة الشرسة للقوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية العلمانية، وأُسقطت بضغط من الجيش في شباط 1997، وسقطت معها القوى الاقتصادية المحافظة، بل وصدرت أحكام قضائية قاسية بحق شركات كومباسات وشركات أخرى ذات توجّهات إسلامية، تمثلت في الإغلاق والمصادرة.
لهذا فإن الصراع بين القوى الاقتصادية العلمانية والقوى المحافظة كان درساً للاستفادة منه عقب نهاية أربكان. فبفضل هذا الدرس انتُهج أسلوب أكثر واقعية يعتمد على التوافق الشكلي مع القيم الليبرالية والعلمانية بقبول علمانية الدولة وتشجيع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتطبيق المعايير الأوروبية في مجالات السياسة والقضاء والديموقراطية والحريات، ويدعو إلى التعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتطبيق قواعد اقتصاد السوق الحرة، والفصل بين الحزب والحكومة. وقد أكد على ذلك المرشح الرئاسي غول عندما صرح خلال مؤتمر صحافي عقده في مقر البرلمان في الرابع والعشرين من نيسان الماضي: «على رئيس الجمهورية بموجب الدستور أن يتمسك بقيم الجمهورية الديموقراطية العلمانية. وإذا انتخبت في هذا المنصب فسأحرص من دون شك على أن تحترم هذه المبادئ... والتباينات» في المجتمع التركي.
وبهذا أراد حزب العدالة والتنمية أن يحقق توازناً بين الغرب عبر المحافظة على العلاقات الطبيعية مع إسرائيل، والشرق بإقامة مشاريع اقتصادية مشتركة مع رؤوس الأموال الإسلامية داخل تركيا وخارجها، في محاولة منه لكسر احتكار الجهات الغربية واليهودية للمشاريع الاقتصادية، وخصوصاً أنه استطاع جذب الأموال العربية إلى تركيا التي قُدّرت بـ20 مليار دولار، مقابل حجم الأموال الساخنة الناشطة في تركيا في العامين الأخيرين (2005-2006) والمقدرة بـ50 مليار دولار. وهو ما أشار إليه غول في تصريح قال فيه «إن تحقيق نمو في الاقتصاد بمعدل 35% في السنوات الأربع الماضية إنجاز يتحدث عن نفسه». وفي ضوء هذا الواقع سيبقى الترقّب سيد الأحوال في أسواق المال العالمية لما سيسفر عنه الجدل الدائر بين العلمانيين والإسلاميين في تركيا، وذلك خشيةً من ازدياد التوتر في الدولة العضو المنتظر في الاتحاد الأوروبي.
* كاتب سوري